هل ثمة رابط بين ما حدث مؤخرًا في جامعة النجاح في نابلس ومهرجان رام الله للرقص المعاصر؟
قد يبدو في هذا التساؤل شطط ما، وبالذات أنه لا يصدر عن مقاربة سياسية، والسياسي -بشكله الاجرائي البراغماتي- بات غالبًا في أي نظرة إلى الواقع الكثيف في طبقاته، ولكنه أيضًا الدارج. ثمة رابط قوي في نظرنا بين الإثنين في تساؤل كهذا أريد له فتح باب التفكير، وتقشير طبقات العلاقة بين الأطراف، دون إعلاء الصوت للسياسي بما هو ضجيج.
تنطلق المقاربة المزعومة من الادعاء بأن ثمة أزمة ما تمر بها المدينة والجامعة والمنهج، وتبدو شواهدها جلية واضحة، لكن الربط بينها هو ما قد يخفى قليلًا. وهنا سنرتحل قليلًا في موضوعة الرقص باعتبارها مدخلًا جسديًا لفهم العلاقة المشتركة والمتوازية بين تلك الكيانات ونوعية المعارف الصادرة عنها، وما يعتري تلك المعارف من أزمة. وبالذات أن الجسد والرقص والفنون الأدائية ليسوا بعيدين عن مجال البحث لا باعتبارهم مجالات بحثية، ولا أدوات، بل وأنهم قد قدموا باعتبارهم مناهج بحثية في حد ذاتها (يُنظر للمثال لا الحصر كتابات سيلستي سنوبر وكوبر أولبرايت، في إشاراتها إلى الرقص باعتباره موقعًا لدراسة التحولات الاجتماعية، وكتابات عن الجدل المفاهيمي للجسد كتلك التي قدمها نايجل ثريفت وآلان باديو وكولين كاونسيل، أو مقاربات النقد الثقافي للجسد وجسدنة المفاهيم التي قدمها كاننيغهام، وغيرهم الكثير)
لعل ما يميز الرقص في هذا الطرح، هو مضمونه النوعي، باعتباره ممارسة منهجية، Discipline، تتم مقاربتها من خلال طريقتين:
الأولى هي من خلال السياق التاريخي للأجساد، وهنا السياق التاريخي واضح، في مسألة الاحتلال والنظام الاستعماري الاستيطاني، القائم على إخراج الجسد خارج الزمان والمكان. وعليه فإن السياق التاريخي هنا هو الذي تتم من خلاله موضعة تلك الأجساد، وتكوينها (المادي والرمزي)، وهو ما يعطي فرادة ما لها.
أما الطريقة الثانية فتتم من خلال التركيز على شبكة العلاقات الأدائية المنضبطة والدقيقة والأهم المركبة، في حركات الأجساد والتي هي ليست فقط أدائية تواصلية، إنما هي أيضًا حيوية، Vital، وسلبية، Passive، من ناحية العلاقة مع المعاناة والمتعة معًا.
صحيح أنه ما من فصل بين الإثنين، لكن علينا هنا أن نفصل بين الرقص بما يقع عليه من ترميزات، والرقص بما هو بالأساس حركة، لا ترميز لها. يتضح الأمر بتتبع الرقص وتاريخه في السياقات الاستعمارية، ففيها تصبح أي خطوة راقصة ارتيابًا في انخراط في فعل قتال. “حظرت لوائح عدة في نهاية القرن الثامن عشر التجمعات والرقصات القتالية الليلية في جزر الأنتيل وغويانا، مثل رقصات كاليندا، وهي تسمية نكاد نعثر عليها في جميع اللغات الكريولية (لويزيانا وغيانا وهايتي ومارتينيك وغوادالوب). ولم يسمح إلا برقصات بامبولا وهي رقصات منتشرة بين العبيد تجري على وقع الطبول وينتخب فيها ملكة وملك برضى واستحسان البيض غالبًا”(1). وهذا الاستحسان مرده أن تلك العلاقات التي يرسمونها العبيد والقائمة على التوزيع الجندري الرأسي بين الذكور والإناث إنما هو يأتي لدعم الزواج والتكاثر، وبالتالي زيادة رأس مال البيض، لذا فهو يحظى باستحسان على المستوى الأدائي والرمزي. في المقابل تصبح رقصات أخرى كرقصة الكاليندا، والتي استمرت خلسة خلال الليل وبعيدًا عن أنظار البيض، وفي التلا والطبيعة، مجرّمة وممنوعة. فتلك رقصة قامت على الإرث المواجهات والفنون القتالية العابرة للأطلنطي.
