مدخل
هل ثمة شكل بصري لذاكرة الثورة الفلسطينية؟ سؤال مفاهيمي لا بد له من التفكك إلى شكل أبسط منه وأقل سياسية: ما الذي نتذكره بصريًا -كجماعة فلسطينية وأفراد- من الثورة الفلسطينية، وما هو النص البصري في هذه الحالة؟
يقع السؤال السابق أول ما يقع في خضم أزمة فلسطينية لها علاقة بالذاكرة وسياساتها، والأهم أزمة الجسد الأرشيفي The Archival Body، والتي هي أزمة سابقة على أزمة كولونيالية الأرشيف، كما وصفتها آن لورا ستولر في كتابها Along the Archival Grain من حيث تفكيك المنطق الكولونيالي والسلطوي للأرشيف كمؤسسة وشبكة علاقات، وليس فقط “مكان” لحفظ “الوثائق”، إنما المشكلة تقع في غياب التأريخ بمعناه الممأسس فلسطينيًا، والأهم؛ غياب إنتاج معرفي نازع للكولونيالية. ولنا هنا أن نشير ليس فقط إلى الأرشفة والتأريخ باعتبارهما سياسات ذاكرة مأزومة فلسطينيًا، إنما لو قرأنا السياق معكوسًا: لوجدنا الأزمة -أيضًا- في أشكال النسيان Oblivion وكذلك فقدان الذاكرة Amnesia.
أتت أوسلو فلسطينيًا لا لتؤسس فقط شكلًا من أشكال فقدان حالة فقدان الوطن الفلسطيني، إنما أتت لتؤسس نسيانًا ما في الذاكرة، وعمليات التذكر، الذي سرعان ما توجهت أجهزة الدولة الحديثة (هل هي دولة وهل هي حديثة؟) إلى الدفع به إلى أن يكون شكلًا من أشكال فقدان الذاكرة الجمعي. إلا أن النسيان هو أيضًا شكل من أشكال التذكر، فنحن لا نستطيع أن ننسى إلا ما نعرفه، وهنا يظهر التباين بين النسيان وفقدان الذاكرة. صحيح أن الدولة الحديثة (وهو ما سنطلقه اعتباطيًا على نتاج أوسلو المعطوب) هو مؤسسة تقوم على الذاكرة بما هي سياسة خطابية، إلا أن الحداثة أيضًا في ذاتها تقوم على افتراض الغياب، ومركزته لإدارة سياسات التذكر. لعل هذا المدخل المفاهيمي (بأسئلته) يؤسس لمقاربة الشكل البصري للثورة الفلسطينية بين الذاكرة والنسيان.
لدى تناول الأرشيف البصري للثورة الفلسطينية، فإن علاقته مع الذاكرة هنا هي فعل اجتماعي، يحدث ضمن سياق اجتماعي ما، يتغير بتغير الزمن، وموقع التذكر. واستحضار الذاكرة المتمثلة في الأرشيف البصري للثورة الفلسطينية، لا يقتصر على التدليل للسياق الاجتماعي فحسب، إنما رسم ذاكرة الجماعة، وسياسات الطمس والإظهار فيها، وعليه فإن دراسة الأرشيف البصري في ذاتها إنما تلقي ضوءًا على موقع الجماعة وعلاقات القوى داخل مبنى الذاكرة فيها، وليس فقط علاقات القوة في الأرشيف نفسه.
أماكن الذاكرة
تبدأ المقاربة بين أيدينا عن الأرشيف البصري للثورة الفلسطينية من خلال ربط ثلاثة عناصر أساسية:
الثورة بصريًا أو العناصر البصرية في فعل الثورة، المكان/المدينة الفلسطيني/ة، وأخيرًا السياسات الدولانية الحداثية.
ولكي نبدأ في ربط الخيوط سويًا لخلق مشهد تركيبي تحليلي، نذهب بالإشارة إلى لحظة الفقدان الأولى، والخروج من الزمان والمكان الفلسطينيين، ونعني النكبة 1948. وفيها يفقد الفلسطيني مكانه/جغرافيته وزمانه/تاريخه، وهي اللحظة التي راكمت كل الديناميات التخيلية للمشهد البصري الفلسطيني، والذي تحدد له هدف رئيسي وهو استعادة المكان والزمان الفلسطينيين، على مستوى الرمز والخيال، حدث ذلك قبل أن تكون هناك ثورة فلسطينية لها أرشيفها.
كانت الأداة الرئيسية -منطقيًا- لربط الزمان والمكان الفلسطينيين المستعادين على مستوى الرمز هو الجسد الفلسطيني، لذا نجد عنصر الجسد المتحرك في النماذج الأولى من ملصقات الثورة الفلسطينية، له امتداداته في نماذج فنية تشكيلية سبقت عليه (نماذج ذلك هو الملصقات والأعمال الفنية الفلسطينية في الخمسينيات، ومنتصف الستينيات).
