محطات من شبكة سجون الأسد

ممالك الرعب والموت والجنون… امتقع وجه العميد

Vasiliy Ryabchenko, Deterrence, 1989

فرج بيرقدار

شاعر سوري

لم أكن أبتغي من إصراري على مقابلة رئيس الفرع سوى كسب بضع ساعات ريثما يأخذ رفاق القيادة إجراءاتهم واحتياطاتهم المتفق عليها في حال تخلُّف أحدنا عن أي موعد حزبي.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

17/11/2021

تصوير: اسماء الغول

فرج بيرقدار

شاعر سوري

فرج بيرقدار

تناهى إلى مسمعي وقع خطوات كثيرة، أعقبتها خبطات أقدام، كدلالة على تقديم التحية العسكرية، مترافقة مع أصوات “احترامي سيدي.. احترامي معلِّم”، ثم هبط صمت حجريّ ثقيل متربِّص.

بضع ثواني تشبه تصويراً بطيئاً لمظليّ قفز ولم تنفتح مظلته.

– اِرفعوا الطميشة عن عينيه.

لدي معلومات مسبقة عن أسماء وأشكال وأعمار ضباط الفرع، ولا شك أن الرجل الممتلئ والأشيب الجالس وراء الطاولة هو العميد مظهر فارس.

– أتريد أن أثبت لك أنني رئيس الفرع؟

– لا.. لا داعي.

– جيد أنك رجل عقلاني، ويسعدني أن نتفاهم بدون أن تتعرض لأي إهانة. 

ولكن قبل أن نبدأ أريدك أن تدقِّق في وجوه الموجودين. هل تعرف أحداً منهم؟

حين وقع بصري على عبد المحسن هلال، تلجلجت عيناه. هو من قرية “الدار الكبيرة” المجاورة لقريتنا، وكان معي في نفس المدرسة الثانوية، وأعرف مسبقاً أنه من ضباط الفرع، ولكني نسيت اسمه الأول في تلك اللحظة، ولم أرغب في أن أبدو غير واثق من معلوماتي، ولهذا قلت لرئيس الفرع: أعرف أبو هلال.

لا أدري ما المهمة التي كان سيكلَّف بها أبو هلال لو أنني لم أتذكره.

ابتسم رئيس الفرع وهو يقول: لقد عرفك يا أبو العبد.. لم تكن توقعاتك في محلّها.

العمى.. إذن أبو هلال هو نفسه أبو العبد الذي حاول أن يقوم بتمثيل دور رئيس الفرع!

أطال مظهر فارس التحديق بي، وبدا كما لو أنه يهزّ رأسه أو أفكاره داخل رأسه: 

– تعرف أن القانون يحكم على كل بعثيّ، تثبت عليه ازدواجية الانتماء الحزبي، بالإعدام.

– وما مناسبة كلامك.. أعني ما علاقتي به؟

– أنت بعثيٌّ أوَّلاً، ومن حزب العمل الشيوعي ثانياً.

– صحيح أني انتسبت لحزب البعث أثناء دراستي الثانوية، ولكني قدّمتُ استقالتي منه عندما كنت في بودابست عام 1975.

– ولكننا لم نقبل استقالتك، واسمك ما زال مسجلاً في قيودنا كرفيق.

– حتى لو لم يكن مسجَّلاً، فلا أحد يستطيع منعكم من تسجيله متى تريدون وفي أي حقل تريدون.

– على أية حال لسنا الآن في هذا الوارد، فنحن نريدك رفيقاً لنا وفي الموقع الذي تستحقه. أيناسبك أن تكون رئيس تحرير جريدة الثورة مثلاً؟

– قبل الحديث في أي أمر ينبغي لي القول أنني ما رفضت الكلام قبل أن تحضر إلا لكي أوفِّر عليكم وعلى نفسي عناء الخوض في مواضيع لا أعرفها ولا جدوى من إثارتها. ربما تعرف أني منذ ثلاثة شهور استقلتُ من قيادة الحزب، وبقيت على ارتباط خيطيّ مع أحد الرفاق عبر موعدٍ أسبوعيّ. أما قبل ثلاثة أشهر فلا أنكر أني كنت في قيادة الحزب وأحد أعضاء مكتبه السياسي.

