كان التاريخ شفويًا ثم كُتب، بل إن نشأة علم التاريخ بدأت شفوية عبر الروايات والتواتر والإسناد، والحكاية (الحكواتي)، وإدلاء الشهادات، ثم كُتبت. وفي حال لم تكتب، ضاعت؛ “فإذا ضاعت الوثيقة ضاع التاريخ”، أي إنها رهن المعرفة التاريخية. إذن، نحن هنا نقع تحت شرطين: المروية (الراوي/الرواية)، وكتابتها. وليس شرطًا أن يكتب الراوي مرويته، بل ربما يكون ثمة وسيط. أما الوسيط فهو من يثبتها كما هي، وربما يكتبها تاريخًا، في سياق ما، فيتحكم السياق فيها، وتصبح مرهونة بسياسة هذا السياق، وتنتج معرفة تاريخية بناء عليه. فهل يصبح الوسيط/الباحث/ المؤرخ هنا مسيطرًا/ مهيمنًا معرفيًا على هذا المروية/ الوثيقة؟
ما أريد قوله هنا أن الرواية/ المروية ربما تكون صامتة، في تثبيتها، كما هي، من دون مساس، هكذا، خلوًا من الأحكام، والتأويل، والتسييق، والتدوير، والتحليل، والتفكيك، والتحييد (لا تُضرب مثالًا)، والمقارنة… أما إذا عولجت بأي من أدوات البحث والتحليل، تصبح خاضعة لسلطة الأدوات وأحاكمها. سياسة المؤرخ/ الباحث، أو سياسة المؤسسة التي تمتلكها بمجرد تسليمها.
فمن يمتلك هذا الحق في كتابة التاريخ؟ ومن الذي يكتب تاريخهم؟
سأحاول الإجابة عن هذا السؤال في التعامل مع الوثائق/ المرويات، على اختلاف أنواعها، وإن كانت في معظمها روايات شفوية جاءت في مقابلات، وسير، ومذكرات، ويوميات. منها ما حُفظ في المكتبات الوطنية بطريقة رسمية (المدن، البلديات، القرى)، أو في حافظات شخصية لدى العائلات. وهذه المحفوظات يستخدمها الباحثون والمؤرخون.
يكشف هذا الاستخدام بعدًا انتقائيًا في الكشف والستر لأداء دور أو وظيفة ما. وربما للاتجاه الثاني في التعامل مع المرويات دور في كشف المسكوت عنه، وهو يمارس وظيفة كاشفة وناقدة للتاريخ من منظور نقدي. وأظن إنه لمن تعزيز الدوافع في إنتاج نظرية معرفية الإنسانية هو إنتاج أدوات نقدية للكتابة التاريخية، بمعنى كتابة التاريخ المرويّ في أبعادها الاجتماعية والإنسانية، بحيث تتسع منهجياتها لأشكال الحضور الإنساني، وغيابه.
كتب الباحثون/ المؤرخون في العالم، الكتب، والأفلام، والمقالات، إثر الحروب العالمية والأهلية، وإثر الويلات الإنسانية وحوادثها، سمعوا القصص والروايات، وكتبوها. منها ما أثر بشكل مباشر في تشكيل الذاكرة الجمعية وحفظها، ومنها ما كان أثره في فضح الاستعمار والاستلاب والتطهير، ومنها ما زيفت وكذبت وفضحت بغرض الانتشار فقط. أظن، اليوم، أن من أهم مشاريع حفظ الذاكرة وتوثيقها، مشروع بحث وتوثيق القضية الفلسطينية: “ذاكرة فلسطين”. وهو مشروع افتتحه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في العاصمة الأردنية عمّان. يقوم عليه الأستاذ معين الطاهر وفريقه في قسمين؛ المؤرشفين الذين يقومون باستلام الوثائق بأنواعها، ومسحها ضوئيًا، ورقمنتها في بوابة إلكترونية معدة لولوج الباحثين المختصين، وهي مصنفة تاريخيًا، بوصفها وكلماتها المفتاحية، والمعلومات التي يحتاجها الباحث للتعرف إلى الوثيقة، ومن ثم بحثها أنّا شاء. القسم الثاني؛ فريق الباحثين المحررين، ودوره معالجة الوثائق بحثيًا. وهي الشهادات والمذكرات واليوميات، أو بعض الكتب التي تعالج قضايا بحثية.
ومن أبرزها يوميات أكرم زعيتر. في يومياته، يكتب، المناضل في صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية والحركة القومية العربية، ورجل الدولة، أكرم زعيتر، أحداثًا، ويسجل تاريخًا، ويكتب ذاته ومشاعره ووجدانه إزاء الأحداث والأشخاص كذلك. وأكرم زعيتر شخص يكتب “مؤرخًا”، بمعنى أنه كان يعلم أن ثمة من سينشر يومياته، ويبدو هذا واضحًا من شكل ترتيبه ليومياته وتسلسلها، وحرصه على تسجيل التواريخ، ووضوح خطه، وشطبه لبعض الجمل عند مراجعتها، لأسباب شخصية أو سياسية.
وقد نُشرت لأكرم زعيتر عدد من المخطوطات، وهي يومياته، ومنها؛ “سنوات الأزمة 1967-1970”، و“آمال الوحد وآلام الانقسام 1949-1965”، في جزأين، صدرت عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وبعضها الآخر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وهي تسجيل لمراحل مختلفة من حياته. وبالطبع، ما نُشر هو جزء يسير مما كتب زعيتر، وما سجل فيها كان عبارة عن كتابة التاريخ السياسي، وربما يكون في هذا انتقاء وجور على باقي النصوص التي اختزلت من 10.000 صفحة إلى 1000 لكلا الجزأين من يوميات آمال الوحدة وآلام الانقسام، هذا على سبيل المثال. وإن عملية الاختزال والانتقاء، بغير حجب مقصود، أثبتت ما تم الإفصاح عنه من يوميات، ولكنها في ذات الوقت حجبت جانبًا مهمًا من التاريخ الاجتماعي والذاتي لأكرم زعيتر. وأكرم زعيتر، في غير حجب، يكتب ذاته، بمعنى أنه لا يقص حادثة، أو مجريات حوار، أو نتائج اجتماع، أو حدث سياسي كبير، إلا ويكتب مشاعره فيه، وعلاقته بالشخص الذي يخاطبه، والمكان الذي يزوره.
وإذا كانت المصادر، اليوميات منها، جزء من الكتابة التاريخية، فالانتقاء فيها، والتعليق عليها، ونسخها، وتأويلها هو أيضًا جزء من هذه الكتابة (السياسية/ الاجتماعية/…). أليس التاريخ سردًا لأحداث، ومن ثم لمآلاتها وما ينتج عنها، وربما أحيانا تفكير فيها؛ لماذا حدث هذا؟ قد يقوم المؤرخ بالانتقاء والفرز والانتخاب والتعليق، أو ربما ترويض الزمان بمعنى آخر. وهو بذلك ينظم تاريخًا بطريقة أكثر تطورًا من ذاكرتنا العفوية، وهو أمر لا يحصل عند الكتابة الذاتية في السير والمذكرات واليوميات التي قد نفهم منها حدثًا بشكل جانبي، أو من طرف، أو زاوية تصور معينة. إن في الذاكرة الشخصية، والكتابة الذاتية، تشكل، في طور ما، وفي زمن ما، وفي مكان ما، لحدث معين، إنها رواية خاصة لحدث ما. وإذا كان السرد التاريخي بالفعل يتموضوع خلف الوثائق، والرواية تعتمد على مرويات سكب الذاكرة، فلا تستطيع قراءة الوثيقة ولا الذاكرة أن تكون هي الحدث الحقيقي، لأنها بساطة ليست محايدة، ولا يوجد حدث محايد، بل يوجد تصور للذاكرة عنه، وربما هنا تكمن خصوصية اليوميات.