لنا هنا أن نستعير مفهوم “أماكن الذاكرة”، الذي أسس له المؤرخ الفرنسي بيير نورا في دراسته عن الثورة الفرنسية، إذ قارن بين التاريخ المصطنع كما أسماه، والذاكرة الحية، وأن ثمة انفصال يحدث بين الذاكرة والتاريخ، باعتبار أن التاريخ إنما يبنى ويتشكل، ويعاد بناؤه وتشكيله على الدوام. فأماكن الذاكرة كما يطرحها هي الوجود المادي أو الرمزي الذي ساهم التدخل البشري في تحويله إلى رمز ذاكراتي، توظفه الجماعة لترسيم حدودها وتراثها والأهم وجودها الزمني.
ينطبق هذا الطرح على الأرشيف البصري للثورة الفلسطينية، وبالذات أن لا دولة بالشكل الحديث تقف ورائه، ما يعطيه زخمًا أكبر كما يشير نورا. ما يجعل أماكن الذاكرة مواقع تحل محل مواقع العالم الحقيقي التي عايشها الناس ماضيًا. الذاكرة الحية تتمرد على التاريخ لأنها تشعر وكأنه مؤامرة عليها.
من هذه النقطة تحديدًا تحولت الأرشيف البصري الفلسطيني للثورة إلى مقاربة مبنية على البروباغندا البصرية. فاتخذ مرحلة أخرى جديدة.
البروباغندا البصرية
في الشق الفاصل بين الذاكرة والتاريخ في النص البصري/الفني الفلسطيني، يبدأ عمل البروباغندا. و”البروباغندا” يشار إليها على الدوام بشكلٍ إزدرائي، حتى في الدراسات الأكاديمية (أو أغلبها)، وعادة ما تتملص الملصقات السياسية من نموذج الاحتجاج المدني وسمة البروباغندا باعتبارهما شكلًا من أشكال الالتزام السياسي/الأيديولوجي، وتمتدح لمساهمتها السياسية في “قضية عادلة”.
لكن في حالة ملصقات الثورة الفلسطينية، فالأمر يتجاوز التبسيط الذي تفترضه ثنائية بروباغندا والالتزام السياسي (الأمر يشبه حالة ملصقات منظمة OSPAAAL الكوبية للتضامن مع شعوب أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. فملصقات الثورة الفلسطينية تجاوزت فكرة إحكام المعنى السياسي، إلى فضاء الذاكرة التاريخية القائمة على المعنى الفلسطيني الأعم، حتى بعض تلك الملصقات الفصائلية. وبالتالي لم يكن بوسع أي طرف مستهدف بتلك الملصقات أن يرفض ملصقات أطراف أخرى، بدعوى أنه هو الملتزم سياسيًا، فلسطينيًا.
لعل نماذج الملصقات الثورية الفلسطينية كانت أحد أهم الأسس في مراجعة – إعادة النظر في مصطلح البروباغندا، وهي الدراسات النقدية لوسائل الإعلام التي أرست قواعدها “الدراسات الثقافية البريطانية”، في بيرمينغهام في الستينيات، والتي تخلت عن مصطلح بروباغندا لمصلحة مفاهيم بديلة مبنية على نماذج معدلة لمسارات الاتصال.
الموت والذاكرة والدولة/السلطة
كان لبحث ستيورات هول “التشفير/فك التشفير” الصادر عام 1973، والمعدل في عام 1980، تأثير بالغ على الأبحاث المتعلقة بوسائل الإعلام الجماهيرية. فقد استعار هول نظريات فوكو عن النظم التمثيلية واللغة والصور، مدافعًا عن إمكانية أن تحمل الصور درجة من التشابه مع الموضوع الممثل، ومع ذلك لا تقدم معنى أحادي ثابت لذلك الموضوع. وفق فوكو ينبني المعنى من خلال خطاب ينتج معرفتنا عن “الواقع”، ويعين الخطاب طرائق التحدث عن موضوع ما ويحددها، وكذلك تأثير القوى المهيمنة في مجتمع ما في فترة محددة تاريخيًا.
هنا يمكننا ربط العلاقة بين سلطة أوسلو والذاكرة البصرية للأرشيف الفلسطيني، بعد أن تخطينا مرحلة البروباغندا بأدوات الليبرالية والرأسمالية الثقافية، باعتبار المنظومة الاستعمارية امتدادًا أصيلًا لها.
يتساءل غرامشي: كيف بالإمكان تحقيق هيمنة ثقافية لأفكار العدالة الاجتماعية الجديدة على المجتمع من دون سيطرة اقتصادية أو سياسية عليه بواسطة رأس المال أو بواسطة الدولة؟” وهنا يؤسس غرامشي مدخله النقدي عن المجتمع المدني بين الهيمنة والسيطرة. يقول عزمي بشارة في كتابه “المجتمع المدني”: “ليس المجتمع المدني هنا هو تلك العلاقة المادية للدولة، ولا هي حيز السوق الذي تجري فيه التعاقدات الاقتصادية المتبادلة بين المالكين. المجتمع المدني هنا هو، بالمفاهيم الماركسية، مبنى فوقي، الذي لا تتم فيه مجرد انعكاسات للصراع الاقتصادي، بل إنه المجال الحاسم نحو تأجيج الصراع الاقتصادي وحسمه. وبمعنى ما، فإنه بالنسبة إلى الوعي الإنساني، المبنى الفوقي الذي يشكل المجال الحقيقي والحاسم، واستغلال الناس الاقتصادي ليس ذو قيمة إذا لم يخترق وعي الناس وثقافتهم، وإذا لم يقتنع الناس بضرورة مقاومته”. هذا التساؤل هو الشارح لأثر السياسات الرأسمالية في شكلها النيو ليبرالي الأسلوبي على الذاكرة البصرية وعلاقتها بالمكان/المدينة المدولنة فلسطينيًا، في استمرار لسيطرة الدولة وجعل خطابها الثقافي هو المهيمن اجتماعيًا حتى على مستوى الصورة المتخيلة والذاكرة البصرية.
