الحديث عن الأفراد والمؤسسات والجمهور، في السينما الفلسطينية، يجرّ، في علاقة هذه المسائل ببعضها، إلى حديث عن رأس المال الفلسطيني. هنا يكمن جانب أساسي في أزمة السينما الفلسطينية يتعلق، من ناحية، بالتمويل، وهو قلق أساسي لدى صنّاع الأفلام، ومن ناحية ثانية، بإنشاء دور سينما فلسطينية تكون حاضنة تلقائية لهذه الأفلام وتؤسس لتلك العلاقة اللازمة بينها وبين جمهورها.
العروض الخاصة في المراكز الثقافية، والمهرجانات السنوية، والمنصات الإلكترونية، كلها تقدم الفيلم لمُشاهده الفلسطيني لكنها لا تخلق تلك العلاقة اللازمة بين الفيلم ومُشاهده، والتي لا تنشأ بغير صالات سينما مفتوحة يومياً، لتقدم الفيلم العربي والأجنبي، والفلسطيني متى بدأ جولاته من بعد المهرجانات. لا تنشأ العلاقة بالمشاهدة الفردية في البيت، ولا بالمشاهدة الموسمية في المهرجان، بل بالسلوك الطبيعي في الذهاب إلى الصالة، وبترقّب نزول الفيلم إلى صالات كل البلاد.
يحتاج ذلك إلى دور سينما، ويكون بذلك الفلسطيني، في بلده (الحال في المخيمات خارج الوطن أصعب) غير متأخر عن العالم في مشاهدة الفيلم الفلسطيني، وفي اليوم والتوقيت المناسبين له، لا حسب برمجة عروض خاصة هنا وهناك.
الكلام بوجود الاحتلال عائقاً كافياً لا معنى له. هو كذلك على المدى العميق، بمعنى أن فلسطين لو كانت دولة مستقلة عبَرت عام ١٩٤٨ بسلام، تخطّته كأنه لم يكن، لكانت كالبلدان المجاورة، بصالات سينما عديدة، بل زادت عنها بالنظر إلى حال دور السينما ما قبل النكبة، ويافا حالة متقدمة عربياً في ذلك. لكن، اليوم، يبني الفلسطينيون مراكز ومتاحف ومساحات ومؤسسات بميزانيات عالية غير مفهومة، وكلها ثقافية، وبعضها عملاق حجماً دون أن يعني ذلك شيئاً في مضمونه. ولا نجد من بين كل ذلك دار سينما حقيقية واحدة تعمّر تلك العلاقة اللازمة بين الفيلم وجمهوره.
الكلام بمجتمع محافظ يمنع ذلك، كذلك لا معنى له مع تجاور الغاليري والبار والمقهى والمدرسة والمسرح وغيرها. والكلام بالحال الاقتصادي لا معنى له بالنظر إلى أموال مصروفة على ديكورات ومساحات المراكز الثقافية (إضافة إلى غيرها طبعاً) المعنية بكيف تقدّم العملَ الفني للجمهور أكثر منها بالعمل ذاته، المعنية بهيبتها بدل أهمية العمل الفني وجمالياته ومعانيه. ولا هيبة لرؤوس الأموال في صالة مظلمة تعرض فيلماً ينال، لوحده، جل اهتمام المتلقي.
صنّاع الأفلام، الأفلام بصفتها أعمالاً فنية، المشاهدون أفراداً وجماعات، المؤسسات، المشهد الثقافي، وأساساً علاقة العمل الفني وهو هنا الفيلم، بالمتلقي وهو هنا الجمهور في فلسطين، كلها (وعلاقاتها المتداخلة) ستبقى قاصرة طالما خلت فلسطين من دور سينما، من عكا شمالاً إلى غزة جنوباً. وستبقى العلاقة بين الطرفين متوترة كما هي بين غريبين متوجسٌ أحدهما من نظرة الآخر له.
متى بدأت رؤوس الأموال، أفراداً ومؤسسات، تنظر إلى الفنون بمعزل عن العلاقات العامة والدعاية لذاتها، سنجد دور سينما بدأت تتعمّر، وسيجد الفيلم الفلسطيني جمهوره في الموقع المناسب لكل منها. سيكون ذلك واحدة من تغيّرات في عموم المشهد الثقافي الفلسطيني.