لعلّ من أنسبِ ما يتبادرُ إلى الذهن بعد الانتهاء من مُشاهدة فيلم «فلسطين الصغرى» الوثائقي التسجيلي، للمخرج عبد الله الخطيب، بيت الشعر الذي كتبهُ الشاعر العراقيّ الراحل محمد مهدي الجواهري في قصيدة «أيها الأرقُ» ويقول فيه:
أنا عندي من الأسى جبلٌ … يتمشّى معي وينتقلُ
ذلك الأسى الفلسطينيّ الذي لم يسقط بالتقادم، ولم تُفقدهُ تاريخيّتُهُ لا الراهنيّةَ ولا الطزاجةَ، كأنما ثمّة قدريّة ما، تُلاحقُ هذا الشعب منذ أكثر من سبعين عامًا في حلّهِ وترحاله.
يمتدّ الشريطُ السينمائي «فلسطين الصغرى» على تسعين دقيقة، صُوِّرت بكاملها داخلَ مخيّم اليرموك للاجئين الفلسطينيين، جنوب العاصمة السورية دمشق، في الفترة ما بين ٢٠١٣ – ٢٠١٥، وهي الفترة التي فرض خلالَها النظامُ السوريّ وحلفاؤهُ حصارًا خانقًا على من تبقّى من سكّان المخيّم (قُدّرَ عددهم بنحو ٤٥ ألفًا)، ويجمعُ ما بين التوثيق والتسجيل معاً.
التوثيق، بما يحملهُ من معنىً عام، يسعى الفيلم من خلاله لأن يكون وثيقةً دالّةً على معايشة السكّان لواحدة من أقسى فصول رواية الإنسان الفلسطينيّ منذُ احتلال بلاده.
والتسجيل، بمعناهُ الأكثر خصوصيّة من عموميّة التوثيق، مستمدٌّ من نصوصٍ كتبها المُخرجُ وجمعها لاحقًا في كتاب «قواعد الحصار الأربعون»، ومستمدٌّ، بالتوازي، من كون مخرجِ الفيلم، هو أحد أبطاله. وإذا كان يصحُّ إطلاق صفة البطولة على المُحاصَرين، فقد كان الخطيب أحد أبطال الحصار أيضًا.
غيرَ أنّ المخرجَ لم يصنع فيلمًا عن نفسهِ، ولا عن والدته، أم محمود، الممرضة المتطوعة، والسيدة التي تُشبهُ «بابا نويل الحصار» بالنسبةِ للكهول والأطفال المحاصرين في مربّعٍ ضيّقٍ خانقٍ، لا يتّسعُ لأملٍ ولا مجالَ فيهِ للتفكيرِ بأكثر مما يُمكنُ أن تحملهُ هذه المرأة للكهولِ من أدويةٍ تمدّ حياتهم المؤقتة ساعاتٍ إضافيّة. وبوالينَ وسكاكرَ للصغار، الذين حين سألهم المُخرجُ في نهاياتِ فيلمه عما يحلمون به أجابَ أحدهم بأنّه يحلمُ بأن يرى أمّهُ ويأكل الخبز، بينما أجابَ آخر بأنهُ يحلمُ بأن يأكل السكّر!
وإذا كانَ رياض الصالح الحسين قالَ في قصيدتهِ «قلبٌ مكسور» قبل نحوِ أربعينَ عامًا:
اجمعِ الرجال وقل لهم:
نحنُ لسنا لصوصًا
إننا نعملُ ثماني ساعاتٍ في اليوم
ومن حقّنا أن نأكل السفرجل.
…
فقد يصحُّ التساؤلُ عمّا فعلَهُ سُكّانُ المُخيّمِ لكي يستحقّوا عليه حصارَ الجوع؟ ما الذي فعلهُ الأطفالُ ليحلموا بالسكّر؟!