إن الخروج والفقدان والموت والنضال والمعركة والبندقية والعودة وغيرها، كلها ديناميات مخيالية بصرية في الأرشيف البصري للثورة الفلسطينية قامت بالمراكمة والتحوير على الموت والغياب في لحظة أساسية هي لحظة الفقدان/النكبة. أي أن الموت والغياب هما النصوص اللامرئية للوجود الفلسطيني البصري بكل ترميزاته ومادياته داخل المنظومة الاستعمارية. يقول ريجيس دوبري: “مجتمعاتنا إلى يومنا هذا، كانت واقعيًا مكونة من الأموات أكثر من الأحياء. فخلال آلاف السنين ظل الماضي والغور في الزمن طافحًا ومهددًا الحقل البصري، وظل المختفي يمنح للظاهر قيمته. (…) لذا كان من مصلحة الإنسان التصالح مع اللامرئي بجعله مرئيًا. والتفاوض معه وتمثيله وتشخيصه، أمّا الصورة فهي تشكل هنا لا الرهان، وإنما عماد التبادل والمقايضة في هذا التعامل الدائم بين الرائي واللامرئي”. من هذه العلاقة بالضبط تتضح علاقة الدولة الحديثة في شكلها الأوسلوي بالأرشيف البصري الفلسطيني، باعتبارها المهيمنة على المبنى الفوقي للسياسات الدولانية والاقتصادية النيوليبرالية، وانعكاسها على المجال الثقافي والفني.
جاءت دولة أوسلو ومؤسساتها لترويض المرئي الفلسطيني من التراث الفني وجعله سلعة تخضع للنمذجة النظرية والتقنية، وقد صاحب هذا التوجه سياسات ترويض الموت والخروج والفقدان من خلال مؤسسات الدولة الحديثة، لذا تحول الأرشيف البصري الفلسطيني إلى بيت للذاكرة في شكلها الطقوسي عبر استعادات الممارسات الفنية البيضاء النيوليبرالية، المدعومة من مؤسسات المجتمع المدني الغربية. هنا تجدر الإشارة إلى استمرار شكل من أشكال الملصقات البصرية الفلسطينية كصور الشهداء في مناطق الضفة والتي تستخدم فقط كشكل تفاوضي تنفيسي مع اليومي المعاش فلسطينيًا، وليس للمراكمة الذاكراتية الخطابية والتداولية كما كان هو الحال سابقًا. مايحدث هو تحديث العلاقة مع الوجود البصري للفلسطيني في الأرشيف الفني للثورة، من خلال تحويل النص البصري الفلسطيني إلى أحداث متفرقة، يتم التعامل معها بمعزل عن الموت لصالح مواراته من خلال منطق الدولة الحديثة المتعالي على الموت.
ما يحدث هو إخفاء بصري لمكونات التجربة الوجودية الفلسطينية من موت وفقدان وغياب، يمكن رؤية سياسات موازية له تحدث على مستوى المدينة والمكان الفلسطينيين باسم الدولة الحديثة من خلال سياسات إعادة الإعمار واللبرلة الاقتصادية الحديثة. المؤسسات الفنية هنا لا توثق إنما ترمم، تمامًا كمبادرات إعادة الترميم التي تعالج الفضاء والمساحة والمكان المديني الفلسطيني بعد كل اجتياح ضمن سياسات محو الذاكرة، وإعادة تشكيلها. الأمر يحدث من خلال استخدام استعارة حداثية أساسية وهي “الدولة”، والتي تقوم على السيادة والقانون، وهي الأدوات التي قال عنها فوكو في كتابه “يجب الدفاع عن المجتمع” أن خطابها الفلسفي والقانوني إنما يقوم باخفاء الهزائم والانتصارات ودم المعارك الذي لم يجف. وأما دولنة الأرشفة ووضع الأراشيف -حتى الفنية منها- في علاقة تماهي وتذويت لسياسات الدولة الحديثة إنما يعيد طمس وإخفاء الذاكرة الحية لصالح التاريخ، وما يمر خلال ذلك كله من أشكال هيمنة استعمارية، توثق الأثر ضمن علاقات القوى الخاصة بها، وليس النحن.
يتساءل ريجيس دوبري ماذا سيتبقى للنظرة التي تتمتع بحماية مبالغ فيها حين يغيب الهيكل العظمي، والعفن والمقزز والظليل من الأنف الصحي اليومي؟
“الكآبة المجعدة للمرئي”