ضمن سلسلة “ترجمان” الصادرة عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” صدر في أيار/مايو ٢٠٢١ كتاب “الهزيمة الغريبة” لمارك بلوخ من ترجمة عومرية سلطاني ومراجعة يوسف معوّض. يحتوي الكتاب على ثلاثة فصول بالإضافة إلى وصية مارك بلوخ وجاء في ١٨٤ صفحة من القطع المتوسط شاملًا المراجع والفهرس العام.
الفصل الأول جاء بعنوان “تعريف الشاهد”، ويبدأه بتساؤل مهمٍ لمؤرخٍ وجندي يعيش فترة من أهم الفترات التحولية في العالم، الحرب، فلم يكن على يقين بأن ما سيكتبه سيتم نشره أم لا، وهو الذي تم إعدامه بعد أربعة أعوام على بداية تدوينه هذه الشهادة.
لم يكن يقصد بلوخ أن يكتب ذكرياته، وهو ما نقرأه في الصفحات الأولى من الكتاب، لكنه يريد أن يشرح المنظور الذي رأى من خلاله -لا سيّما بعد أن خَبِرَ كتابة التاريخ وتدريسه لمدّة تتجاوز الثلاثين عامًا- الحاضر في محاولة منه لفهم الماضي، الماضي الفرنسي والأوروبي تحديدًا.
ولد بلوخ يهودي، ويقولها بصراحة أنه لا يمارس أيّة ديانة، بل ولا يشعر بفخر ولا بخزي تجاه ذلك، فهو لا ينتمي لأي مجموعة متدينة، ويستسخفُ فكرة إطلاق هذه الصفة على مجموعة من الذين آمنوا بهذه الديانة بغض النظر عن السلالة التي جاؤوا منها، ويصرّح بلوخ أنه لا يستدعي أصوله اليهودية إلّا حين يواجه شخصًا معادٍ للسامية.
يكشف الكاتب عن أحاسيسه حين ينتقل من مهمّة لأخرى، وكيف يشعر تجاه المهام التي توكلُ إليه، تلك التي يشعر مؤرخ فذّ مثل “بلوخ” أنها لا تُشبع رغباته، لكنّها الحرب ومتطلباتها، فجميعُ من هم على الجبهة يتساوون حين تتساقط القذائف عليهم، والرُتبُ لن تحمي أحدًا منهم.
أثناء تنقله من موقعٍ لآخر في الجيش الفرنسي، يكتب بلوخ أن احدى مهماته اقتصرت على “إحصاء صفائح الوقود أو حساب البنزين بالقطّارة” ويكمل واصفًا شعوره بأنه يمتلك إمكانات أخرى وروح مبادرة لم يتم استغلالها من قبل مرؤوسيه على ما يرام، أو كما يستحق.
يطلعنا بلوخ على تفاصيل يومي السابع والعشرين والثامن والعشرين من أيار عام ١٩٤٠، فحين تم محاصرة الجيش الفرنسي من قبل الألمان، اضطر لأن يتأخذَ أمرًا يتعارض مع مبادئه، فقد وصلته أربع أوامر عسكرية ومعها أوامر مضادة متعاقبة، وحيث كان الأمر متعلقًا بتدمير مستودعات الوقود حينها، فقد تم إرسال جنديٌ بسيط على دراجة نارية لتنفيذ هذه الأوامر، فيقع الكاتب بين نارين، الأولى إطاعته لأوامر رؤسائه، والأخرى ذاتية تتمثل في كيفية تخلصه من الشعور بالذنب الذي ملأه حين قرر إرسال فتىً يافعًا إلى موته بقرار منه؟
يستمر الكاتب في وصف الأحداث التي عاشها في الأيام التالية والتي أوصلت الجيش الفرنسي المهزوم حينها إلى شاطئ دنكرِك، ويعلّق أن هذه الرحلة التي اضطر إلى عبورها مرتين قد تركت في نفسه ذكرى مؤلمة حين رأى المدينة وقد صارت أنقاضًا وانتشرت في شوارعها بقايا الجثث والأشلاء البشرية، ويعترف أيضًا أنه وعلى الرغم من بشاعة هذه الصور التي التصقت بذهنه، فإن يوم مغادرته رصيف المرفأ كان الأكثر حضورًا في ذاكرته واصفًا هذا الشعور بأنه أنانيّ بالفرح الذي لا يُقاومُ عند جندي يشعر أنه نجا للتو من الأسر (ص٢٩).
