في العمل الروائي الأحدث “الجنة أجمل من بعيد” للكاتبة اللبنانية كاتيا الطويل؛ الصادرة عن دار هاشيت أنطوان/ نوفل في بيروت 2021، وهي الرواية الثانية بعد عملها الروائي الأوّل “السماء تهرب كل يوم (2015)”، كلا الراوي وشخصيات الرواية على غير وفاق. راوٍ يريد أن يكتب روايته، وشخصياتٌ تنقلب عليه كما لو أنها تريد أن تكسر يده لا قلمه فحسب. فإما أن يكتبوا روايتهم، أو أنهم لن يسمحوا له بالكتابة. صراع بين خالقٍ ومخلوقاته، ولا مجال للتقارب أو التفاهم في عالم متوحش، متقهقر، الإنسان فيه أعزل.
غنائيّة عنيفة
الروائية كاتيا الطويل (من مواليد 1990)، تكتب عن صرخات التمرد عند الإنسان، فهي وشخصيات روايتها التي تكاد تتغلب عليها- تقهرها، ولا تنقهر لأنهم من صنيعتها، تمارسُ على قارئها عنفاً، أو هي تكتب روايتها بغنائية عنيفة عن عزلة وخيبة الإنسان الميتافيزيائية. وجود ولا وجود.
لعبة روائية، أو مغامرة. فلا يهز الإنسان رأسه بالموافقة وهو يصغي للنصائح والإرشادات في الاجتماعات القطيعية وكأنه مثل الحيوانات التي تبحث، أو التي لا تريد غير الطعام والدفء. نصائح خادعة ووقحة لتسلبك حريتك. كاتيا الطويل تُحرِّض شخصياتها على عصيانها، فلا يستسلموا لها في الوقت الذي تعمل فيه على السيطرة عليهم، فتهاجم من خلالهم خور البشر الذين يتحولون إلى غوغاء ورعاع. تريد منهم أن يثوروا وبعيداً عن سلطة ووصايا الآلهة. لكنها وهي تحاول ترويضهم، ولا يتروضون على العيش كما تريد، تراهم لا يأبهون لسأم الحياة وعبثيتها وآلامها. هم مصممون على تحديها، هم ضد الضعف الإنساني، ضد طردهم من الحياة والحياة لهم: أنا الغريب الذي لا يعرف لماذا خُلق سأبدأ هذه الرواية من دون انتظار الكاتبة. سأكتب روايتي، وستساعدونني في ذلك. أطالب بحقي في أن أكتب روايتي بنفسي.
شخصيات متمردة حيناً ومسالمة حيناً آخر
الروائية كاتيا الطويل تروي عن عجز الإنسان وجهله وضعفه وحيرته وبحثه الدائم عن ذاته، وإن ادَّعى مستخدماً عنجهيته بعدم مبالاته بالناس مثل من وضعَ يده على الحقيقة ووقف موقف الحياد: لديَّ نوع من اكتفاء ذاتي بنيته لنفسي ورحتُ أربِّيه كلَّ يوم وأرسله إلى مدرسة الحياة. لستُ أنانياً. أنا فقط لا أبالي بالناس. لا أكرههم ولا أحسدهم ولا أتعلَّق بهم. أساعدهم متى استطعت. أسايرهم عند الضرورة. أتجنَّبهم عموماً. الواقع أنَّني لم أتعلَّم يوماً كيف أدَّعي أنَّني أبالي. توقَّفت عن المبالاة. هكذا. ببساطة. ليس عن تكبُّر أو عن أنانية. لا أبالي لأنّني لم أتعلَّم أن أبالي كما لم أتعلَّم أن أحب. الأمر على هذه البساطة. إمَّا أن تتعلَّم وإمَّا أن تبقى حياتك بأكملها عاجزاً عاطفياً. وأنا لم أجد مَنْ يعلِّمُني أن أبالي. كان أبي مشغولاً بواجباته الاجتماعية بينما لم تعلم أمي كيف تؤدِّي دورها كاملاً. ربَّما هي الأخرى لم تكن تعرف كيف تبالي. أو كيف تحب. ربَّما هي الأخرى لم يعلِّموها.
كاتيا الطويل ومعها شخصياتها المتمردة حيناً والمسالمة حيناً آخر في صراعها، الرواية تقوم على صراع أفكار- لا ترى أن الحقائق ملقاة على قارعة الطريق، أو أنها تعوم فوق بحر من الزئبق. لا استسلام، فالكاتب والراوي وشخصيات الرواية هم الحكَّام والشهود المخيفون. لا يبالون؛ ولكنهم غير تائهون ولم يصابوا بمرض فقدان الذاكرة أمام فوضى الحياة المخيبة لآمالهم. فالحقيقة أن تثور من أجلها لأنها ضرورة روحية، ليقوم، ويستمر ذاك الصراع بين الكاتبة التي تتوقف عن البحث والكتابة في عملية تبادل أدوار بينها وبين الشخصيتين المركزيتين- بين قرائها، فيكتبان عنها روايتهما؛ الرواية لعبة فنية يلعب فيها الرواي مع شخصياته، فيوقفونه عن الكتابة ليكتبوا ما يعانونه وما يفكرون به، فلا أحد يعاني عن أحد – وإن جازَ وصار؛ فلا أحد بالتأكيد يمكن أن يفكِّر عن أحد.
إنَّ الروائية كاتيا الطويل في روايتها “الجنة أجمل من بعيد” تتحد وتنفصل عن شخصياتها، تكتب وتستعين بالقرَاء وبشخصيات من الروايات العالمية مثل: أنا كارنينا تولستوي، فاوست غوتة، جولييت شكسبير وغيرها، لا لتغذي الرواية بالثرثرة، ولكن لتفرض عقداً روائية هي من اعترافات شخصياتها وصراعهم مع الراوية المؤلفة؛ إنها ترجمة ذاتية لما يفكِّر فيه الإنسان من تقييد لحريته.
كاتيا الطويل تلعب بالسرد بحثاً عن شكل روائي القارئُ طرفٌ في بنيته، وتورد سبع محاولات لكتابة روايات فاشلة: اللامبالي، المهمَّش من قبل أسرته رغم حيوته وتفوقه، الكذَّاب، والسارق-الحرامي، بائع الجرائد الذي يشتغل مُخبراً للأمن، والمهرِّب، والمعتدي على أرزاق جاره- على نبع مائه. وهي إذ تكتب روايتها “الجنة أجمل من بعيد” وضمن شروط وجودية التمرُّد، وذلك لتكسر القاعدة التقليدية للكتابة الروائية، ولتدفعنا للدخول في مشكلة الشكل الروائي الذي تقترحه في إشراك القارئ في كتابة الرواية مع (أنا) الراوي المركزية، التي تمارس سلطة مطلقة في تأسيس ديناميكية السرد الروائي، حتى وهي تمنح شخصياتها حرية إبداء الرأي باعتبار أنَّهم ليسوا ضحايا صامتة، كما في الروايات التي يذهب أبطالها إلى مصائرهم رغبةً أو رهبةً.