– من أين لي أن أعرف بما تقول؟

– من عضو اللجنة المركزية فاروق العلي، الذي اعتقلتموه قبلي بشهور وانهار تحت التعذيب، ولا شك أنه اعترف لكم على مكان الاجتماع الأخير للجنة المركزية، وعما دار فيه من خلافات جعلتني أستقيل من قيادة الحزب.

واقعة استقالتي من اللجنة المركزية حدثتْ فعلاً، ولدينا في الحزب معلومة تؤكد أن فاروق ذكرها في التحقيق معه، غير أني قلتُ الواقعة ناقصة أو مجتزأة. لقد كانت خلافاتنا السياسية والتنظيمية على أشدها في ذلك الاجتماع، الأمر الذي جعلني أستقيل من القيادة وأعتزل اجتماع اللجنة المركزية احتجاجاً على خطة الحزب التصعيدية في مواجهة الخطة التي اقترحتُها ولم تنجح في الحصول على أكثرية أصوات أعضاء المركزية. كان أحد بنود خطتي يقتضي إرسال اثنين من المكتب السياسي وثلاثة من أعضاء المركزية، ليكونوا قيادة احتياطية في الخارج تحسباً من تعرضنا لضربة قد تصيب أحد اجتماعات المكتب السياسي أو اللجنة المركزية. ورغم أن فاروق العلي يعرف أني عدت عن استقالتي بعد أن وافقتْ المركزية على حل وسط يتضمن تسفير عضو واحد من المكتب السياسي واثنين من المركزية، إلا أنه لا يعرف بعد اعتقاله إن كنتُ بقيتُ في القيادة أم استقلت مجدداً. لا أحد في فرع فلسطين يستطيع أن يواجهني بوثيقة أو دليل ينفي استقالتي.

امتقع وجه العميد، ولكنه واصل عرض مروحة من الخيارات والإغراءات، بما فيها أن أقيم ستة شهور استجمام في إحدى سفاراتهم في أوروبا.

لم أكن أبتغي من إصراري على مقابلة رئيس الفرع سوى كسب بضع ساعات ريثما يأخذ رفاق القيادة إجراءاتهم واحتياطاتهم المتفق عليها في حال تخلُّف أحدنا عن أي موعد حزبي.

بعد طول مناورات ومراوغات أدرك العميد أنني لم أستجب للتهديدات ولا للإغراءات، فنهض وملامحه أشبه بحقل ألغام: 

– يبدو أنه سيظل بغلاً. شوفوا حسابكم معه. بدّي تكسّروا له أضراسه. 

قالها حازمةً جازمةً قاطعةً، ثم خرج. 

لم تكد خطواته تبتعد حتى عاد ليضيف: 

– فهمتوا كيِّس شو قلت.. قلت أضراسه وليس أسنانه.

غريب كيف انقلب مظهر فارس، خلال ثواني، من رجل هادئ وقور إلى رجل شيطاني السحنة متوتر الحركات. 

كانت فرائص ظهري كطيور مذبوحة تخفق وترتعد. طوال حياتي وأنا أكره الضعف، وها أنذا أضبط نفسي مطعوناً ليس بضعفي فقط، وإنما بخوفي أيضاً. 

حاولت أن أعزّي نفسي بأني كسبت وقتاً كافياً لتعرف قيادة الحزب أني لم أحضر إلى موعدنا الأساسي، ولا الاحتياطي الذي يتوجب أن يكون بعد ساعتين.

أعرف أنه ليس للبطولة أي معنى في هذا المعمعان. ولكني أعرف أيضاً أنه ليس للصمود من بُدّ.

يا سماوات ويا غيوب

يا نجود ويا وديان 

يا أدغال ويا غيوم ويا نايات

لِيذهبِ الحزن إلى أقصاه إن متُّ، وإلى أقصاه أيضاً إن بقيتُ حياً. 

الكاتب: فرج بيرقدار

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع