خمسة أفلام وثائقية حديثة الإنتاج، تروي وقائع ومصائب وانشغالات، عربية ودولية. تعاين هموماً فردية، كجزءٍ من قراءة بصرية لجماعة وبلدٍ واجتماعٍ وعلاقات. تُفكِّك أحوالاً مرتبطة باليومي، اجتماعياً وسياسياً ومعيشياً، في حربٍ عسكرية مباشرة، أو في مناخ سياسي متوتّر، أو في حالةٍ لاحقة لانتفاضة شعبية سلمية.
فلسطين حاضرةٌ في فيلمين، أحدهما ـ “فلسطين الصغرى، يوميات حصار” (2021، 83 دقيقة) لعبدالله الخطيب ـ معنيّ بمخيم اليرموك في دمشق، في حصاره من جيش النظام الأسديّ، مع ما يصنعه الحصار من قهرٍ وإذلال وموتٍ وخرابٍ. ثانيهما ـ “كما أريد” (2021، 86 دقيقة) لسماهر القاضي ـ يعكس فلسطين بجنسية المخرجة، متناولاً مسألة التحرّش في القاهرة، زمن “ثورة 25 يناير” (2011).
واقع العاملات الأجنبيات في الخدمة المنزلية في لبنان، يتناوله “غرفة بلا منظر” (2021، 73 دقيقة) للإسبانية روسر كوريّا، بجوانب مختلفة، قانونية واجتماعية ومسلكية وتربوية ونفسية؛ بينما تذهب الإيرانية فيروزه خسرواني، في “راديوغراف عائلة” (2020، 82 دقيقة)، إلى سيرة والديها، معطوفة على سيرة بلدٍ ينتقل من حكم إمبراطوريّ إلى ثورة إسلامية، مصحوبة بقمعٍ وتبديل جذري لأنماط الحياة، مع تأثيرات التبديل على العائلة، كنموذج أساسيّ لعلائلاتٍ كثيرة. أما السياسي، فلن يتفرّد لوحده بـ”رئيس” (2021، 115 دقيقة) للدنماركية كاميلا نيلسن، رغم أنّ الفيلم معنيّ بمرافقة نلسن شاميسا (40 عاماً)، في مساره بين النضال الطالبيّ والمعارضة المدنية والسلمية والانتخابات الرئاسية، في بلده زيمبابوي. السياسي فيه معقودٌ على معاينات متنوّعة لبيئة وأناسٍ وتاريخٍ ومواجهات.
شهادات حيّة
الأفلام الخمسة تُعرض في النسخة الثامنة لـ”أيام فلسطين السينمائية”، التي تُقام بين 3 و8 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، في القدس ورام الله وبيت لحم وغزّة وحيفا. أفلامٌ تُحيل الوثائقي إلى شهادات حيّة عن بلدانٍ تعاني أهوالاً، وتقاليد راسخة تُصبح أقوى من نظام وقوانين (لبنان وزيمبابوي ومصر)، وثوراتٍ تتحرّر سريعاً من خطابها، وتنقلب على تفكيرها وأهدافها، محوّلةً البلد إلى محمية خاضعة لتسلّط ديني باسم “الجمهورية الإسلامية في إيران”؛ وأخرى تواجِه حقداً سلطوياً يبتكر أساليب مختلفة للإمعان في القتل والتعذيب والإلغاء، ممارساً هذا كلّه ضد شعبٍ يريد تغييراً وإصلاحات وكرامة، فيثور سلمياً قبل أنْ تغتاله السلطة في حربٍ مفتوحة (مخيم اليرموك).
ينقل عبدالله الخطيب، في “فلسطين الصغرى”، يوميات حصار أسديّ لمخيمٍ فلسطيني. يُصوّر تفاصيل عيشٍ يزداد صعوبة يوماً تلو آخر. يتجوّل في أزقّة ومنازل وفضاءات مفتوحة على خوفٍ وتحدّيات وابتسامات خفرة وحفلات مجتزأة، وعلى مرضٍ وشيخوخة وذكريات. يلتقط مسام الضغوط والارتباكات المنعكسة في وجوهٍ وملامح ومسالك وعلاقات. يؤرشف تلك اليوميات كمن يُحوّل الصورة إلى نبضٍ، جاعلاً إياها نواة حكاية معلّقة في مسار الزمن والجغرافيا. الخروج من المخيم جزءٌ من خاتمة وثائقية، يُصبح (الجزء) منطلقاً لالتباسات المُقبل من الأيام.
