لا تنافس القصّة القصيرة الرواية (سيّدة المشهد الأدبيّ اليوم) إلا في أمر واحد: قدرتها على السّير عكس اتّجاه الهلهلة السّرديّة وفيض الحكي لغةً وبناءً ومقولةً مهما بلغت، نحو عالم متقشّف لا يهدف إلى التماهي مع سرد الروايات الوطنيّة والأبعاد التاريخيّة أو الأوضاع التاريخيّة والمراحل الزمنيّة ذات المقولات الجمعيّة مهما بلغت فردانيّتها. في سرد القصّة القصيرة، ثمّة قانون لا يمكن أن يفلته كاتب قصّة قصيرة ماهر، وهو التحكّم في الخيوط الصغيرة للسّرد بالرّص والقصّ والسّرعة، لتصبح القصّة الأقرب في عملها إلى العالم التقنيّ المتطوّر الذي تطغى عليه السّرعة وتنتقلُ بالإنسان من حال الطمأنينة إلى حال القلق تحت وطأة سيادة السّريع والموجز. لربّما، في هذه الرؤية لصلة القرابة بين شكل القصّة وعملها وعالم السرعة ما يجعل منها المرشّح الأٌقوى مستقبلا في التعبير عن مخاوف الإنسان ورهابه من خلال تكميم التفاصيل بدلاً من كتابتها، حيث يتحقق التعقيد بالإيجاز والتبسيط بالإطناب.
ثمّة محاولة جادّة تخوضها الكاتبة الفلسطينيّة شيخة حليوى نحو ممكنات سرديّة جديدة تقيمَ في مغامرة توسيع الغموض والغياب والصمت من خلال الاختزال الذي يقفز عن المألوف السّرديّ البطيء وينحاز إلى تقنيّات “النانو” أو الصغائر السّرديّة ليكتم ويتخفّى، و”يقسو” على المتلقّي بزيادة التوتّر ومعه زيادة حيّز التفكير والخوف من فجوات أسقطتها الكاتبة في النصوص. هذه الفجوات قد تكون زمنيّة، وقد تكون مكانيّة، وقد تكون اسميّة، أو غيرها، لكنّ غيابها القاسي المتعمّد يورّطُ القارئ في لعبةٍ ساديّة تتحكّم الكاتبة في خيوطها. على طول ثماني عشرة قصّة، لا تترك الكاتبةُ مجالاً، في أي نصّ، للتنفيس والتلذذ، تُبقي على الحذف والإطالة، والسرعة والإبطاء، وتحييد الأسماء قدر الإمكان، وتقليص البداية والنهاية أو توسيعهما بحدود، كل ذلك وفق مبدأ القسوة الذي تحقّق الإثارة والرّغبة في مواصلة اللعبة من طرق المتلقّي إلى أن يصل ختام النصّ، دون أن تتحقّق النجاة أو الوصول إلى النهاية تماماً. كل ذلك يتمّ وسط حفاظ دقيق على حجم السرد “الصغير” دون الوقوع في سيلان لغويّ، زمنيّ، فضائيّ، أو وصفي.
في التكنولوجيا النانويّة تأكيد على ثورة التصغير التجريبيّة، التي أحدثت تطورًا هائلا في عالم التكنولوجيا وأرست دعائم التحكّم المباشر في السّرد ب “ذرّاته” بدلاً من “تمدّداته”. هذه التكنولوجيا الدقيقة غيّرت رؤيتنا للعالم ولمفهوم الأحجام والسيطرة والبُعدية. حلّ المُختزل المعقّد محلّ الكَبير البسيط .هناك رابط قويّ بين التفكير النانويّ السرديّ وبين ثورة التكنولوجيا النانويّة العلميّة، حيث الاعتماد في كليهما على فكرة “البديل” الذي يشتمل في داخله على ثورة في التصور والرؤية المستقبليّة للأشياء وكيف يجب أن تكون، وكلاهما يتخلّصان من عبء الأحجام ويعتمدان على المهارات “الذريّة” في مجاليهما.