الاستدعاء هنا للعلاقة بين القوى المهيمنة والرقص والوجود والفاعلية الجسدية، يحدث باعتبار الرقص يحدث بين الأقطاب المتضادة المتحرك والثابت، السريع والبطيء، الأدائي والتاريخي، التمثيلي Representational وغير التمثيلي Non – Representational. ومن هنا يمكن فهم الاضطراب الذي يحدثه الجسد والحركة والرقص في مواجهة المدينة والجامعة والمنهج.
هذا الاختلال والاضطراب الذي يوقعه الجسد والحركة (والرقص) للثنائيات المنضبطة التي قامت عليها الحداثة، والتي انبنت عليها مؤسسة الجامعة، والمعرفة الحداثية، ومناهجها والمدينة، إنما هو اختلال يفتح مساحة لفضاء ثالث، بتعبير إدوارد سوجا (وليس هومي بابا)، أو ممارسة هيترتوتوبية (نسبة إلى فضاء الهيتروتوبيا الذي أسس له ميشيل فوكو)، وهي الممارسة التي تخلخل مجازات السلطة والهيمنة وتصدر خطابًا مغايرًا لها، يضمن قدرًا من الحركة.
فما نراه في الرقص ليس الكيانات المادية، أو أجسادًا متمايلة أو منثنية ومتحركة. إنما الرقص مظهر أو طيف، نرى فيه اشتباك القوى المحركة لتلك الأجساد على مستوى الرمز والمادة معًا، وبالتالي هي تشتبك في نفس اللحظة مع إدراكنا، ومن خلاله، ومن هنا تصبح تلك الأجساد وحركاتها المادية والرمزية افتراضات، أي تساؤلات ونقد وحوار وتفكيك وتركيب، والأهم مفاوضات، Negotiation، والأهم أنها أجساد غير حقيقية بالمعنى الحداثي.
من هنا يأتي هذا القلق المتراكم في المساحات الحداثية (المدينة، المنهج، الأكاديميا والمعرفة)، الذي حركته تلك الأجساد مراكمة، بحركتها. يقول عزمي بشارة: “الحق في الحركة هو أول الحقوق الأساسية، ومنه اشتقت باقي الحقوق”.(2)
مثلما استضاف مهرجان رام الله للرقص المعاصر فرقًا من العالم، ومنها إنجلترا قدمت عروضًا استوحت نضالات شعوب أخرى في مواجهة الاحتلالات والاستعمارات، بأجسادهم/ن، فإن طلاب النجاح بأجسادهم/ن أيضًا كشفوا بنية السلطة والهيمنة والفساد في الجامعة، وما حدث من عنف تجاه الطلاب إلا جزء آخر من القوى التي تحرك أجسادنا في العموم. لكن هنا الأمر مختلف قليلًا. ولننظر إلى ادعائنا أن الأجساد الراقصة ليست كيانات مادية إنما هي طيف ومظهر لصراع القوى، هذا الأمر صحيح في ما يتعلق بطلاب جامعة النجاح، ولكن الأمر يختلف بالنسبة لرجال الأمن بالجامعة الذين أوقعوا كل هذا العنف على الطلاب.