الانتماء إلى هوية فلسطينية يُحرِّك سماهر القاضي، في رحلتها ـ الجغرافية والروحية والاجتماعية ـ في القاهرة، مع بدايات “ثورة 25 يناير”. المتابعة الدقيقة لمسألة التحرّش ـ الحاصل في شوارع التمرّد الشعبي بسبب نفوس رجالٍ وشبابٍ، تنبثق من موروث ضاغط ـ تعود (المتابعة)، في لحظات سينمائية عدّة، إلى حيّز حميمي في ذات المخرجة وتفكيرها وسيرتها، كفلسطينية مُقيمة (حينها) في القاهرة. التداخل بين الفلسطيني في سماهر القاضي، والتحرّش في “ثورة” شابات ونساء مصريات، يصنع فيلماً عن لحظة تاريخية، وعن سلوكٍ مسيطرٍ بقوة على نفوسٍ كتلك.
الضغوط والارتباكات التي يعيشها فلسطينيو “مخيّم اليرموك”، بعد وقتٍ على بداية الحراك الشعبي السوري، السلمي والعفوي والمدني (18 مارس/ آذار 2011)، تتشابه وضغوط وارتباكات تعانيها نساء وشابات مصريات، في لحطةٍ يُفترض بها أنْ تنقلب على حكمٍ جائر في السياسة والاقتصاد والأمن والتفكير والعيش والعلاقات، وعلى نفوسٍ منغلقة على موروثٍ متشدّد وقاسٍ في معنى ومقاربة العيش والعلاقات، كما في حضور المرأة في الجوانب كلّها للحياة. الحساسية الفلسطينية منطلقٌ لعبدالله الخطيب في معاينته أحوال مخيم مُحاصَر، وفي مراقبته تحوّلات أبنائه وبناته في مواجهتهم اليومية انهيار كلّ شيء حولهم. الحساسية نفسها تُحرِّك سماهر القاضي، بشكلٍ أو بآخر، في مواجهتها تفكيراً متزمّتاً، وتشاوفاً ذكورياً عنيفاً، غير مختلفين كثيراً عن تفكير نظامٍ قاتل وتشاوفه على أناسٍ يريدون حقوقاً فيُطالبون بها سلمياً، قبل أن تُشَنّ حربٌ عليهم تُشبه الإبادة.
تحوّلات
التحوّلات، متنوّعة الأشكال والأساليب والمسالك، التي يُدركها اجتماعٌ فلسطيني سوري مصري، لحظة انتفاضة أناسٍ من أجل حقّ مهدور، تُشبه بدورها تحوّلات اجتماعٍ تُصيب بلداً وشعباً، فتذهب بهما إلى اختبارات حادّة في مواكبة مسار ثورة يقودها رجل دين، ويُشارك فيها يساريون وعلمانيون، قبل انقلاب الأقدار الدينية على هؤلاء. التحوّلات تلك، الحاصلة في إيران مع ثورتها الإسلامية الخمينية، تنكشف تدريجياً من خلال صُور ولقطات مستلّة من ذاكرة امرأة تروي حكاية والديها، التي تتماهى ـ إلى حدّ كبير ـ مع حكاية بلدها. الانتقال من ثقافة عيش في امبراطورية الشاه إلى قواعد دينية متشدّدة، يترافق مع تحوّلات جذرية في تفكير والتزامٍ، تعكسها والدة فيروزه خسرواني، الراغبة في اعتناق الثورة الإسلامية، ثقافة وإيماناً وسلوكاً وعلاقات، ويواجهها والدها المتمسّك بليبرالية وعلمانية، يزداد حضورهما فيه بعد الثورة، وإزاء الانقلاب في شخصية الزوجة الأم. وفرة الحكايات والحالات والمعاينات، المتراكمة في ذاكرة الابنة المخرجة، يُثري “راديوغراف عائلة” بمادة بصرية وسردية، تخرج من الحيّز الضيّق لعائلة صغيرة، إلى المساحة الأوسع لبلد وناسه.