تاريخيًا
أُنشئَ مخيّمُ اليرموك في العام ١٩٥٧ بقرارٍ من الحكومة السورية، على قطعة أرضٍ لا تتجاوزُ ٢،١ كم، في ضواحي العاصمة الجنوبية. ليحتضَ قسمًا من اللاجئين الفلسطينيين الذين كان عددهم في عمومِ سوريا عام ١٩٤٨ حوالي ٧٥ ألف لاجئ، جاء أغلبهم من مدن الشمال الفلسطيني وتوزّعوا على أربعة عشر مخيّمًا على الأراضي السورية، وقد كان اليرموك أكبر هذه المخيّمات. ومع مرورِ الزمن اتسع المخيّم وازدادَ عدد سكّانه باضطراد، حتى باتَ نقطة اتصالٍ مباشرة تربطُ الأحياء الجنوبية بقلبِ العاصمة.
في ثمانينيات القرن الماضي تحوّل اليرموك إلى ملاذٍ آمنٍ للمعارضين السوريين الذين يحاولون التخفّي عن أعين المخابرات وأذرع النظام التي تحاولُ أن تطالهم. على أنّ نسبةَ الفلسطينيين القليلة والتي لم تتجاوز ١٥٪ من سكّان المخيّم مع بدايات الثورة السورية عام ٢٠١١، لم تُفقد المخيّم فلسطينيّتهُ، وإمكانيّات هذه الفلسطينية من لعبِ دورٍ كان يعزُّ على المدن والأحياء السوريّة نفسها أن تلعبه خلال الانتفاضة. فرمزيّة اليرموك، ورغبة أهله في الوقوف إلى جانب الشعب السوري، جعلتاه يعودُ إلى الدورِ الذي لعبهُ في الثمانينيات، بأن يكون ملاذًا للهاربِ والنازح والفاقد والمستجير. وعلى الرغمِ من تمييز أغلبية فلسطينيي اليرموك للحقّ من الباطل، وعلى الرغم من أنّ كثيرين منهم كانوا يشاركون السوريين في احتجاجاتهم التي اجتاحت البلاد، إلّا أنّ المُخيّم بذاتِهِ ظلّ هادئًا نسبيًا، محافظًا على نفسهِ كمكانٍ يُمكنُ للمحتاجين الاستفادة منه، ومحافظًا على سكّانه الذين خبِروا جيدًا مآلات التدخل في شؤونِ دولِ لجوئهم. إلّا أنّ “أحداث الخالصة” (المُربّع الأمنيّ للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة) في السادس من حزيران عام ٢٠١١، والتي تلت استشهادَ أربع وعشرينَ شابًا برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي في الجولان، قبل ذلك بيومٍ واحد، غيرت قواعدَ اللعبة قليلًا، إذ حَمّل سكّانُ المخيّم مسؤولية استشهاد هؤلاء لمن شجّعهم ودفعهم للذهاب إلى الجولان، تخفيفًا للاحتقانِ في سوريا، ولإشغال الرأي العام السوري والعربي، بالقضية التي لا تعلو عليها قضيّة: فلسطين.
قواعد اللعبة تلك، تغيرت كليًا بعد أن قصفت طائرات الميغ التابعة للنظام السوري، مخيّم اليرموك في ديسمبر ٢٠١٢، ليرى العالمُ بأسرهِ صورةَ التهجير الفلسطينيّ الجديدة، في مشهدٍ ذكّرَ بالخروج الأول.
فهل ثمّة أسىً قدريّ أكثر من هذا؟
بدأ حصار اليرموك في حزيران ٢٠١٣، ودارت كاميرا المخرج عبد الله الخطيب، وكاميرات أصدقائه، لرصد تفاصيل الحياة اليومية، وتوثيق الجريمة المنظمة التي يتعرّض لها السكّان. ثمّة تدرّجٌ وتسلسلٌ منطقيّ في الفيلم، ليس للأحداث فحسب، إنّما للصراع النفسيّ الذي يخوضهُ الأفرادُ مع الحصار، ومع أنفسهم في الحصار، وقد عبّر التعليق الصوتيّ المرافق للصورة، والمأخوذ، كما أسلفنا، من يوميّاتٍ كان يكتبُها المخرجُ، عن ذلك الاصطراع بدقّةٍ وبلاغة، رغم سقوطِهِ أحيانًا في فخاخ «الكليشيه» التي لم تُنقص من جماليته. يقولُ المخرجُ، الذي أكّدَ دائمًا في تعليقه على ضرورة الحفاظ على الإنسانيّة، إنّ الحصارَ يُخرجُ كلّ كوامنِ النفس البشرية وتناقضاتها معًا:
«سيدفعُكَ الخيرُ للركضِ وراء الصواريخ، كي ترفعَ الرّكامَ عن طفلٍ تركهُ أهلهُ عندما هربوا من صوت الطائرة.
