لا يمكن فصل تاريخ الرواية الفلسطينية عن السياق السياسي الأكبر المتمثل في النضال من أجل التحرر، فكما تضاءلت آفاق التحرير في فلسطين منذ بداية الثمانينات، شارك الأدب في التعبير عن روح الهزيمة.
منذ نكبة عام 1948، تصدّرت الرواية الفلسطينية جهود التعبير عن تجربة الشتات الوطني وآفاق التحرر في العالم العربي، فرسمت العلاقات المتغيرة بين الصيغة الأدبية والعمل الجماعي، بين الجماليات والسياسية.
في العام 1948، خسر الفلسطينيون وطنهم وأصبحوا لاجئين موزّعين على الدول العربية وأبعد. فكانت النكبة علامة فارقة تدل على أحداث التهجير التاريخية والهزيمة التي نجحت خلالها حركة الاستعمار الاستيطاني في دفع السكان خارج بيوتهم ومصادرة أراضيهم، واستبدلتهم بعمّال من المستوطنين. احتاج الفلسطينيون بعد ذلك إلى قرابة العشر سنوات لإعادة تنظيم أنفسهم وإعادة تعريف حركتهم السياسية، مرة تحت مظلة القومية العربية التي قلّما تتم دراستها، ومرة بعد عام 1967 الذي شهد بداية الحركة الوطنية الفلسطينية.
تشكّل الأعوام ما بين 1967 و1982 صعود وسقوط الحركة الوطنية الفلسطينية ما بعد عام 48، سواءٌ كحركة ثورية على نطاق عربي واسع أو كنضال علماني قتاليّ مسلح. بعد هزيمة سقوط بيروت بيد إسرائيل عام 1982، طغى انحدار سياسي عام لم ينجح في إيقافه شيء سوى الانتفاضة الأولى عام 1987، التي تعد آخر مثال ناجح على التعبئة الشعبية الجماهيرية قبل أن تقوم إسرائيل بتصفيتها وتقوم منظمة التحرير الفلسطينية باستغلالها في أوسلو.
منذ العام 1993، لم يكن هناك أي نشاط شعبي منظم يُذكر، (على الرغم من استمرار أنشطة صغيرة وهامة). فتم تشويه ما تبقى من قِبَل حركات دينية مثل “حماس” المنغمسة في التصنيفات الوطنية الإسلامية (كالجهاد مثلاً) والتي حدّت من عالمية القضية.
في شرح الأسباب الكامنة وراء حالة الجمود المستمرة منذ عام 1993، نرى فشل المشروع الوطني وصعود السلطة الفلسطينية المتعاوِنة مع إسرائيل في إدارة احتلال الضفة الغربية، والمواجهة القائمة بينها وبين حركة أصولية ذات شعبية. تتميز هذه الفترة كذلك بالحرب ضد الشعب الواقع تحت الاحتلال، والقتل السياسي للشعب الفلسطيني، والتوسع المستمر للمشروع الاستعماري الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967.
في السياق العالمي لـ”الحرب المستمرة على الإرهاب”، توقف العالم عن رؤية الفلسطينيين كشعب يقاوم الاستعمار ويسعى للحصول على حقوقه الوطنية، بل أصبح يُنظر إليهم بصفتهم مجموعة من الإرهابيين المدججين بالقنابل الموقوتة كما صوّرهم المسلسل الإسرائيلي “فوضى” الذي عُرض عبر منصة نتفليكس. باتوا يُصوّرون على أنهم ضحايا فرديّون لا شعور حيالهم سوى بالشفقة، ونادراً ما يتم اعتبارهم شعباً بحقوق انتهكتها إسرائيل لسنوات طويلة. يرتبط هذا التاريخ بالرواية الفلسطينية على نحو وثيق.
