يتوقّف أحدنا أمام الأسماء والعناوين المشاركة باسم فلسطين في مهرجان “البحر الأحمر” السينمائي، السّعودي، بدورته الأولى، سائلاً: ما الذي يفعله هؤلاء؟ أو: ما المبرّر للحضور الفلسطيني هنا؟
لهذا السؤال مداخل عدّة يمكن لأحدها أن يتعلّق بالسياق الهزَلي (سياسياً واجتماعياً وثقافياً وفنياً) الذي تقرّرَ فيه إطلاق هذا المهرجان. يمكن لآخر أن يتعلّق بالسياق التراجيدي الذي نشاهد فصولَه في الحرب على اليمنيّين. فيقول الأوّل إن المهرجان هذا إهانة للسينما (العربية تحديداً) كفنٍّ وصناعة وثقافة، ويقول الأخير إنّ مقاطعته واجبة ردّاً لتضامنٍ يمنيٍّ تاريخي مع الفلسطينيين، بالتضامن معهم اليوم. لهذا السؤال مداخل غيرها تتعلّق، ببساطة، بملفّات حقوق الإنسان هناك. لكنّي لن أقارب الإجابة من خلال أيٍّ منها، وثلاثتها مشروعة، وسأبقى في “حدود” معنى السينما الفلسطينية، وفي معنى قضية فلسطين الحاضرة من خلال مشاركات متفاوتة في مستوياتها، في هذا المهرجان.
كي تتوضّح المسألة أكثر، هذا فرز بالمشاركات الفلسطينية كما يُظهرها موقع المهرجان: الروائي الطويل «صالون هدى» لهاني أبو أسعد، في عرض أوّل في العالم العربي. الوثائقي «استعادة» لرشيد مشهراوي، وله في سوق المشاريع «أحلام عابرة». الفيلمان القصيران: «ضيف من ذهب» لسعيد زاغة، و«ع البحر» لوسام الجعفري. إضافة إلى ثلاثة أفلام لغير فلسطينيين إنّما بموضوع فلسطيني: «الغريب»، «فرحة»، «أميرة». وتحضر آن ماري جاسر في لجنة تحكيم سوق البحر الأحمر، وشيرين دعيبس في لجنة تحكيم المسابقة.
بعض هذه الأسماء نحبّها، ونقّدر عالياً أعمالاً محدَّدة لها (وحديثي هنا عن المشاركات لا الأفلام ذاتها التي أنتظر بحبٍّ مشاهدتها، لذلك أكترث) لذلك يستغرب أحدنا متسائلاً عمّا تفعله في مهرجان يكون الحضور الفلسطيني فيه تعطيلاً لمعنى فلسطين ضمن الفيلم ذاته، تعطيلَ الفيلم لموضوعه. ولا أقول تحييداً لمعنى فلسطين في الفيلم، فهذا لا يُحيَّد. المعنى هذا، لمدلولاته منذ أيام الثورة وأفلامها، إمّا أن يكون واضحاً صارخاً أو يُعطَّل فيأخذ الموقعَ النّقيض، وهذا حاله في مهرجان هو صورة احتفاليّة ضمن سياسة دولةٍ ومحورٍ هي -السياسة- لا تكتفي بكونها نقيضة لمعنى فلسطين، بل نافية له.
لستُ هنا لأعدّد الأسباب السياسية التي تستدعي مقاطعة فلسطينية لمهرجان سعودي اليوم. يمكن لأي من المَداخل أعلاه أن يشمل لائحة تفصيلية، أضيف إليها الأذى الذي ألحقتْه، تاريخاً وتحديداً راهناً، السياسة السعودية بقضية فلسطين. ولا تُطالَب الأسماء الفلسطينية أعلاه بالتماهي مع جان لوك غودار في نَصّه حول فيلمه عن الثورة الفلسطينية «Ici et ailleurs»، الذي كتب فيه «نحن، المناضلين في السينما، تبقى مساهمتنا نظرية، نحن متأخّرون عشرات السنين عن الطلقة الأولى “للعاصفة”» (La palestine et le cinema. 1977. p.205). لا تُطالَب لأن النظر موضوعياً إلى السينما الفلسطينية اليوم، لا يستدعي توقّعاً لذلك القول، إنّما، في الوقت عينه، يستدعي إعادة النّظر في كل قول نقيضٍ له، في كل ما يجعل السينما الفلسطينية نافيةً لذاتها، ولمضامينها، وللقصة والشخصية الفلسطينية التي تحملها، أو تتظاهر بحملها، أو تتحامل عليها في مهرجان كهذا.
لا يكون السؤال، هنا، في مدى تأخّر السينما الفلسطينية عن الفعل النضالي على الأرض، بل في إن كانت السينما، أساساً، في الخطّ ذاته للفعل النضالي، فلا يكون التأخّر سوى تفصيل مفهومٍ ضمناً. هل المشاركة في مهرجان سعودي، وفي السّياق السياسي الراهن لهذه الدولة تحديداً، باسم فلسطين، مجرّدَ تأخّر عن الفعل النضالي؟
يؤكّد ثيودور أدورنو على ضرورة التمييز بين الالتزام (commitment) والنزعة (tendency)، في النظرية الجمالية، مؤكداً أنّ على العمل الفني الملتزم أن يكون “في مستوى المواقف الجذرية”، وهذا ما يميزه. (Aesthetics and Politics. 1977. p.199). هل نأخذ المشاركات الفلسطينية أعلاه على أنّها تحقق الالتزام بمعاني فلسطين التي تصوِّر بعض قصصها؟ أم على أنّها لا تلتزم لكن (على الأقل) تنزع إلى تلك المعاني؟ وفي الحالتين تكون (ولا بأس) متأخّرة قليلاً عن الفعل النضالي، حسب غودار؟ أم أنّها، خارج هذه الحسابات كلّها؟
صنّاع الأفلام اليوم ليسوا مناضلين في السينما ولا يجب أن يكونوا متى تعاكسَ ذلك مع الشّغل الفني في أعمالهم، لكن لا يجب كذلك استبدال التسليع بالنضال، فيكون صانع الفيلم مسلِّعاً لمادته في السينما، أمّا مادّته هذه، فهي قصة فلسطينية تتعطّل، بالضرورة، متى تسلّعت، فيكون الفيلم خاوياً.
القضية العادلة، بمبادئها وأخلاقيّاتها، لا تتحيّد، لا حيال ذاتها ولا حيال قضايا الآخرين العادلة. هي تقف ثابتة متى تمثّلت، أو تسقط.