اكتشف العالمُ السّحر الكامن في قلب مشروع عبد الرزاق غورنه، هذا ما يقوله بشير أبو منّة، رئيس قسم اللغة الإنجليزية في جامعة كِنْت التي درّس فيها جنباً إلى جنب مع غورنه لسنوات عدة.
كتبها جويس هاكل لـ The World وترجمتها لنا رهام درويش.
تم منح جائزة نوبل للأدب لعبد الرزاق غورنه المولود في زنجبار والمقيم في بريطانيا، وهو مؤلف عشرة روايات والعديد من القصص القصيرة. قال الكاتب المخضرم أنه صُدم عند علمه بنبأ فوزه، فقد أخبر وكالة الأنباء البريطانية BBC أن الأمر كان بمثابة “سماع صدمة مفاجئة تبث الرجفة في الجسد”. أشادتْ لجنة نوبل بغورنه وبـ “استكشافه الحسّاس وغير المُجامِل لآثار حقبة الاستعمار ومصير اللاجئين في الخليج الواقع بين الثقافات والقارات”.
أمضى غورنه أغلب سنين رشده في المملكة المتحدة، إذ وصل إليها لاجئاً عام 1960. يخبر غورنه BBC أن الكتابة عن بُعد منحته فرصة الاعتماد على مخيّلته، فيقول: “هذه أشياء مخزّنة في ذهني، المكان الذي نشأتُ فيه والذي إليه أنتمي. بشكل ما، أعتقد أن ما من شيء غريب أو غير معتاد في أن يحتفظ الأشخاص الذين تنقلوا أو هُجّروا أو اختاروا المنفى بكل شيء في أذهانهم. إذ يبقى شيء منكَ هناك، في المكان الذي تركت، تماماً كما يشعرون تجاه المكان الذي يتواجدون فيه”.
يرأس بشير أبو منّة قسم اللغة الإنجليزية في جامعة كِنْت، حيث درّس هو وغورنه جنباً إلى جنب لسنوات عدة. تحدث أبو منّة إلى ماركو ويرمان مقدم برنامج “ذا وورلد” عن رأيه بإنجاز زميله الهام.
يقول أبو منّة: “لقد اكتشفوا السّحر الكامن في قلب مشروع عبد الرزاق، هذه القدرة على الجَمع بين الشعور بالاستقلال الذاتي والسّعي وراء الحرية وهو ما يتقاطع مع تاريخ كبير وعمليات موضوعية. فهذه القدرة على سرد القصص الفردية من أفريقيا ومن زنجبار، هذه الجزيرة الصغيرة جداً في شرق أفريقيا، والعمل على ربطها بأشخاص لهم قصص أكبر تتعلق بالهجرة والمنفى واللاجئين والتشرد وعنف الاستعمار والعبودية عبر التاريخ. أعتقد أن هذه القدرة هي التي لفتت انتباه لجنة نوبل.”
كذلك يلاحظ أبو منّة نزعة اللين الواضحة في أسلوب كتابة غورنه، فيقول: “لدى غورنه أسلوب كتابة بسيط جداً بحيث أنه لا يحدث الضجّة. فهو واقعي ملتزم تماماً بالبحث عن الحقيقة، ومهتم للغاية بالجوهر الحقيقي للأشياء وبمنح التقدير للأفراد والمجتمعات والمجتمع ككل. كما أنه يستخدم صوتاً واثقاً جداً رزيناً يملؤه الالتزام الأخلاقي، كما أن لديه وضوح أخلاقي مطلق. أعتقد أن هذه من ضمن الأسباب التي تميز أعماله”.
عندما تجلس لقراءة أحد كتبه، ما الذي تجده فيه ولا تجده في أي كتاب آخر؟
أعتقد أن لعبد الرزاق غورنه وتيرة بطيئة في الكتابة تمكنّك من استكشاف عالم بأسره لا شخصاً بعينه فقط. فيتيح لكَ فرصة اكتشاف تاريخ بأكمله ويسمح لك شيئاً فشيئاً بفهم وجهة نظر الشخصيات التي يتحدث عنها من زوايا مُطّلعة على الأحداث، كذلك يعرّفك على الخيارات الصعبة التي يتوجب على كل من الشخصيات اتخاذها، ويمنحك الفرصة لفهم المكوّنات التي يصعب على الشخصيات التحكم أو الإتيان بها. لذا، فهو يساعدك على فهم الحالة التي يمر بها شخص آخر من خلال إبطاء الأحداث وإبداء الكثير الكثير من الحذر عند تقديم التفاصيل وشرح وجهات النظر. ينتهي الحال بما يبنيه غورنه بتأنٍ على هيئة عالم متكامل، عالم يتعرض إما للتدمير والضياع أو للتقدير والاستمتاع.
إذا كان بوسعك ترشيح إحدى رواياته لنا، فأيّها تختار؟ وهل يمكنك أن تقدم لنا موجزاً سريعاً عن أحداثها؟
أعتقد أنني سأختار روايته Paradise التي كتبها عام 1994 والتي تم اختيارها آنذاك للقائمة القصيرة لجائزة بوكر في المملكة المتحدة. فهي رواية عن طفل يتم إرساله لشخص يدين لوالديه بالمال ليعمل لديه، فنتعرف على مسيرته التي تُروى من وجهة نظر طفل في أفريقيا في بدايات القرن العشرين أثناء تحوّل القارة من مرحلة الاستقلال الذاتي وقدرتها على التحكم بمصير نفسها إلى أفريقيا الواقعة تحت حكم الإمبريالية البريطانية والألمانية، فتسردُ الرواية تلك الحكاية ببراعة. أعتقد أن أهم ما تقوم به هذه الرواية بحرفيّة هو قدرتها على تقديم ما لا يقتصر على الأشكال الخارجية للاضطهاد والسلطة المؤثرين على القارة، إنما تقديم الاضطهاد وانعدام الحرية الداخليَين كذلك، كالمظالم الفردية التي تعد أساسية لمنظوره وللطريقة التي يعبّر فيها عن أنواع المعاناة وآلام أبناء القارة وزنجبار، ما يجعلها رواية بالغة الأهمية.
تنطوي أعمال غورنه على الكثير من الأحداث التاريخية. في هذه الأيام لا شك أن العالم يصارع العنصرية بشدّة، إضافة إلى محنة الكثير من اللاجئين والأثر طويل الأمد للاستعمار. كيف تحاكي أعمال غورنه أحداث هذا الزمان؟
يبرز في أعماله بوضوح مفهوم التمركز حول الكرامة الفردية، أنّ عليك معرفة القصة وفهم الحكاية. أن عليك فهم العالم من وجهة نظر المحرومين والمهمشين والمعذبين. فتتحدث عن عبور الحدود ومحاولات كسب العيش ومحاولات بدء حياة في مكان جديد بعيداً عن الوطن، كل ذلك جرّاء الضغوط السياسية. أعتقد أن هذه أبرز قصص القرن الحالي والقرن العشرين. وهذا يرتبط بالطبع بالاستعمار وما نجم عنه من تشريد وحرمان، كما يرتبط كذلك بالمنفى والبُعد عن الوطن وخسارة الوطن وخسارة منزل العائلة وخسارة العلاقات الشخصية. كما أن هناك بُعداً إيجابياً لأعماله يتمثل في فكرة التكيّف ومحاولة العثور على وطن جديد والانتماء له نتيجة لهذه الأحداث الخارجة عن الإرادة. هكذا تجد شيئاً من العقلانية في أعماله.
ماذا تعلمت من أعمال غورنه عن الجِراح العميقة التي خلّفها الاستعمار وكيف أنها لا تزال حاضرة بعمق في طريقة تأثيرها على النفس، وهو ما قد نغفل عنه هنا نحن في الغرب؟
تعلمت معنى أن يتم إبعادك عن تاريخك وإدماجك في تاريخ جديد بقوة، تعلمت معنى العنف في ذلك. ليس العنف فحسب إنما الآثار الدائمة التي تنجم عن ذلك. فكرة أنك لا تستطيع العودة إلى زمن ما قبل الاستعمار الضائع والذي تعرض للتدمير في نهاية المطاف، بل أن هناك استمرارية بين هذين الأمرين. مفهوم أن ما نصبوا إليه سواء قبل الاستعمار أو أثناءه أو بعده هو تحقيق الاستقلالية والحرية الفردية التي يسعى إليها الناس، أن يتمكنوا من تشكيل حيواتهم بطرق تسمح بتحقيق العدالة والتطور الشخصي. هذا ما تعلمته منه أثناء عملي عن قرب معه. لذا، أُتيحت لي فرصة جيدة لمشاهدته وهو يحدّث الجيل الجديد من الطلاب عن الإمبريالية والاستعمار البعيدين كل البعد عن تجاربهم. فهم لا يعرفون أوجه هذه الأحداث ولا يشعرون بالذنب حيالها بسبب التراث الأبوي وما إلى ذلك.
بما أنك عملت معه في جامعة كِنْت، هل لكَ أن تشاركنا إحدى قصصك المفضلة عن عبد الرزاق غورنه؟
كانت المرة الأولى التي أشاهده فيها مدرّساً. كنتُ مبهوراً وأنا أرى تأثيره على الطلاب، بقدرته وهدوئه وصوته الرزين. أبهرتني قدرته على إيصال التاريخ المعقد للطلاب، وكيف تحدّث عن أمور بالغة الألم وهو أمر في غاية الصعوبة في وسط تملؤه الحجج الدفاعية وسوء الفهم اللذين يحيطان بهذا التاريخ. لكن قدرته على التقاط قصة واحدة، رواية واحدة، عبارة مجازية واحدة ومزج ذلك مع افتراضات ومفاهيم نظرية في غاية التعقيد أحياناً، كان ذلك ساحر تماماً. كان بوسعك أن ترى أثر ذلك على الطلاب طوال الوقت. هناك إدراك عميق لما مثّله غورنه بالنسبة لهم، هذه القدوة المتمثلة في شخص مهيب ملتزم أخلاقياً يسعى لمصارعة آلام ومعاناة العالم بطريقة ملؤها الكرامة. أعتقد أن هذا ما بَرع فيه. اعتقد الطلاب أنه معلّم مذهل لأن جلّ ما كان يحاول إيصاله لهم أن عليهم أن يفكروا بكل شيء بأنفسهم. أن علينا أن نقدم لك الحقائق التاريخية وأن نشرح أحداث الاستعمار والإمبريالية وأشكال القهر المتعددة حول العالم، لكن عليك في نهاية الأمر أن تستخلص العبرة لنفسك بنفسك. هكذا كان يعبّر عن احترامه لهم بصفتهم مفكّرين وقد شعروا هم بهذا الاحترام، لهذا رغبوا دائماً في استكمال الحوارات معه.