يمكن لتحليل الرواية الفلسطينية مساعدتنا في توضيح أدوار الاستعمار والمقاومة والأدب، كما يمكنه أن يساعدنا في صياغة العلاقة بين الأشكال الاجتماعية والسياسية والجماليّة. كيف يمكن للحراك السياسي أن يشكّل ويحتوي ويصيغ الثقافة؟ كيف يمكن للأدب أن يعبّر عن الإمكانية التاريخية؟ ما الذي يشرح التغيرات الحاصلة في أسلوب الرواية السّردي؟
وعد عالمي
تم نشر رواية “عائد إلى حيفا” لغسّان كنفاني عام 1969، في خضمّ ذروة الثورات العربية والفلسطينية والمقاومة والإمكانيات الثورية. تتيح الرواية القصيرة مواجهة بين اللاجئين العائدين إلى منزلهم في حيفا في أعقاب احتلال إسرائيل للضفة الغربية وغزة عام 1967، والسّاكن الجديد، الناجي من المحرقة اليهودية والذي ربّى طفلاً فلسطينياً تُركَ سهواً أثناء أحداث النكبة المروّعة.
ترسم “عائد إلى حيفا” مواجهة إنسانية بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فهي تروي بشكل معقد الآلام المختلفة التي أدّت إلى تشابك أحداث التاريخ بعد عام 1948. فيما يلي أهم حوارات الرواية، بين بطلها، الأب اللاجئ، وابنه الذي أصبح إسرائيلياً بعد أن تركه عام 1948، فيقول الأب:
“متى ستدرك أن أكبر جريمة يمكن لأي إنسان أن يرتكبها، كائناً من كان، هي أن يعتقد ولو للحظة أن ضعف الآخرين وأخطاءهم هي التي تشكل حقه في الوجود على حسابهم، وهي التي تبرر له أخطاءه وجرائمه؟”
“متى ستتوقف عن اعتبار لحظات ضعف الآخرين وأخطائهم أسباباً لحقك في الوجود على حسابهم؟ عليك أن تدرك الأشياء كما ينبغي. وأنا أعرف أنك ذات يوم ستدرك هذه الأشياء، وتدرك أن أكبر جريمة يمكن لأي إنسان أن يرتكبها، كائناً من كان، هي أن يعتقد ولو للحظة أن ضعف الآخرين وأخطاءهم هي التي تشكل حقه في الوجود على حسابهم، وهي التي تبرر له أخطاءه وجرائمه.”
من ناحية موضوعية، يعتمد الكثير على جملته “ذات يوم ستدرك”. فأي صيغة سياسية هي تلك التي ستؤدي إلى إدراك كهذا وأي طريقة؟ لا يقدم كنفاني إجابة على هذا، لكنه يركّز على السؤال: “في التحليل النهائي، ليس المرء إلا قضية. هذا ما قلته وهو صحيح، لكن أيّ قضية؟ هذا هو السؤال.” الأكيد هو أن الوطن ليس إلا مستقبلاً مرتكزاً إلى مبادئ العدالة العالمية. هذا هو مبلغ الرواية الإنساني والمستقبل الذي تستشرفه.
لا يمكن إيجاد حل لاضطهاد اليهود وتشريد الفلسطينيين سوى من خلال هذا المبدأ العالمي، فلا يمكن حلّهما من خلال مفاهيم القوميّات الضيقة ومصادرة الممتلكات. إنما يكمن الحل في التصنيفات التي يمكن لكل بشري فهمها والمشاركة فيها. لا يجب أن يُجبر أي إنسان على ترك بيته، ولا حقّ لإنسان في إجبار غيره على العيش في منفى مُرغماً. أتمنى لو حمل الجميع هذه المبادئ.
تبدو رواية “عائد إلى حيفا” واقعية شكلاً، إذ تتوفر فيها كل مكونات التأريخي والديمقرطة في الواقعية الكلاسيكية، تتوفر فيها. كذلك نرى فيها الالتزام الأخلاقي بمنح الضعفاء صوتاً بصفتهم جزءاً من التاريخ. تستمدّ الأحداث الفردية معناها من كونها جزءاً من الممارسة الجماعية. بالنسبة لكنفاني، يبدو الواقع معروفاً وقابلاً للتحول، فيما يحتاج المستقبل نضالاً منظماً وتحولاً ذاتياً.
