قبل العرض والحفل الختاميّين، لمهرجان “أيام في فلسطين السينمائية” بساعات، اقتحم، أمس الإثنين، جيش الاحتلال الإسرائيلي رام الله وتمركزت جيبات عسكرية عند أبواب مبنى قصر رام الله الثقافي. انتشرت صور لجنود الاحتلال في محيط المبنى لحظتها، كما انتشرت فيديوهات لشباب يرمون جيبات بالحجارة وسط رام الله. نشر المنظمون للمهرجان الصور على وسائل التواصل وأكّد مدير مؤسسة “فيلم لاب فلسطين” المنظِّمة للمهرجان، حنا عطالله، أنّ العرض الختامي سيبقى على موعده.
حتى كتابة هذه الأسطر، لا أسباب مباشرة مصرَّح بها لما حصل. اقتحم الجنود وانسحبوا من حول المبنى قبل الحفل بساعتين، في استباحة تذكيرية تنبيهية كما يبدو، بأنّهم المسيطر هنا. لكن لماذا عند مهرجان سينما؟
لنطرح السؤال معكوساً، فتتضح الإجابة: لماذا لا يكون ذلك؟ لماذا قد يستغرب أحدنا من اقتحام لجيش الاحتلال مهرجاناً أو عرضاً سينمائياً فلسطينياً؟ لا إجابات (جديدة) تُقدَّم هنا بل تأكيد على المُدرَك مسبقاً، وهو مكانة السينما في صراع الفلسطينيين مع محتلّهم.
استطاعت السينما أن تعبّر عن الفلسطينيين، عن وعيهم الوطني، عن هويّتهم، عن سرديتهم الكفاحية منذ أواخر الستينيات، وكذلك سينماهم الثورية التي صوّرت تلك الحالة الكفاحية التي عاشها الفلسطينيون (والعرب والأجانب في صفوف ثورتهم). منذ ذلك الحين، إلى اليوم، وإن بتفاوت نوعي وتواتر كمي، كانت السينما الفلسطينية واحداً من أوجه الكفاح الفلسطيني من جهة، وواحدة من صور هويّته من جهة ثانية.
الاحتلال يدرك المكانة التي للسينما الفلسطينية في تصوير أساليب كفاحه وتثبيت هويته، لكنه كذلك يدرك أن السينما هي الأقدر على نقل سردية الفلسطينيين، روايتهم للتاريخ، إلى العالم، بشكل لا يفعله لا الأدب ولا الفكر ولا غيره، لسبب تقنيٍّ هو الإتاحة والوصول الأوسع، الذي للسينما.
لم يدرك الاحتلال ذلك فجأة فبحثَ ووجد أن هنالك مهرجاناً فاستقلّ جنوده أوّل جيب لاقوه وتوجّهوا إلى حيث الحفل الختامي. إنّما، أراد، كما يبدو، التذكير فقط. لكن لمَ في هذه المناسبة تحديداً؟
السلطة الإسرائيلية مدركة تماماً أنّها تسيطر على كافة مرافق الحياة في الضفة والقدس، وأنّ لديها قوّة أمنية فاعلة تقوم بالمهام الموكلة بها، هي الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية، على أنواعها. وأنّ الاقتصاد والسياسة والأمن وكل ما يدور في فلكها يسير بما يلائم الاحتلال. تبقى الثقافة (باستثناء وزارتها) خارج هذه المعادلة. لكن لماذا المهرجان؟
ليس أمام الاحتلال كي يؤكّد على سيطرته، سوى مواقع الثقافة والفنون، المجالات الأقدر على مقاومته. من هذه الفنون، الأكثر إيصالاً للسردية الفلسطينية إلى العالم هي السينما، ومجموعة “قصص فلسطينية” التي أدرجتها “نتفلكس” في بثّها مثالٌ جيّد وجديد في إثبات فعالية السينما في نقل السردية. السينما قادرة على إزعاج الاحتلال، وهي قادرة على تصوير الكفاح والهوية الفلسطينيين، وهي سلمية تماماً، فعّالة تماماً، مرغوبَة تماماً.
“أيام فلسطين السينمائية” يجعل من السينما الفلسطينية هذه، مساحةً على الأرض. بهذا المهرجان، وغيره من المهرجانات داخل فلسطين من حيفا إلى غزة مروراً بالقدس، يثبّت الفلسطينيون قولهم بأنّ السينما، تلك الأشد إزعاجاً للاحتلال، ليست، وحسب، على الشاشات وفي أسواق المهرجانات وساحاتها ومنصاتها، وليست “حاضرة” من بعيد، بل هي هنا على الأرض، هي فعل جماعي كذلك، ممارسة محلّية، في المواقع التي فرض الاحتلال عليها سلطته السياسية والاقتصادية والأمنية. المهرجان هو تجسيد “أرضيّ” للسينما وتحويلها إلى مكان وزمان معلومين، الحدث فيهما هو تثبيت للهوية والكفاح الفلسطينيين في أرضهما. السينما، في المهرجان الفلسطيني، إثبات حضور للسردية النقيضة وأهلها في أرض محتلّة.
سيبقى الاحتلال مرتبكاً أمام الفنون بصفتها مقاومة، سيعرف أنّ تسويرَ مساحة لمنع حدث ثقافي لن يميت الحدث، لن يميت العمل الفني الذي يستضيفه الحدث، لن يميت السلوك للمجتمع المحلي في تكريم الفنون وإعلائها، وفي عيشها.
أسرعت الجيبات وتمركزت أمام المبنى، قالت “نحن هنا” وابتعدت. المهرجان أكمل برامجه، الأمسية مرّت كما يجب، والفنون، طالما حضرت على الأرض وبين الناس، وكانت فعلاً واقعياً، ستبقى تستحضر الجنود المرتبكين العائدين إلى ثكناتهم، كالضّباع الحائرة. ستبقى السينما صورةً مستحقَّة لهوية الفلسطينيين وكفاحهم على أشكاله.