بسردٍ حُرٍّ وسَلِسٍ يسوق الروائي الفلسطيني أحمد الحرباوي أحداث روايته الجديدة “احتضار عند حافة الذاكرة”، الصادرة حديثاً عن دار نوفل/ هاشيت أنطوان (بيروت – 2022)، والتي أتتْ بعد ثلاث روايات، هي: “أمرُ من السُكر (2013)”، “في كانون يموت الحب حياً (2015)”، “خيانة مقدسة (2016)”. إذ تبدأ أحداثها مع العام 1914 وحتى عام 1953، حيث يوثّق فيها المؤلف الأحداث السياسية والاجتماعية في فلسطين، تحديداً في مدينة الخليل.
تبدأ أحداث الرواية عند أولى أبطالها فنتعرَّف إلى “ليئا” اليهودية التي سرعان ما تُقتل فتظهر ميسون زوجة المختار ولمياء وبريجيتا وإيلين والأب إبراهيم، والحاخام، الحاخام الذي ما أن يسمع باسم إيلي حتى يتعكَّر مزاجه بل قد يسبِّب له جلطة، إنه كابوسه الوحيد وعليه التخلص منه بأي فرصة مناسِبة. ثم إلى استنفار قوات الدولة العثمانية التي تجنِّد كل من يحمل السلاح ليدافع عنها في الحرب العالمية الأولى أو ما سُمي حرب “السفر برلك” حيث الشباب والرجال يُساقون إليها، إلى حربٍ لن يعودوا منها ومشاهد خراب وحالات يأس وموتٌ قبل الموت؛ وإيلي الذي ضحك قبل موته دون أن يودِّع ابنته الوحيدة، ودون أن يعرف بأن زوجته ماتت ودُفنت في مكان لا يعرفه أحد، الجوع والقتل، والدم المسفوك في الساحات، والأطفال فوق أكوام القمامة، والنساء اللواتي يبكين أزواجهن وأولادهن وأشقائهن حين ساقتهم الجندرمة العثمانية إلى الموت غصباً عنهم:
“يلّي ساقوا وِلّفِكْ ع السفربرلك
شو بتنفعك غوايش الذهب
الدهب ما بيضللك
فِزّيْ لعند الخواجا
قبل ما يّنَفّقْ ويبيع العنب
الدمع ما بيشطف بكرا خطاوي حبابك
عن عتبة دارك
وما بيروي عطش الغربة ساقي بِقِرّبة ولا بفخار”.
يُسمعنا أحمد الحرباوي هذه الأهازيج؛ الأغنيات التي تقوم عليها بنية الرواية، ليكشف عن الخواص النفسية لذهن شخصياته مُستغربةً وساخرةً ومتالِّمة إذ تصير الأهازيج ذات فاعلية فيزيائية تبين انفعالات الشخصية:
“يا مدَعْسه قطوفك بكعاب الحنّة
عين الأفندي ما بترحم تَعَبْ
ما تشَمّري ع الرمانة
ليغار من العنب
يا حاملة قطوفك بقماش سْرِنك
قولي للفندي ما يكتر شُرب
لولا العازة وجورة خالي
ما رضينا ناكل من صحن الجُرُبْ”.
فقير وغني، غاصب ومغصوب. والخليل خلت من الرجال، وأهزوجة مليئة بالدراما، بالصراعات تقوم بنقل الفعل، بل تصبح مصفاة سيميائية ترسم صورة للظلم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، بل تبرِّر الأفعال التالية لشخصيات الرواية:
“غرب الراعي يا صبية
بِعِبّكْ بيض القز
بعد الخير يا بنية
دلب التوت بينعز”.
أهزوجة، أهازيج استغرقت بحثاً ودرساً طويلاً من الروائي ذلك لأنها تُصور مشاهد مفجعة، وتخفي حوادث إنسانية، وكونها حامل الرواية التي تقوم بنزع أقنعة الزيف في مداهنة المحتل. أهازيج استخدمها الروائي أحمد الحرباوي ليطرد الدُمى من أعماقنا. أهازيج هي ضربات، شفرات، سكاكين؛ سكاكين روائية تقوم بتحليل نفسي روحي لجيلٍ ضُحيَ به في الحرب العالمية الأولى وما تلاها. الحرباوي لم يُزيِّن بها الرواية، بل كانت المحرِّك/دينامو الأحداث لرواية تقدم موقفاً جمالياً وأخلاقياً وفلسفياً من حربٍ لا ناقة لنا فيها ولا جمل، سوى أن نكون حطباً لها، وفوقها تصير فلسطين قرباناً للصهاينة. الحرباوي يجعل السرد في “احتضار عند حافة الذاكرة” تأملياً واقعياً وغنائياً؛ كما لو إنه يرثي الذاكرة المثخنة بالجراح وهي تحتضر. فمأساة حرب “السفر برلك” هي موضوع مأساوي يسبر فيها شعور وانطباع شخصياته، والمرحلة التاريخية ليحقق الصدمة: كان الأب إبراهيم يسرُّ لنفسه بأنّه مرتاحٌ لفكرة خروج الأتراك من الأراضي المقدّسة، فهذه ستكون أجمل هدية من الممكن الحصول عليها، لذلك أصبح لا يتدخَّل في أيِّ أمر يتعلق بإيواء الفارِّين من السلطة العثمانية، إلاَّ إذا شعر بأنَّه يهدِّد أمن الرهبان والكنيسة. وقد منحه شغف بريجيتا بمساعدتهم ووساطتها لديه من أجلهم بعضاً من الثقة، كما أنَّ وجودهم وفَّر له أيدي عاملة ماهرة إضافية في مزارع الكنيسة، لأنَّهم في أوقات مَلَلِهِم يتوجَّهون إلى الأرض، وقد باشروا بتعليمه كيفية صناعة الدبس والمربَّى الخاص بشتى أنواع الفواكه التي تُزرع في جبال الخليل، وخاصَّة مربَّى السفرجل والعنب والمشمش، ووعدوه بتعليمه كيفية صناعة الكُسبة في وقت لاحق عندما يحلُّ الصيف وينضج محصول السمسم.
مغامرة فنية، حدثٌ، أحداثٌ تحملها الرواية تنهض ما بين الشعر والنثر، كي يكون التأثير أقوى. طبعاً لا يُخفي المؤلف تلجلجه واندفاعاته وحماسه، إذ يقف وراء الأزجال التي تؤدي دوراً نقدياً فيها تحدٍّ للفناء؛ فناء الإنسان الفلسطيني وإن كانت مدينة الخليل مسرح الأحداث التراجيدية لروايته، بل إنه يكشف عن شجاعة شخصياته من النساء والرجال لدرجة أن الكلام غير كافٍ لوصف ما يغور في أعماقهم، لقد كنَّا نحتاج إلى الموسيقى.