لعلّها العبارة الأشدّ حضوراً إن فكّر أحدنا بسببٍ ونتيجته، بضرورة النتيجة متى حلّ السبب، لاختصارها في كلمتين مباشرتَين كالطّلقتَين لا تأويل فيهما، عنواناً لرواية بضخامة «الجريمة والعقاب»، ضخامة في معناها قبل أن تكون في حجمها، وفي تفرّعاتها أدباً وسينما وتحليلاً نفسياً، الممتدة إلى ما يزيد عن قرن ونصف، منذ ظهرت الرواية عام ١٨٦٦.
صعّب دوستويفسكي على أحدنا الفصل في حديثٍ بين جانبَي العنوان، بين الجريمة وعقابها، لكن عموم التناول كان للجانب الأوّل وفي بحثه نفسياً، كان للسبب، بافتراض أنّ العقاب مسلَّمٌ به لجريمةٍ (الحكم على الفعل مسبق بتسميته كذلك) لا بد أن تحصل، فيكون النقاش دائماً في معنى الجريمة، أمّا العقاب فمفروغ منه، وأكثر، المؤسسة المقرِّرة فيه والمنفّذة له مفروغ منها.
لا يَعتبر بطلُ الرواية البائس، راسكولنيكوف، قتلَه لامرأة جريمةً، لكونها “قملة قذرة ضارة، مرابية عجوز لا يحتاج إليها أحد. تمتص دماء الفقراء.” مضيفاً لاحقاً أنّه أراد بفعلته “أن يصنع خيراً للناس” وأن يكون “مفيداً” في القتل، الذي لا ينعته بالجريمة.
بتعريفٍ مختلف لفعل القتل، لا يذهب راسكولنيكوف إلى مفهوم العقاب، فالطريق إليه مقطوعة، طالما أن لا اتّفاق أساساً على مفهوم الجريمة، وعلى توصيف فعل القتل بالعمل الإجرامي. هنا أزاح دوستويفسكي في روايته بين السبب والنتيجة، بخلاف إحالات إلى الرواية وعنوانها نقرأها هنا وهناك. وسّع دوستويفسكي بين الجرمية وجزائها معطياً مساحة إنسانية لانهائية في تعريفٍ مفهوميٍّ لكل من الجريمة والعقاب. والعقاب، أخيراً، لديه، لم يكن فعلاً بل إحساساً، فالفعل عملُ السُّلطات والإحساسُ الأفراد. كما أنّ الجريمة لم تكن كما رأتها الشخصيات الأخرى، فعلاً، بل هي تعريف هذا الفعل، التعريف المتفاوت ما بينها وبين راسكولنيكوف.
ليس العقاب هنا إجرائياً، وإن كان كذلك بالنسبة للمجتمع، وإن كان راسكولنيكوف “مكبَّلاً بالسلاسل”، إنّما، العقاب، هو ما يدركه راسكولنيكوف. “إن ما كان يشعره بالخزي والعار، وما كان يؤلمه إيلاماً شديداً حتى جعله مريضاً، إنّما هو الجراح التي أصيبت بها كبرياؤه.” وذلك لعدم تعريفه لفعلته بالجريمة، وإن تمنّى ذلك ليندم “فيغضب من حماقته”، ولم يكن قادراً على الندم لأنّ لا جريمة يرى نفسَه مرتكباً لها (الاقتباسات أعلاه من الرواية).
يفصل الطب النفسي الرسمي بحسب رولان بارت كما أشار في كتابه «أسطوريات»، بين الفعل وسببه، فـ “لم يقبل الأطباء النفسيون أن يُلغى اعتبار جريمة -تعذّرَ تفسيرها لأنّه تعذّر تفسيرها- جريمةً. تاركين للمتهم مسؤوليته الكاملة.” بالنسبة لهم “غياب السببية لا يمنع البتة من أن يُسمى القتل جريمةً.” فـ “الطب الرسمي بذلك يلعب دور الكنيسة” مبرّراً تصرفه “بانحراف” المتَّهم. هو “انحرافٌ لا تكون معاقبته مباليةً بأي جهد يُبذل في شرح الجرم.”
هذا التوصيف لبارت، والإحالة إلى الكنيسة والمحاكمات الأخلاقية، يعيدنا إلى التعامل الدّيني مع راسكولنيكوف، من قِبل مجتمعه (ثمّ نقّاده)، كمجرم ينبغي عقابه دون الأخذ بمعنى الجريمة لدى مرتكبها. ولدوستويفسكي إشارة بنيوية في “تمرّد راسكولنيكوف على الرّب”، ففي اسمه إحالة إلى “الانشقاق في الكنيسة الأورثوذكسية الروسية منتصف القرن السابع عشر” (مقدّمة طبعة “بينغوين” من الرواية).
ليست الرواية مرافعة ضد الفهم الديني للجريمة وعقابها، بل ضد الفهم الرسمي لذلك، المتمثل في تواطؤ الطب النفسي مع السلطة في العصر الحديث، كواحدة من مؤسساتها، كما كانت الكنيسة لدى السلطة في زمن الرواية ومؤلفها.
الرواية، على طولها، “تحاول إثبات فكرة أن الشقاء الإنساني لن ينتهي” كما يشير كولن ويلسون في كتابه «اللامنتمي».” وكان “رد الفعل لراسكولنيكوف تجاه هذا الشقاء جريمةَ القتل”. ينتقد ويلسون اعتبارَ أنّ الرواية “أخلاقية تدور حول الشر الكامن”، منحازاً إلى تفسير اجتماعي تمّ نفيه في الإحالات النفسية لراسكولنيكوف. وهو ما يعطي تفسيراً لانتقاد بارت، وتحليلاً لرواية دوستويفسكي.
ليست الرواية حول الجريمة بدافعها النفسي بقدر أكبر مما هي حول العقاب بدافعه الاجتماعي، ومعنى العقاب ومرجعياته. العقاب مسألة أساسية هنا، وهو كذلك لأنّه مُحتكَر، لأنه أداةٌ للسلطة للسيطرة، لأنّه حكومي ورسمي. هنا كانت أزمة راسكولنيكوف، في عقابه قبل أن تكون في جريمته. هنا يكمن الشقاء الإنساني غير المنتهي.