وسيغريكَ الشرُّ لبيعِ حليبِ الطفلِ ذاتهِ كي تشتري لفافةَ تبغ».
مع مرور أيام الحصار، ونفاذ كل ما من شأنهِ أن يُبقي الناس على قيدِ الحياة، أو الأملِ بالحياة، تضطرمُ الأفكارُ في رؤوس المحاصَرين، أفكارٌ لم تصل، في حالةِ اليرموك، إلى تلك الحلول والحيل النفسيّة التي شغّلت مخيّلة محمود درويش في «حالة حصار» على سبيل المثال، حين رأى أنّ الحصار قد يمتدُّ «إلى أن نُعلّمَ أعداءنا نماذجَ من شعرِنا الجاهليّ»، فأعداؤنا هذه المرّة يحفظونَ ما نحفظهُ من قصائدَ وأغنيات، واليرموكيّون المُحاصَرون كانوا يُفكّرونَ بما هو أبسط من ذلك، كانوا يُفكّرون بالخبز…
لم يخفْ عبد الله الخطيب في فيلمهِ من تمديد الصورة. كانت اللقطاتُ طويلةً منذُ بدايةِ الفيلم، كأنما أراد أن ينقلَ المشاعر التي تعتملُ في نفوس المُحاصَرين إزاء الوقت. الوقتُ في الحصار طويل، والسّاعاتُ تبدو ذائبةً لشدّةِ الانتظارِ كساعات سيلفادور دالي في الصحراء. ألم يقُل الوصفُ الشعبيُّ للانتظار: طويلٌ مثل يومٍ بلا خبز؟!
ذلك اليومُ الذي بلا خبزٍ عاشهُ ما تبقّى من سُكّانِ اليرموك لسنتين. وكانت حصيلتهُ، وفق الفيلم، سقوط ١٨١ شخصًا متأثرين بالجوع والعطش ونقص الأدوية.
يختمُ عبدالله الخطيب فيلمهُ بمشهدٍ لرجلٍ، ظهرَ خلال الفيلم ثلاثَ مرّات: الأولى، في بداية الفيلم، حيثُ بدايات الحصار أيضًا، كان يرتدي بزّة رسمية، ويقومُ بدورِ الوجيهِ الاجتماعيّ خلال احتفالِ السكّانِ بزواجِ أحدهم. كانَ الرجلُ ضاحكًا، يُمازحُ الخطيب وباقي المحيطين. يحثّهم على الزواجِ وإن تحت الحصار، ولا تبدو عليهِ علائمُ التعب.
أما المشهد الثاني، فقد كان وسطَ حشدٍ من الناس أمام مبنى للأونروا، يُطالبُ باللغة الإنجليزية بفتحِ الطرق وإدخال الطعام والأدوية. وقد بدا أكثر إرهاقًا وغضبًا من المشهد الأول.
وأمّا المشهد الثالث، وهو آخر مشهدٍ في الفيلم، فقد كان الرجلُ يجلسُ، مُنهكًا، وعليهِ علائمُ الحصار الخانق، أمامَ موقدٍ ناريّ، يُغنّي، بصوتٍ مخنوقٍ بدايةً: I will hold you in my arms forever and liberate you Palestine ، قبل أن يفقدَ تمالكهُ لنفسهِ ويبكي…
تلكَ كانت نهاية حكاية «فلسطين الصغرى» لعبدالله الخطيب. الحكاية التي تستحقُّ أن تكون إحدى أبرز وأهمّ الوثائق على ما لحقَ بالناسِ من ضرر خلال سنوات الجحيم السوريّ الأخيرة.
لعلّ فلسطين الكبرى، التي يُعرضُ الفيلم على أرضها ضمن فعاليات الدورة الثامنة من مهرجان «أيام السينما الفلسطينية»، تحظى بنهايةٍ أفضل من التي حظيَ بها اليرموك، «فلسطين الصغرى» أو «عاصمة الشتات» كما يحلو للفلسطينيين تسميته.