إذا استخدمنا نفس المجاز لفهم أزمة المعرفة (الإبستيمولوجيا) والمنهج، Discipline، لرأينا أن المناهج العلمية التقليدية الأحادية، Single Discipline، باتت مأزومة لا من حيث قدرتها على تفسير الظواهر فقط، إنما من حيث حاجتها للمناهج والحقول الأخرى كي تتطور هي ذاتها. الأمر ينطبق على الأكاديميا، فلم تعد الجامعة كمؤسسة حداثية قادرة على استيعاب أشكال الوجود المختلفة، وبنية الظواهر المعقدة. وهنا يمكننا الادعاء أن الأبحاث الفنية هي الأداة الأنسب لمقاربة الظواهر الاجتماعية والثقافية. وفي السياق الفلسطيني فإن الحركة والجسد باعتبارهما موارد، Resources، وسياسات، politics، كما هو الحال مع الأرض مورد يخضع لسياسات الهيمنة، هما في لب الصراع، الاجتماعي داخل بنية النظام الاستعماري، إلا أنهما أيضًا في لب الإنتاج النظري للاحتلال. نحيل هنا إلى أدبيات ما يسمى بالظلم الابستيمي، Epistemic Injustice، والتي يمكن للموقعية، Positionality، الفلسطينية أن تقدم مقاربات تنزع هذا الظلم المعرفي وتكون قادرة على إحداث عصيان معرفي، Epistemic Disobedience، يُنتج معرفة مغايرة لمنظومة المعرفة الحداثية ذات التحيز الرأسمالي والكولونيالي. وكل الأدبيات التي تندرج تحت هذا الوصف، تعتمد الحركة مصدرًا للمعرفة، موظفة دراسات حديثة كدراسات الحدود، Borders، والأطراف، Liminalities، والخرائب، Ruins، والجسد الأرشيفي.، وهو ما يمكن أن يخفف من وطأة السياسي على الفلسطيني، ويمنعه من إعادة انتاج كل أشكال القمع الحداثي التي عانى هو بذاته منها.
يقول دولوز في قراءته لفوكو: “السلطة … ليست صفة، بل علاقة: علاقة السلطة هي مجموعة من الصلات المحتملة بين القوى، تجاوزها للقوى السائدة ليس أقل من هيمنة”(3). الحركة هنا هي علاقة بين سلطات مغايرة، فالعروض التي قدمها مهرجان رام الله للرقص المعاصر، هي عروض -كأي عرض راقص- تغير العلاقات بين الثنائيات، كما يخبرنا دولوز، وعليه فهي تمنحنا القدرة على تأمل تلك العلاقات ومفاوضتها من موقع قوة، وليس من موقع خضوع، كما هي الحال في نسيج المدينة، أي مدينة.
فالمدينة، أي مدينة، هي نموذج أو شبكة من العلاقات، التي تأخذ في أغلبها أشكالًا مهيمنة وقمعية، تقع على الجسد والحركة والحيز، والمعنى. وفضاءات القمع تتباين وتختلف هنا، بالذات أننا نتحدث عن سياق وشرط استعماري. مهرجان رام الله هو محاولة ليس فقط لإنتاج معرفة ، ولا لاستحقاق وجودٍ حيزيٍ ما، ولا لإنتاج نص مخالف، أو حتى فتح الذائقة الجمالية على ممكنات جديدة، لكنه أيضًا محاولة لتأمل صيرورة مدننا ومساحاتنا، الفلسطينية الواقعة تحت احتلالين؛ أحدهما مباشر من دولة الاحتلال، والثاني غير مباشر من خلال وكلائها المحليين.
فإذا كان النسيج الحضري والعمراني الحداثي في نموذجه الاستعماري يوظف مفهوم المرونة كتطور مستمر “يسمح للعمارة بأن تصبح معنية بالتعقيد عبر المرونة”(4) كشكل من أشكال الهيمنة، حيث “أن الأحاسيس بالمنحنى كفيلة بتشوهات معقدة استجابة لتأثيرات سياقية، سياسية، جمالية، اقتصادية، بنيوية، وتصويرية”(5)، أي أن السياسية العمرانية والمكانية والحيزية للاحتلال تستخدم مفهوم المرونة للهيمنة، وبالتالي فإن مقاربة الرقص والفنون الأدائية لهذه الأداة المهيمنة الاحتلالية إنما هي مقاربة من موقع المقاومة، ليس على السياق المديني فحسب، إنما كذلك الجسدي والمكاني والمعرفي. يتضح الأمر في مسار الهرجان وعلاقته بالمؤسسة الحداثية، سواءً الاحتلال، أو وكلاؤه، أو المدينة أو الأكاديميا أو المعرفة أو المنهج أو حتى مفهومنا عن أجسادنا كفلسطينيين وفلسطيات.
هل نحن قادرون على قراءة مهرجان رام الله للرقص المعاصر بما هو شكل من أشكال إنتاج المعرفة والحيز والعصيان المعرفي، والجسد، والحركة، وليس فقط مهرجانًا فنيًا أنتجته دوائر الإنتاج الرأسمالية، ليعيد إنتاجها هو؟!