انتهاء الدور الفاعل
لقياس أهمية رواية “عائد إلى حيفا” واللحظة التاريخية التي تزامنت مع نشرها، ينبغي علينا أن نقارنها مع رواية “الغرف الأخرى” لجبرا إبراهيم جبرا التي نُشرت في بغداد عام 1986. يعد جبرا واحداً من أبرز شخصيات الأدب الروائي والثقافة في فلسطين وقد كتب سبع روايات وعشرات الدراسات النقدية إضافة إلى الترجمة للعربية. يمّثل جبرا صوت اللاجئ الفلسطيني الفقير الذي تحول إلى واحد من أبرز المفكرين العرب في مرحلة التحرر من الاستعمار.
لكن في هذه الرواية القصيرة التي نشرها في مرحلة متأخرة، لا تظهر أي من العناصر التي وظّفها غسان كنفاني، فيصعب فهم السرد ويبدو البطل مشوشاً، منعزلاً، وفي حالة من التردّي الوجودي، عاجزاً عن إدراك الأمور الأساسية عن نفسه ومحيطه، فلا يعرف اسمه ولا مكانه ولا وظيفته. لا يتوقف عن الحركة دون اتجاه محدد. وهكذا، يغيب الترابط عن أفكار الرواية، فيما لا يبدو أي شيء أكيداً سوى استمرارية الكابوس. لا تبدو المقاومة عبثية في الرواية فحسب، بل أنها غائبة كلياً، فهي ليست حتى واحدة من الخيارات التي يمكن تأملها ورفضها، فلا تنتهي دوامة الفشل والهزيمة أبداً.
في روايات جبرا السابقة، كان للأفعال الفردية دوراً أكبر وأوضح في محاولة تغيير العالم. لكن “الغرف الأخرى” تبدو على النقيض من ذلك، فتُسحق القدرة على الفعل بسبب القمع والضياع في الهذيان. هناك رابط جليّ بين نهاية الفعل الثوري الجماعي ومشاعر انعدام الترابط واليأس اللذان يميزان الرواية.
نهايات مسدودة؟
في نقطة مقارنة أخيرة فيما يتعلق بالرواية الفلسطينية، أتناول رواية “تفصيل ثانوي” للروائية عدنية شبلي والصادرة عام 2016. تنتمي شبلي لجيل جديد من كُتّاب ما بعد اتفاقية أوسلو، وقد كانت روايتاها السابقتين بأسلوب سردي يصعب موقعته. تبدو روايتها الأخيرة أخّاذة وتحاكي بقوة اللحظة المعاصرة المتمثلة في الانسداد السياسي وتغييب الفلسطينيين والحرب. كذلك تلقي الرواية نظرة على الماضي وتستعيد أحداث النكبة بصفتها نقطة مركزية للفهم، تُحكى من خلال حادثة اغتصاب فتاة بدوية، تُمسي بدورها “التفصيل الثانوي” المذكور في العنوان.
عادت النكبة إلى الوعي السياسي الفلسطيني منذ اتفاقية أوسلو، التي لا تؤذن بالتخلي السياسي عن اللاجئين فحسب، بل بالعودة إلى أكثر أسئلة الهوية الفلسطينية وجودية، المرتبطة بتهجيرهم واستبدالهم بشعب آخر. لكن رواية “تفصيل ثانوي” تقدم سردية جديدة تختلف عن معاني الخسارة والهزيمة السابقتين.
من جهة، تستمر الرواية في نهج فقدان الصلة والبحث المستمر عن المعنى، وهما أمران أتقنتهما رواية الحداثة الفلسطينية، حيث نرى حدثاً يتم التحقيق فيه، ومعرفة يتم إدراكها، وبحثاً عن الحقيقة والترابط.
لكن رواية شبلي التوثيقية تُبعدنا عن الثقل الوجودي. فلا يكشف التحقيق عن أي خلاصة لم ندركها مسبقاً. وهكذا، يبدو بناء الرواية دائرياً فتعود النهاية بالراوية لموقف مشابه تعرضت له فتاة بدوية عام 48 تحت تهديد الجنود المحيطين بها، فلم يتغير الكثير. لا يتطور التاريخ بل يتكرر باختلافات طفيفة تطرأ على تفاصيل ثانوية. تعيش المرأة الواقعة تحت الاحتلال تحت شبح الماضي الذي يصبح حاضرها، فهي كذلك تفصيل ثانوي من التاريخ.