ولليوميات عنصر حكائي، يودّ القارئ لو يبلغ جوهرها، فيتتبعها في حدثها التاريخي، فمعظمنا مثلًا قرأ أو سمع عن حدث الانقلاب في العراق، ولكن خصوصية روايتها التي لا تتكرر في يوميات من شهدوها، وقصوا تفاصيل التنكيل بالعائلة المالكة. أو على سبيل المثال، مجريات النقاشات الأولى، وعقد الاجتماعات، ولقاء الشخصيات، والحوارات الجانبية، التي رواها أكرم زعيتر حول جهوده ومن معه للوحد العربية، فلا تأويل الحدث، أو الحوار الذي رواه زعيتر، ولا التحقق منه، ولا معرفتنا بأحد جوانبه، يخرجه من التاريخ، وإنما يجعلنا نراه في نموذج الوثيقة. وليس للوثيقة التاريخية حد، بمعنى لا أستطيع أن أقول عن يوميات زعيتر بأنها تاريخ سياسي، أو تاريخي اجتماعي، لا يجوز هذا الفصل الصارم في حقول التاريخ عندما تسرده وثيقة.
ونحن، باحثين، أو قرّاء، لا نقرأ أكرم زعيتر بصفته الفردية فقط، ولكن لخصوصية الحدث التاريخي الذي يشارك فيه، أو يسهم في تطوره، أو يفسره، أو يترك لنا انطباعًا عنه، كما تختلف اليوميات عن طبيعة النصوص التاريخية بأنها ليست مجزوءة أو مقتطعة، إلا إذا كان كاتبه قد تعرض لموقف ما أو ظرف معين جعله يتوقف عن الكتابة لفترة معلومة أو غير معلومة، كالمرض أو السفر.
تدعو المدرسة التاريخية الوضعية لاستخدام الوثائق التاريخية، واليوميات جزء منها، كمصدر تاريخي يدعم رأيًا، أو فرضية أو ادعاءً، ولكن، مع ذلك، فإن طريقة استخدام الوثيقة من جانب الباحث، أو المؤرخ له دور مهم؛ طريقة تحليله على سبيل المثال، أو فهمه وتأويله لها، إذ إنه يميل إلى تحليل ما، نسبة إلى فرضيته، ثم يقوم بإسقاطه على فهمه الذي يقدمه للوثيقة. وهذا يعني أن كتابة التاريخ، استعانة بالوثيقة، تنحاز للآراء والأحكام المسبقة عند المؤرخ، وهذا يعني أيضًا خضوع الكتابة التاريخية لفكرة مسيطرة ومهيمنة لمحددات ومؤثرات فكرية ومدرسية ما.
في الكتابة الذاتية؛ يسرد الكاتب ذاته وعلاقته بالأحداث والأشخاص والأماكن، وإذا كان شخص كأكرم زعيتر، يعلم أن يومياته ستصبح يومًا ذات شأن، على صعيد التاريخ السياسي، فإنه بالفعل سيحرص على تسجيل مجريات الأحداث والأحاديث، ولكنه أيضًا، في أنحاء ما، يكتب عن عائلته، علاقته بأخيه عادل، وزوجته، ومراحل تأثيرهما في حياته، وأطفاله كذلك، في وصف الوالد العطوف والمحب، ويسجل أحيانًا انطباعه عن شخص ما، ومشاعره اتجاهه، ومدى ارتياحه له. وفي اليوميات خصوصية تميزها عن الأنواع الأخرى من الكتابة الذاتية كالسير مثلًا، فالتسلسل الزمني ليس بين يدي الرواي، إنه في يومياته، يكتب بضمير المتكلم عما حدث في يومه، ويراقب تطور هذا الحدث الذي يعيش فيه، ويسجله، يحكم عليه، أو يتركه على سجيته، ولكن هناك حبكة ما.
هناك دائمًا حبكة وسرد في يوميات أكرم، وأبطال يساهمون في تطور أحداثها، وانتقال مع الراوي، وهو أحد أبطالها، وهو الذي يوجد مباشرة في وسطها، أو يخرج من دائرة الحدث واصفًا ومفسرًا له، ومتوقعًا أحيانًا لما ستؤول إليه الأحداث، ولكن ذاته تظل موجودة، لذلك فإنه يكتب عن انطباعه عن مكان معين، عن فندق يحل فيه مثلًا، أو بيت سكن فيه، أو بيت سفارة اشتغل فيها، أو طريق مر به. ويكتب عن حالته النفسية قبل أن يتلو خطابًا، أو عندما يقضي ليلة يسبقها نهار حافل، أو عندما يعد تقريرًا، أو عندما يترأس مؤتمرًا. إلى أن الأدوار تتبدل عندما يمتلك القارئ الحكاية، إذ يصبح التأويل ملكًا له، ويتمرد على دائرة الهيرمونطيقا، إن جاز التعبير.