وما يميّز نصوص الكاتبة شيخة حليوى أنّها أولا لا تقيمُ وزنًا للانتماء الجندريّ لصاحب العمل، فالشخصيّات تتنوّع وتتشكّل، ذكورًا وإناثًا، طفولة وصبا وحيوات ناضجة، وتتخطّى حرجَ الأنواع الأدبيّة الأخرى في حضرة الرّواية من جهة، وسيادة المقولة الوطنيّة الملتزمة من جهة أخرى، مع مدّ أفق انتظار القارىء وترقّبه كأداة تحسين التلقّي- أن يكون القارئ شريكًا في آلة سرديّة محسّنة، فالطّفل الميّت يخرج من قبره، الكلب المهزوم يعترف، السيّدة تهرب داخل ثقبٍ أبيض، الزوجة تقايض عمرها بخزانة خشبيّة، الشاب يفقد عينيه وهو يلتصق بفتاة حيّة/ميّتة وآخر يتزوّج من دمية ميتة، وغيرها. داخل هذا العالَم السّردي الذي لا يتركُ للمتلقّي فسحةً أو وقفات استراحة بين فقرة وأخرى، لا يتركُ مجالا لاحتفاليّة الأصوات والتعدّد. إنّه يبقي على تكنيك الاختزال حتّى في الشخصيّات التي ترسم الأحداث (أو العكس)، إلى درجة يصبح فيها الصّوت السارد (المتكلّم أو العليم) راكوبةً يعبر بها القارئ عالمًا كاملا أختُزل في فقرات قليلة: سنوات، حيوات، أمراض، طفولة، صدمات تحتاجُ إلى توصيف انفعالات طويلة ليدركها هذا القارئ. عوض ذلك، لا يترك السّرد الوامض، المبنيّ على حركة من الجمل الفعليّة المفرغة من انفعالات، مجالا لعواطف، وكأنّها تصل بنا إلى النهاية عبر جسر الوحدة. الوحدة وفراغات الصّمت التي تقف في خلفيّة الجمل المتراصّة المكتظّة بتتابع المشاهد. هذه الوحدة هي الصّوت المشترك الذي يخرج معصورًا من سردٍ معصور على آخره.
في كتابه الشّهير “الصّوت الوحيد: دراسة في القصّة القصيرة”، يلاحظ فرانك أوكونر، من ضمن الاختلافات المتعدّدة التي يذكرها في مقدّمته للكتاب، الفرق الحسّاس بين الرواية والقصّة القصيرة بقوله: “في القصّة القصيرة، ثمّة خصيصة تميّزها عن الرّواية لا نجدها في الأخيرة وهو الوعي المكثّف بوحدة الإنسان”. ولكتابة وحدة الإنسان، ثمّة طرق عديدة في قصص حليوى تبدأ من تكرار الأسئلة والتساؤلات في قلب النصوص، بداياتها ووسطها ونهاياتها، في صياغات اكتظاظيّة عبثيّة تصل إلى تخوم الرعب، أسئلة لا تنتظر إجابات ماديّة بقدر كَونها تحيل إلى واقع معطوب يتداخل في سرد العجائبيّ ويدخل بينية صراع الفرد مع كل ما يحيطه، ليبقى في نهاية المطاف وحيدًا أمام الموت، في الموت، بجوار الموت، أو هاربًا في غابة، أو مهزوما مثل كلب، أو معطوبًا في ذاكرة، في قناع، في لعبة، في طفولة، إلخ.
عطفًا على مسألة الاكتظاظ، في كتابها “توجيه الصّنعة” تطرح أورسولا لو جين فكرتين حول الكتابة السّرديّة الجيّدة: الاكتظاظ (التراصّ) والقفَزان، وتشرحهما كما يلي: أعني بالاكتظاظ المحافظة على امتلاء القصة، أن تكون دائمًا ممتئلة بما يحدث فيها؛ إبقائها في حالة من الحركة، وليس التراخي والتسكّع داخل التفاهات. أن تبقى مترابطة مع نفسها، غنية بـالرّجع، إلى الأمام وإلى الوراء، حيّة، دقيقة، كثيفة، غنيّة- هذه هي الخصائص التي تصف نثرًا مزدحمًا بالأحاسيس والمعاني والأثر”.
هذا الاكتظاظ هو بذرة الكتابة النانوية السرديّة عند حليوى، فهي تعتمد على الأبعاد الدقيقة جدا للمادّة السّردية، بحيث تتيحُ وسيلة اكتظاظ المفردات وجريان الرّابط بينها في جملة واحدة في ضربة واحدة، تفجير التأويلات اللامتناهية للجملة، وضخّ المزيد من التوتّر في الصّمت المتكون من حول ضجيج الجملة. هذه الكتابة محكومة بقانونيّة في مبنى النص، جملة قصيرة، تعقبها واحدة أو اثنتين طويلتين، ثم جملة قصيرة تسقط في فراغ النصّ، وهكذا دواليك. نأخذ أمثلة لذلك، ما يلي من جمل في نصّها “أصوات قديمة”: “كان يرافقنا في طفولتنا كظلٍّ فقد صاحبه”، ثمّ تعقبها معلومات سريعة في جملتين أطول، وتهوي مجددا نحو جملة مكتظّة أخرى “أين كان يذهب بالهواء الّذي يجمعُه من حولنا؟” تعقبها أربع جمل أطول، ثمّ جملة “ثمّ اختفى إلى الأبد، هكذا اعتقدنا”. هذه القانونيّة في نصّ لا يتجاوز مائتي كلمة، تعتمد فيها المد والجزر في الجمل، وتحافظ على الفجوات واضحةً دون إلى أن ظهر الطفلُ الظلّ فجأة، لم يتغيّر أبدًا، بقي ظلاّ كأنّه يبحثُ عن صاحبِهِ. هذا الاكتظاظ في الجمل يؤثث لسرعة وتوتّر، وتكرار يحملُ معه معنى مختلفًا لمفهوم الظلّ المفردة التي تتكرر ثلاث مرات: مرّة عندما يتمّ تشبيه الطفل في بالظلّ الذي فقد صاحبه، ومرّة يكون فيها الطفل ظلا بلا تشبيه، ومرّة ثالثة يتأكّد حضوره “ظلا” كما لو أنه يبحث عن صاحبه. وفي هذه الصور الثلاث هناك تحوّل في مفهوم الظلّ وحركة باتجاه التغيير، على عكس ما قد يُفهم من جملة “لم يتغيّر أبدًا”.