إلى حد ما، تنجح خيارات شبلي الجمالية في تصوير الاستعمار كأكثر من مجرد حدث عابر، بصفته عملية مستمرة. ولهذا الاختيار البلاغي ثمن يُدفع في فقدان تفصيل تاريخي. فلا تميّز الرواية بين المراحل التاريخية وتكاد تكون هناك معادلة تساوي في المعاناة بين محققة معاصرة من الطبقة الوسطى في الضفة الغربية وبين فتاة بدوية يغتصبها ويقتلها الجنود الإسرائيليون في عام 1948؛ فروق بالغة الأهمية وينبغي المحافظة عليها.
في رواية “تفصيل ثانوي”، لا تُمنح الفتاة المغتَصبة اسماً ولا صوتاً، فيتم تصويرها كفتاة تثرثر وذات رائحة كريهة ولعاب يسيل، تُروى حكايتها على لسان غيرها (إما الجاني الإسرائيلي أو الفلسطينية ابنة الطبقة الوسطى، وكلاهما غير متوازنين نفسياً). فلا تتحرك ابنة الضفة الغربية نحو إسرائيل إلا بعد قراءة تقرير في الصحيفة اليومية عن الحادثة. فهل نحن حقاً بحاجة إلى رواية تعيد إنتاج صمت الصحافة وصمت التاريخ؟
تبدو هذه خيارات مقلقة تخاطر بتكرار تغييب الفلسطينيين الذي تسعى الرواية لانتقاده. في الواقع، يبدو ذكر الفتاة البدوية في القصة ليس أكثر من مجرد أداة. إن رواية واقعية كانت لتقدّم الفتاة بشكل مختلف وكانت لتصوّر الحاضر بصفته قادراً على التغير. في حين كان يمكن لرواية حداثية أن تروي وتأسف لغياب الأفق التحرري. تبدو رواية “تفصيل ثانوي” مختلفة.
تعدّ خيارات شبلي البلاغية رداً معيّناً على منطق اشتداد وتيرة الحرب الاستعمارية ومحاولات التغييب المتمثلة في تجريد الفلسطينيين من مكوّنهم الإنساني وعزلهم عن البشر أو عن جزء معين منهم على الأقل. تقاوم جملة متكررة في الرواية هذا المنطق: “سينتصر الإنسان، لا الدبابة في نهاية الأمر”.
ومع ذلك، فإنه وعلى مدار قراءة رواية شبلي، يسود شعور بأن الدبابة هي التي تنتصر لا الإنسان، وهي العبارة المتكررة بالعبرية لتُسكت الضحية الفلسطينية. على العكس من عبارة كنفاني “الإنسان هو القضية”، تبدو جملة شبلي أداة ساخرة أكثر منها معبرةً عن الالتزام الأخلاقي. فما معنى أن يتحدث المستعمِر المنتصر عن الإنسان العالمي؟ ما هذه إلا مقارنة جوفاء ومبتذلة.
كما في الحداثة الفلسطينية الباكرة، المقاومة الجماعية غائبة عن رواية “تفصيل ثانوي”. لكن هنالك ملاحظة جديدة هنا. فشكل الرواية لا يقاوم، لا يواجه القصة التي يرويها، ولا يسعى لحماية نفسه من الواقع القاسي. فيُنظر للمستقبل بصفته تكراراً لآلام الماضي، وهو ما ينبئ بأسلوب فريد بصرف النظر عن تبعاته الأخلاقية.
لكن، لطالما ظهرت الرغبة القوية في استعادة القيمة الإنسانية في الأدب الفلسطيني. فتظهر في أعمال الكُتّاب المعاصرين من غزة مثل عاطف أبو سيف ونيروز قرموط، اللذين تعكس أعمالهما شعوراً عبّر عنه ببراعة الفيلسوف الأخلاقي المناهض للحرب جوناثان غلوفر حين قال: “احترام الكرامة هو أحد أكبر العوائق في وجه الفظاعة والوحشية. إذا ما أدركنا مكانتنا الأخلاقية المشتركة، سيصعب علينا أن نعذب ونقتل بعضنا البعض”. كان يمكن لغسان كنفاني أن يوافقه الرأي.
ورقة قدّمها كاتبها في ورشة حول الأدب الفلسطيني نظمها منتدى كريسكي في ڤيينا خريف ٢٠٢١.