أما في المذكرات، وهي كتابة ذاتية أيضًا، فنكتب بعد فترة من الزمان، ربما عقودًا. يكتب فيها صاحبها من أماكن ذاكرته بعد أن مر بها الزمان، ربما يتغير رأيه في بعض الأحداث والأشخاص، أو ربما تتغير مشاعره، فيكتبها خارج الزمان والمكان، وربما اصطفاء بحسب علاقاته وتحولاتها مع مرور الزمان. وقد كُتبت قبل مذكرات أم جهاد ما يقارب الخمسين مذكرة للنساء. ومن أشهرها مذكرات رحلة نجوى قعوار فرح – 1957، ومذكرات فتاة عربية سميرة أبوغزالة – 1960، وجولة في الذكريات بين لبنان وفلسطين – عنبرة سلام الخالدي 1978، والجذور التي لاترحل – ليلى السائح – 1983، والقدس وأنا – هالة السكاكيني – 1990، وتيتا وأمي وأنا: ثلاث أجيال لنساء عربيات – جين سعيد مقدسي – 2004 (بالإنكليزية)، وذكريات من القدس – سيرين الحسيني شهيد – 2009، وبحثًا عن فاطمة: قصة فلسطينية ثم مذكرات فلسطينية غادة الكرمي – 2014 و2015 (بالإنكليزية)، وسيرة غير بطولية – رندة الخالدي – 2016. ولكل مذكرات منهن أهمية، لعل من أهمها أن تكتب النساء أنفسهن، ألا ينوب عنهن أحد في الكتابة. وهناك من المذكرات ما اخترقت محاذير المذكرات العائلية والاجتماعية ومنظومة العرف والعادات، ومن أمثلتها سيرة فدوى طوقان “رحلة جبلية رحلة صعبة” و”الرحلة الأصعب”.
وانتصار الوزير (أم جهاد)، تروي سيرتها ورحلة نضالها مع زوجها ورفيق دربها خليل الوزير (أبو جهاد)، في “رفقة عمر”، وتوثّق بدايات تأسيس حركة فتح، كما عاشتها واطّلعت عليها، حيث عايشت تحولات ومنعطفات في مسار الحركة الوطنية الفلسطينية. وهي التي أسست أول خليّة نسائية لحركة فتح، وتولّت قيادة قوات العاصفة مؤقتًا. ورحلت وتنقّلت حيثما تطلّب الواجب النضالي، فطبعت البيانات ونقلت الرسائل والسلاح، وشاركت في معسكرات التدريب. توثق أم جهاد كذلك تجربتها في العمل النسائي، وتأسيس الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، وكيف استطاعت المواءمة بين دورها أمًا وزوجة ومناضلة، وصمودها في جميع المراحل الصعبة، ولعل أقساها اغتيال رفيق دربها أمام عينيها. تمكّنت أم جهاد أخيرًا من العودة إلى فلسطين في تموز/ يوليو 1994، بعد اثنين وثلاثين عامًا أمضتها في الغربة والمنافي. المذكرات رغم أحداثها السياسية الكثيرة إلا أنها مليئة بالعاطفة التي تظهر في كل فصول حياتها.
أما أحمد اليماني (أبو ماهر)، في مذكراته، فيروي تفاصيل تجربته الثرية في مذكراته، ابتداءً من طفولته، شاهدًا على إعدام الشهداء الثلاثة؛ عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي، وطالبًا في مدارس صفد وعكا والقدس، ومؤرخًا لمراحل تأسيس الحركة العمالية الفلسطينية وأحداث حرب 1947-1949، ورحلته في الشتات، وتجربته في ميدان العمل التنظيمي الجماهيري والمهني وأطر سياسية وشعبية عدة. وفي الحقيقة، أعتقد أن أبو ماهر في جعبته أكثر مما كتب بكثير، ولكنه أراد أن يبرز الدور الذي ربما يراه الأهم، وهو نشاطه في الحركة العمالية، مبدأ كل عمل. وإنني أوافقه الرأي في الإضاءة على مسند النضال الأول، وهم العمال، بل إن الحركة العمالية سابقة على الأحزاب والحركات الأخرى، ومنطلقها. وإنني أعتقد أن مذكرات اليماني، هذه، هي المرجع الأهم للباحثين والمهتمين عن الحركة العمالية الفلسطينية.
ولكن، هل يكتب التاريخ المهمّشين حتى لو كانوا أبطالًا؟
ثمة دوائر لا ينطق بها المكتوب: الذاكرة المقموعة أو المكبوتة. وذاكرة المناضلين ومقاومين طواهم النسيان. وذاكرة المعذبين والمستضعفين في الحروب والصراعات. وذاكرة المهمشين في السجون والمنفيات والمعتقلات أو المصحّات. وذاكرة شعوب تروي تاريخًا شفويًا وليس لها تاريخ مكتوب.
في بحثي التحريري لـ “مذكرات أبو ماهر اليماني” تعرفت إلى شخصيات في الحركة العمالية، والجبهة الشعبية، اكتشفت أثناء بحثي أن بعض الشخصيات المغمورة، والتي وجدت صعوبة جمة في الترجمة لها، رغم أدوارهم التأسيسية الأولى. بحثت عن سبب عدم ذكرهم أو الأرشفة لهم والكتابة عنهم في الموسوعات والتراجم، وهو أنهم أمضوا معظم حياتهم في السجون الإسرائيلية ومن ثم سجون المخابرات الأردنية، ومعظمهم من الشيوعيين، وخرجوا إما إلى القبور، أو منهكين لا يرغبون إلا في الاختباء. وقد تعرفت إلى معلومات يسيرة عنهم عندما ذكروا في مذكرات أصحابهم.
وصدر، كذلك، عن سلسلة “ذاكرة فلسطين”، كتاب بلال محمد شلش يافا.. “دم على حجر: حامية يافا وفعلها العسكري – دراسة ووثائق”، وهو دراسة تاريخية تحليلية مفصلة في جزأين. عرض الجزء الأول ما لم يُروَ من قبلُ من تاريخ يافا خلال حرب عام 1948 بتوثيق يومياتها، وتتبع خط سير مقاومتها المسلحة؛ منذ بداية تكوينها، ومع تحولات بنيتها، حتى انهيارها وتفككها، في حين يقدم الجزء الثاني وثائق تنوعت بين رسائل وتقارير وتعميمات، وتصريحات وبيانات، وشكاوى ومطالبات، وسجلات تضم قوائم بأسماء مجاهدي حامية يافا وشهدائها، مع عرض يومي لمجريات المعارك التي خاضتها على مدى ثلاثة أشهر، مرفقة بقراءة تحليلية للوقائع.
يتألف الجزء الثاني من الكتاب من ثلاثة فصول، تضم وثائق حامية يافا. في الفصل الأول، يوميات جيش حماة الأقصى/ حامية يافا، تقارير الموقف اليومي ضمن تصنيف زمني، بحيث يطّلع القارئ على يوميات الجبهات العشر على نحو متواصل. حُذفت من الوثائق مقدماتها، وأُعيد صَوغها زمنيًا لتصبح كأنّها مَصُوغة في اليوم المسجلة مواقفُه. وذُيّلت نصوص الموقف اليومي الخاصة بالجبهات بهوامش ضُمّنت بعض المواد المسجلة في تقرير الموقف؛ كتفصيلات الذخيرة المستهلكة والمطلوبة التي كانت تُضمّن أحيانًا في متن التقرير أو تُسجّل في ملحق، وبعض الشكاوى المتعلقة بشؤون التسليح والتموين والمجاهدين، إلى جانب ملاحظات استُخرجت من مصادر أولية عربية وصهيونية وبريطانية.
وقد صدر للكاتب نفسه، كتاب “داخل السور القديم: نصوص قاسم الريماوي عن الجهاد المقدس”، وهو دراسة تحقيقية نقدية، عمد فيها بلال محمد شلش إلى تحقيق مخطوطين غير منشورين لأحد أبرز قادة “الجهاد المقدس”، الدكتور قاسم محمد الريماوي (1918-1982): الأول، تقريره عن الجهاد المقدس المقدّم إلى رئيس الهيئة العربية العليا الحاج محمد أمين الحسيني في عام 1949؛ والثاني، مخطوطه عن عبد القادر الحسيني الذي خطّ مسودته مطلع الخمسينيات. وعرض الباحث تحولات خطاب الريماوي المرتبطة بتحولات نشاطه من العمل في صفوف الجهاد المقدس إلى العمل السياسي، وتحولات الوقائع والتحالفات والصراعات السياسية والاجتماعية المختلفة التي مرت بها المنطقة على امتداد ربع قرن.
في نوع آخر من الكتابة في الذاكرة مخطوطًا لأحمد عز الدين أسعد، بعنوان “بلاد على أهبة الفجر: العصيان المدني والحياة اليومية في بيت ساحور” الذي يبحث في العصيان المدني في بيت ساحور إبّان سنوات الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الأولى (1987)، ويحلل حالة البلدة وأهاليها، متناولًا أدوات العصيان التي طوّروها، والأساليب المختلفة التي خلقوها لمقاومة الهجمات الضريبية الإسرائيلية، وفرض موقف مقابل لسياسات الاحتلال في البلدة، ما سماه الكاتب بالتكيّف العصياني المقاوِم. ويورد الكتاب تحليله السوسيولوجي لمظاهر العصيان معتمدًا على مقابلات شخصية مع عشرات الأفراد من أهالي بيت ساحور، لتسجيل شهاداتهم وانطباعاتهم وتحليلهم لتجربة العصيان التي كانوا جزءًا منها، أفرادًا ومؤسساتٍ أهليةً ودينية ورسمية، مُظهِرًا من خلالها جوانب مختلفة من تجربة المقاومة الشعبية، كما خاضها أصحابها.
وصدرت أيضًا يوميات “عدنان أبو عودة” و”المستدرك في يوميات عدنان أبو عودة”، ضمن سلسلة مذكرات وشهادات، وهو من إعداد معين الطاهر، مشتملًا على مقدمة وستة عشر فصلًا ونص للحوار الذي أجراه معين الطاهر ومعن البياري مع صاحبها، وملحق للوثائق والصور. يُقدّم الحوار الذي يفتتح الكتاب تعريفًا بعدنان أبو عودة؛ توجهاته الفكرية وانتماءاته السياسية والمناصب التي شغلها خلال تلك الفترة. كما أنّه يقدّم توضيحًا لبعض القضايا التي مرّت بها اليوميات من دون تفصيلها.
تؤرخ اليوميات الوضع السياسي في الأردن وعلاقاته الداخلية والخارجية خلال فترة تدوينها، ناقلة صورة مغايرة لتفصيلات الحوادث التي مرّت بها المنطقة في ذلك الوقت، وانعكاساتها على الداخل الأردني، لتعيد طرحها من وجهة نظر السياسي التي ربما لا يتفق القارئ مع بعضها بالضرورة، غير أنّها، بلا أدنى شك، تضيف أجزاءً تُكمّل صورة المشهد وتتقاطع معه.
وكتاب أبو علاء منصور (محمد يوسف) “رحلة لم تكتمل: محطات على طريق المقاومة”. الكتاب يروي تجربة واقعية، وهو ثري بالأسماء والوقائع والأماكن والتواريخ، لكنّه ليس كتابًا توثيقيًا ولا تأريخيًا، يختار فيه أبو علاء منصور ثلاث محطات للحديث عنها، هو بطل اثنتين منها، وشاهد على الثالثة. يعرض مرحلة دوره القيادي في الإسناد الخارجي للأرض المحتلة منذ أواسط السبعينيات وحتى منتصف التسعينيات، ثمّ تجربته داخل الأرض المحتلة، ودوره القيادي في مرحلة انتفاضة الأقصى وما قبلها، والفترة الوجيزة بعدها. وتقتصر المرحلة الثالثة على الأشهر الستة الأولى من الهبّة التي اندلعت في خريف عام 2015، وكان فيها مراقبًا ومحلّلًا.
أما كتاب “ما بين الثورة والدبلوماسية” للدبلوماسي الفلسطيني السابق خير الدين عبد الرحمن الذي شغل منصب المفوض السياسي العام ومسؤول دائرة التعبئة الفكرية والتوجيه السياسي في القيادة العامة لقوات العاصفة، وممثل فلسطين وسفيرها في دول عديدة. ضم الكتاب عناوينَ غلب عليها الطابع المكاني، إذ رُبطت الحوادث بالأمكنة، ونُسّقت في مسار زمني يقدّم سردًا لتجربة المؤلف في العمل الدبلوماسي الفلسطيني، ليرسم من خلاله خطوطًا عريضة لملامح السياسة الفلسطينية وتحولاتها، وما اعترضها من مآزق وإخفاقات، وما حققته من إنجازات ومكتسبات.
وفي كتاب “تبغ وزيتون: حكايات وصور من زمن مقاوم”، رسم معين الطاهر لوحةً تجمع شتلات تبغ الجنوب اللبناني وجذور الزيتون الفلسطيني العتيق، متجاوزًا كتابة سيرة ذاتية إلى إضاءةٍ على سيرة جماعية مكتملة بشخوصها وحوادثها وأطوار نموها ومناخات ازدهارها وحيثيات تراجعها. في هذا الكتاب 13 فصلًا يجمع فيها الطاهر قصة “الكتيبة الطلابية”، ويوثق ما قدّمه رواد تجربة نضالية وطنية أدت دورًا مميزًا في الثورة الفلسطينية المعاصرة. في الفصل الأول، بدايات، يلخص الطاهر فترة انتظار الفلسطينيين طلائع الجيوش العربية التي قيل إنها آتية لنصرتهم بعد النكبة، ولم تأت، وهجرة العائلة إلى يافا، وإقامته في الإسكندرية، ثم في نابلس عشية حرب 1967، والحرب فالنكسة، وانضمامه إلى حركة فتح. يكتب: “اتصل بي أحد الإخوة عارضًا عليّ الانضمام إلى فتح، ولم أكن حينها أعرف ما هي، ولم يكن يهمني أن أعرف تفصيلاتها، فكلّ ما أثار اهتمامي أنّها حركة مقاومة للاحتلال. كان هذا وحده كافيًا للإجابة عن أسئلتي، ولم أكن مهتمًا بسواه. وكان هاجسي أن أتأكد فعلًا أنّني مع المقاومة وفي صفوفها. فطلبتُ إثباتًا لذلك. في اللقاء الثاني كان معاوية يحمل مسدسًا. ويبدو أنّ هذا وحده كان كفيلًا بإقناعي”.
وكتاب “الحزب الشيوعي الإسرائيلي والنكبة: الموقف والدور”، للكاتب محمود محارب. يعالج الكتاب دور الحزب الشيوعي الإسرائيلي في النكبة، ويتابع انخراطه في الاستراتيجية الإسرائيلية طوال فترة حرب 1948، في جميع المجالات؛ العسكرية والسياسية والفكرية والإعلامية والدولية، لتحقيق هدفها. ويُظهر الكتاب موقف الحزب من إنشاء دولة يهودية في فلسطين، ودعوته إلى إنشائها قبل شهر ونصف الشهر من إصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها بتقسيم فلسطين دولتين. ويقف على الأهمية التاريخية التي أعطاها الحزب الشيوعي لهذا القرار؛ نظرًا إلى منحه شرعية دولية لإنشاء دولة للمستوطنين اليهود في فلسطين. كما يوضح تأييد الحزب، على نحوٍ علني وفعّال، خرق إسرائيل هذا القرار خلال الحرب، ودعم احتلال الهاغاناه والجيش الإسرائيلي أراضيَ عربية فلسطينية ضمن الدولة العربية الفلسطينية وفق قرار التقسيم، وتأييده رفض انسحاب الجيش الإسرائيلي منها.
إن الذاكرة كينونة، وحالة بيولوجية وسيكولوجية واجتماعية، في زمان ومكان، أو انفلات منهما، وعلم التاريخ أدوات التحقيق والتدقيق (أنثروبولوجية، وسيسيولوجية، لسانية، عمرانية..) والنقد فيها، إنه إنتاج لها في أشكال مختلفة.