في هذا النصّ تحديدا تتجمّع كافّة عناصر القصّة القصيرة النانويّة في قدرتها على الاختزال، السّير وفق متوالية محسوبة (الجملة القصيرة، الفقرة، الجملة القصيرة في هيئة تساؤل، ثمّ فقرة، إلخ حتى نصل النهاية التي تقفز فيها الكاتبة عن كلّ التفاصيل باتجاه اختزال واكتظاظ يحققان بضربة واحدة مبدأ الرهبة، والدقة، والغموض كلّها موزّعة في أربعة أسطر تختمها الكاتبة بالسؤال الذي، من جديد، لا ينتظر إجابة:
ماتَ كثيرونَ منّا مختنقين بأصواتٍ لا يعرفونَها، أو بجرعةٍ زائدةٍ منَ الكلامِ.
قليلونَ هم الّذين نجوا من عاصفةِ الكلامِ الطارئة تلك وكنت واحدًا منهم.
لم ننجُ تمامًا.
وإلَا لماذا ظللنا سنواتٍ قبل أنْ نموتَ لا نتكلّم إلاّ من مخروطٍ ورقيّ؟
هذا القفزان، لا يقلّ أهميّة عن الاكتظاظ، بل يتممه، حيث أن، على حدّ تعبير لو جين “ما تقفز عنه، هو ما تتركه. وما تتركه هو أكثر بكثير مما تبقيه في الداخل. لا بدّ وأن تكون هناك مسافة بيضاء حول الكلمة، والصمت من حول الصّوت”.
في السّرد، على الجملة (التي تمثّل الكيان الجوهري للقصّة)، أن تقود إلى الجملة التالية. كلّ جملة تحملُ في طيّاتها مفاجآت وتوتّرات ومساحات مظلمة بقدر نوريّتها. حساب السرد داخل الجملة يحسبُ معه انهياراته أيضًا، فكلّ جملة فائضة قد تؤدّي إلى وفرة في مواد فائضة عن الحاجة وهذا ما قد يجعل السرد المهلهل أشبه بمعماريّة محشوّة بالنفايات. في نصوص حليوى القصصيّة، ثمّة قدر كبير، متحفّز وقلق، من الكتابة يحافظ على توازن الحركة في الجمل والفقرات بتناسبيّة دقيقة حتّى لا تسقط الأحداث في الفضفاض. من هنا تأتي الجمل في قوالب متنوّعة، كلّ مرّة تحافظ فيها على خيط متوتّر، عنيف، سلطويّ، متأهب، قصير، وفي حالة ترقّب للقادم. ومن هنا فإنّها تبني على الفجوة، وتؤثث جوهر الصّمت بالقفز فوق التفاصيل:
كلّ ليلـة يقطـع أبي الطّريـق ُ مـن المقبرة إلى بيتنـا. أسـمع خطواتـه في الحديقة، وأتظاهر بالنوم، بينما هو يبحث عن عصاه التي يخبئها في خزانتي. أتركُ له الباب مفتوحًا، وألعب معه لعبة مسلّية، هو ينسى عينيه في القبر وأنا أخبئ العصا كلّ مرّة في مكان آخر.
في هذه الفقرة الافتتاحيّة، تختبئ كلّ عناصر الأسلوب السّرديّ الذي تقوم عليها كلّ قصص الطلبيّة: فضاءات معلومة لكنّها مساحات غامضة تستر داخلها خليطا من خوف (المقبرة والموت) وطمأنينة (البيت والأمان)، إلى جانب الالتصاق بالمبدأ المحيّد للأسماء، للزمان والمكان (عدا عن كونهما الليل والمقبرة).
نصوص الطلبية هي محاولة جريئة ومتفرّدة لإعطاء الفجوات حقّها في بناء السّرد القصصيّ. أو لنقل، قدرة الصّمت الذي يلفّ التسارع السّرديّ واكتظاظه بأن يثبت حضوره دون أن يطيلَ في تفسير. لا دلالات ترثها الكاتبة من الكتابة الفلسطينيّة المعهودة، باستثناء التغييب الذي يحرر النصوص من هيمنة المكان ويتخطى بالشخصيّات وأصواتها حدود الأسماء، وهوياته، ليكون المغيّب هو المقولة الفلسطينيّة في المعماريّة السرديّة التجريبيّة.