بعض هذه الانقلابات والتحوّلات يحضر أيضاً في “رئيس”. زيمبابوي، كبلدان أخرى، يعاني قمعاً وتسلّطاً يحكمان البلد ويتحكّمان بشعبه. المواجهة ديمقراطية، فكثيرون يريدون تغييراً حقيقياً، يطلبونه سلمياً، وعبر انتخابات رئاسية “نزيهة”. كاميلا نيلسن تمضي أعواماً في قلب الأحداث، لتوثِّق مرحلة حيوية ودقيقة في تاريخ البلد وناسه. معطيات وحقائق تُذكر كتابةً، والنواة الحكائية الأساسية معقودة على نلسن شاميسا.
الشخص يجذب تفاصيل كثيرة غير مرتبطة كلّها فيه. هناك بلد وتاريخ وشعب، وهناك سياسة وأحزاب وسلطة وأموال واقتصاد وإعلام. هذه تفاصيل تُشكِّل نسيجاً بصرياً لسيرة شاميسا ومساراته وعلاقاته بناسه ورغباته في تغيير فعلي. كاميلا نيلسن توثِّق، وفيلمها يأخذ من التوثيق مادةً تجعلها أقرب إلى التحقيق التلفزيوني ميتن الصُنعة، من دون حاجة إلى إضافات سينمائية. هذا غير منتقصٍ من قيمة التوثيق واشتغالاته الفنية والبصرية، على نقيض “فلسطين الصغرى” و”كما أريد” و”راديوغراف عائلة”، خصوصاً فيلم فيروزه خسرواني، لامتلاكه مواداً فنية وبصرية تُكثِّف السرد، وتمنحه جمالية السينما في اشتغالات الوثائقي. مزيج الحميميّ بالعام، في “كما أريد”، يؤسِّس النص البصري الوثائقي للحكاية برمّتها، وغلبة الذاتي، في فيلم عبدالله الخطيب، دافعٌ إلى ما يُشبه التأريخ السينمائي للحكاية الفلسطينية في سورية، وللتاريخ الفلسطيني للحكاية قبل سورية.
رغم وضوح جانب الضغوط والارتباكات فيه، يختلف”غرفة بلا منظر” قليلاً، إذْ يُخرِج التسجيلي التوثيقي من واقعية السرد، صانعاً منهما ـ بسلاسة وخَفرٍ ـ فيلماً يُدين ثقافة فيها من العنصري والمتزمّت والمتعالي ما يحتاج إلى تكسيرٍ غير حاضرٍ في الواقع. حكاية العاملات في الخدمة المنزلية في لبنان مُثيرة لأفلامٍ عدّة، عددها قليل قياساً إلى حجم الكارثة التي يعيشها معنيون كثيرون بالحكاية: الخادمات، والناشطون والناشطات، والحقوقيون والحقوقيات، والعاملون والعاملات في مكاتب الخادمات، والعائلات.
إحدى ميزات الاختلاف بين “غرفة بلا منظر” والأفلام الأخرى تكمن في أسلوب توثيقي يتمثّل بإخفاء وجوه الأفراد المشاركين في الفيلم، باستثناء خادمات يروين فصولاً من معاناتهنّ، وسيدات قليلات، يتحدّثن عن علاقاتهنّ بالخادمات، ونظراتهنّ إليهنّ. كلام كثير يُقال، عن عمارة حديثة تٌخصِّص غرفاً من دون نوافذ للخادمات (غرف بلا مناظر)، وقوانين غير مُنفّذة كلّياً، أو تكون عاملاً مساعداً، وإنْ بشكل غير مباشر، على التحايل والتسلّط والإساءة؛ وعن علاقات جنسية يغلب عليها الاعتداء الجسدي.
أفلامٌ كهذه، تُعرض في “أيام فلسطين السينمائية 8″، تكشف جوانب أساسية من مسألتين اثنتين: غليان قاتل في اجتماع وسياسة وعيشٍ وعلاقات وبشر وأمكنة؛ واشتغالات سينمائية تُتقن إخراج الغليان من سذاجة التصوير المُسطّح، جاعلةً من الحكايات منافذ إلى صناعة بصرية وثائقية، تمزج السينما ـ بجمالياتها وأدواتها ومفرداتها ـ بوقائع العيش في جحيم الأرض. وهذا لن يحول دون تبيان الاختلاف في آليات المعالجة والاشتغالات.