“شهادة مهزوم” كان عنوان الفصل الثاني، يفتتح بلوخ بجملة قاسية تقول “مُنينا للتو بهزيمة لا تُصدّق”، ويبدأ بلوم النظام البرلماني والقوات المسلحة والإنكليز حسب ما يقول جنرالات الحرب. لكن سبب هذه الهزيمة بحسب بلوخ كان عجز القيادة العسكرية وعدم امتلاكها للمعدات والعقيدة لخوضها (ص٣٧).
لا تشكل وثيقة بلوم التاريخية نقدًا للحرب كما يقول، كما أنها ليست تأريخًا للحملة العسكرية في الشمال، لكنها مجرد ملاحظات واضحة عن كيفية سيرها وتأثيرها عليه وعلى العالم.
يعزو مارك انتصار الألمان إلى تفوقهم فكريًا عليهم، فقادة الحرب الفرنسيين لم يجيدوا فهمها كما يجب، كما يشير إلى اختلاف مفهوم المسافة بين الجيوش المتحاربة، فبينما خاض الفرنسيون الحرب بعقلية ثلاثين أو أربعين عامًا مضت، كان الألمان يحاربون بعقلية اليوم (أربعينيات الحرب) وبحسب وصفه، كان الفرنسيون يحملون الرماح في مواجهة بندقية الألمان (ص ٤٧).
نقرأ أيضًا تأكيدًا على تخبّط الفرنسيين فيما يقوله الكاتب بأن قادة الجيش كانوا لا يعلمون شيئًا عن تحركات عدوّهم، بل ويجهلون إمكاناته، والسبب في كل ذلك كان حينها سوء تنظيم الاستخبارات.
كما يلقي الضوء على الفوضى التي كانت سائدة لدى قيادة الأركان الفرنسية التي كانت تلتزم بما هو مدوًن وفق تقاليد صارمة، لكن الواقع عكس ذلك تمامًا فيذكر على سبيل المثال أنه لم يرَ مكانًا أقذر وأنتن رائحة أكثر من مقر الأركان في قطاع محصّن (ص ٦٥).
الفصل الثالث جاء بعنوان “فرنسي يفحص ضميره”، وفي بدايته نذكر عدم رضاه عن الحديث حول أسباب الهزيمة وانتقاد القيادة العسكرية وما ارتكبته، حيث يعتقد أنه قد يتغاضى عن بعض الأخطاء وسيصب تركيزه على أخطاء أخرى تم ارتكابها.
يوجه الكاتب انتقاده الشديد للنظام الفرنسي الذي يدّعي الديمقراطية، فلم يقم هذا النظام بتزويد الشعب بالحد الأدنى من المعلومات الصحيحة والمؤكدة في فترة الحرب، وهذا يتناقض مع الأساس الذي بُني عليه النظام من حيث مشاركة الجماهير له، ويعود بالتاريخ حول هذه النقطة مستذكرًا الطبقات البورجوازية التي كانت تتوجس وتستنكر أن ترى الطبقات الدنيا تتعلم القراءة.
“كان يعشق الحقيقة” هي الجملة التي رغب أن تُنقش على قبره والتي كتبها في وصيّته، كما يؤكد مرّة أخرى على أنه يهودي بالولادة لكنه لا ينتمي لأي مذهب ديني، فهو فقط فرنسيًّا بارًّا كما وصف نفسه في ختام وصيته.