خرجنا من فرع فلسطين بخسائر شخصية كثيرة، ولكن بقليل من الخسائر الحزبية. لقد تمكَّنَّا من سدّ كل ثغرات التحقيق، ولعل ذلك كان عزاءنا الوحيد عما تعرّضت له أجسادنا وأرواحنا من أعطاب ورضوض وأوجاع وانتهاكات.
نقلونا إلى فرع التحقيق العسكري القريب من فرع فلسطين. هو خروج من تبه باتجاه تيه آخر. هو برزخ إجرائيّ أو إداريّ قبل ترحيلنا إلى أحد السجون.
وضعونا في مهجع جيد الإضاءة ونظيف نسبياً، أو أقل وساخة حسب تعليق أحد الرفاق، فعلَّق آخر: ولكن رقمه 13، يعني رقم شؤم.
قلت في نفسي: أنا شؤم على شؤم إذن. كنت في حضرة الزنزانة 13 في فرع فلسطين، وها أنذا في حضرة المهجع 13 في فرع التحقيق. شؤم مربَّع.
في الواقع لم نتعرض لإساءات، فعناصر الفرع يعرفون أن إقامتنا عندهم مؤقتة، وأن أحدنا حظي بزيارة من أهله، فعاد إلينا بوفرة من الأخبار والنقود والحلويات.
معظم رفاق مجموعتنا كانوا في فرع فلسطين معاً في مهجع يقع خلف المنفردات، وكانت حياتهم تشاركية في كل ما يملكون وما يأتيهم في الزيارات، وكانوا يقسمون للرفاق الذين هم في المنفردات حصصاً مساوية، ولا سيما في عدد السجائر. كان الوصول إلى زنزانتي أسهل من غيرها. في الحقيقة كان هناك في الزنزانة الواقعة بيني وبين الرفاق شخص عراقي يدعى أبو مريم، وكانت إدارة السجن، تتيح له هوامش مريحة من الحركة، كأن تترك باب زنزانته مفتوحاً طوال النهار. لهذا ولأسباب تحتمل الشك والريبة صار وسيطاً بيننا. كان الرفاق يرسلون لي حصتي من السجائر ومعها حصة أبو ضيا المقيم في الزنزانة المقابلة لي، وأنا بدوري أرسلها لأبو ضيا بطريقة “صاروخية”، أي أضع السيجارة على الأرض تحت شقّ باب زنزانتي موجّهةً إلى زنزانته، ثمّ أنقفها بإصبعي، فتقطع الممر الفاصل بين صفَّي الزنازين لتدخل من تحت باب زنزانة أبو ضيا بلمح البصر. كنت أؤكّد على أبو ضيا أن يطوي بطانيته لكي لا تصطدم السجائر فيها وترتدّ إلى الخارج. إحدى الليالي سألني أبو ضيا إن كنت أستطيع تدبّر إشعال سيجارة وإرسالها إليه، فأخبرته أن الرفاق هرَّبوا لي بضعة عيدان كبريت لاستخدامها في حالات الطوارئ. أشعلت سيجارة وسألته إن كان جاهزاً، فقال: أطلِقْ.
دخلت السيجارة زنزانة أبو ضيا مثل سهم، ثم خرجتْ وهي تدور على نفسها لتستقر في منتصف الممرّ.
– شو القصة أبو ضيا؟
– على قدّ ما أنا خرمان، ومن كثر ثقتي بدقة تسديدك سهيت عن طيّ البطانية، فاصطدمت فيها السيجارة وشردتْ.
– المهم يا أبو ضيا ما يجي حدا من الحراس ويشوف دخان السيجارة عم يتلوى ولا على باله.
– وإذا شاف دخانها نحن شو خصّنا؟
– يمكن يحقّقوا مع كل اللي بالمنفردات ليعرفوا الفاعل. سيجارة مشتعلة بتعني أنه في حدا بالمنفردات عنده نار، وهاي ما بيسكتوا عليها.
قال لي أبو ضيا، كعادته في تحويل أي تنغيص إلى سخرية:
– بلا مقطوع من حديثك، وكونك واحد من قيادة الحزب يعني، شو برأيك، رح تنخصم السيجارة من حصتي ولّا بتتحمَّلها ميزانية الحزب؟
– لو كان الأمر إلي كنت بخصم من حصتك سيجارة ومن حصتي سيجارة عقوبة لاثنيناتنا.
– الرفاق اللي مثلي معترين برا ومعترين بالسجن.
– يعني أنا ماني معتر؟
– أنت بيبعتولك الرفاق عيدان كبريت لأنك من القيادة، بس أنا ماني من القيادة ولا من الرفاق المثقفين، يعني هدلوكي اللي بتلاقي واحدهم ماشي وحامل بإيدو كتاب قدّ البلوكة.
– الله وكيلك ما عندي مشكلة يريّحوني ويبعتوا سجايري والكبريت لعندك، بس أنت ما في علاقة بينك وبين أبو مريم العراقي.
– القصة يا رفيق مانها بس بالسجاير والكبريت. يا شيخ حتى بتعامل السجانين معكم. أنتو القياديين محفوظ مقامكم برّا وجوّا؟
– لهيك عندي جولة تعذيب كل يوم.
– ما قلنا لا، لكن أنت بيجي السجان بياخدك عالتحقيق بكل احترام وبرجّعك بكل احترام. أما أنا بالطلعة وبالنزلة ما بيترك شي على أمي وخيّاتي.. وفوقها بالتحقيق بيتمسخروا عليّ.
– بيتمسخروا عالجميع.
– بعرف بعرف.. بس أنت ما فيهم يخشّنوا صوتهم ويقولولك: بشو واعدينك بالحزب يا عرصا؟ واعدينك يسلموك قسم المحروقات تا تسرق على كيفك؟
– وليش حكيوا على المحروقات بالتحديد؟
– لأني شقفة رقيب متطوع وشغلي بقسم المحروقات. يلعن أخت الفقر وأخت هداك اليوم اللي تطوعت فيه بالجيش. ما قلتلّلي. أنت بالتحقيق برشّوا شي على رقبتك؟
– متل شو؟
– ما بعرف.. هيك شغلة متل البخَّاخ، بخّوا منها على رقبتي أول مبارح، ولهلّق عم تحكّني وأنا نازل فيها هرش.
– معقول يكون أسيد ممدّد؟
– قولك الأسيد مشتقّ من الأسد.. قصدي من اسم سيادة الرئيس؟
تعليقات أبو ضيا ومزحه وتشبيهاته، وقصصه التي يسردها بعد منتصف الليل تغسل متاعب التحقيق والمنفردات وتجعل أيامنا أقل وطأة. هو يروي ما عنده من مخزون طرائفه، وأنا ألبي رغبته كلما طلب مني أن أغني له قصيدة كتبتُها لأمي بلهجتها، أو مقاطع من تأليفي على لحن “أبو الزلف”.
التداعيات والاستطرادات التي تستثيرها تفاصيل السجن أوسع منها في أي حقل آخر.
أعود إلى الزيارة التي جاءتنا في فرع التحقيق لأقول أن النقود والحلويات التي جاءت في الزيارة ذهبت مباشرة إلى اللجنة التي تشرف على الوارد والصادر وكيفيات توزيعه.
الرفيق مازن شعراني رجل “مُدَوْزَن” في كل شيء، باستثناء علاقته بالحلويات. كان دؤوباً في الضغط على اللجنة كي تزيد الحصة اليومية، وكانت اللجنة الممثَّلة بالرفيق كريم عكاري في منتهى الدقة والحزم والتقشّف. في اليوم التالي أعلن كريم أن بعض الحلويات الهشة كالبرازق تكسَّرت، وبالتالي يمكن اعتبارها نثريات مفتوحة لمن يرغب. كان مازن كلما مرَّ بمحاذاة كيس الحلوى قام بحركة “عفوية جداً” من مرفقه، الأمر الذي يزيد في كمية النثريات المفتوحة.
لم يطل بنا المقام أسابيع حتى أعادونا إلى فرع فلسطين، لنجد في استقبالنا جهنم مختلفة عن كل ما سبق. أرهاطٌ من الذؤبان تستثيرها رائحة دمائنا فتوغل فينا عضّاً ونهشاً وتمزيقاً. ضرب أعمى بالقبضات والكابلات. كل شيء محتدِمٌ ومترنِّحٌ وخبط عشواء. ركل وصفعات وسياط وشتائم تنهال علينا من حيث يخطر ولا يخطر على بال.
رموني في إحدى الزنازين وغابوا.
هدوء مريب ينداح فيه صمتٌ رصاصيٌّ مصهور تتناهى وراءه أصوات طبول تقرع الفراغ.
ما الذي يحدث؟!
ما هو أسوأ احتمال ممكن؟
حاولت أن أتواصل مع الزنازين القريبة عبر النحنحات، ثم عبر نقرات “المورس” على الجدران، ثم عبر الهمس.
مهما بلغت وطأة الأمكنة وثقلها، فإن الزمن وثقله أشد وطأة.
هذا هو التجلّي الفادح لحجرية الوقت. إنه انتظارُ احتمالٍ كارثيّ يتقدَّم بثباتٍ ولكنه لا يصل. لا أشكُّ في أن اقتحام الخطر أقلُّ مضاضة من انتظاره.
رهبتي المعتادة لدى كل استدعاء للتحقيق تحوَّلت في ذلك الحين إلى رغبة عارمة في أن يطلبوني ولو إلى حفلة تعذيب مجاني، لعلّي أسترق سمعاً أو بصراً.
يعد زمن، لا يمكن حسابه بالطرق المعتادة، سمعتُ صوت جلال، أحد الحراس الذين أشعر بتعاطفهم، فبدأت الطرق على الباب إلى أن جاء.
فتح النافذة الصغيرة في باب الزنزانة، فبادرته: ما القصة.. لماذا أعادونا إلى هنا.
كان جلال شديد القلق والارتباك. نظر حواليه ثم قال: هناك إنكار شديد.
ثم أغلق النافذة، وسمعت خطواته المتسارعة تبتعد.
أيّ كلام مبهم هذا؟
إنكار مَنْ وماذا، ما الإنكار الذي تعنيه يا جلال، وعلام ارتباكك إلى هذا الحد؟
وحدي.. أنا والزنزانة، والوقت، والوساوس، واللعنات، في انتظار دعوة “كريمة” إلى جولة تحقيق مرتجاة.