“وُلِدتُ” لجورج بيريك (ترجمة)

Georges Perec

كريم عبد الخالق

كاتب ومترجم من مصر

أين؟ في باريس. ليس في الدائرة العشرين، كما ظننت ردحًا من الزمن، لكن في الدائرة التاسعة عشر. لا شك أنه كان في دار أمومة. مازال اسم الشارع غائبًا عنّي (يمكنني أن أجده أيضًا في شهادة الميلاد).

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

27/09/2022

تصوير: اسماء الغول

كريم عبد الخالق

كاتب ومترجم من مصر

كريم عبد الخالق

عن ترجمة جون ستوروك إلى الإنجليزية من كتاب Species of Spaces and Other Pieces.

تقديم

رغم أن النص التالي يحمل عنوان “وُلِدتُ” وفيه يتحدث الكاتب -منطقيًا- عن ميلاده، فإننا نحتاج في هذه المقدمة أن نتحدث –حقًا- عن ميلاد –وحياة- صاحب هذا النص. وُلد جورج بيريك في السابع من مارس عام 1936 في فرنسا، وفقد والديه في عمر مبكر. كتب بيريك للأدب والسينما، كما حوّل أحد نصوصه إلى فيلم أخرجه بنفسه يحمل عنوان “أماكن الهروب Les Lieux d’une fugue” كما شارك في إخراج فيلم “النائم Un homme qui dort” المأخوذ عن رواية له حملتْ العنوان نفسه. كان بيريك عضوًا في المجموعة الأدبية أوليبو Oulipo group التي كانت تمتاز بالتجريب الأدبي من خلال القيود في الكتابة، فنجده مثلًا يقدم رواية “فن أن تطلب علاوة من مديرك L’art et la manière d’aborder son chef de service pour lui demander une augmentation” عام 1968 والتي استخدم فيها لغة البرمجة، أيضًا رواية “الاختفاء La Disparition” عام 1969 والتي لم يستخدم فيها أبدًا حرف e.

يستمتع بيريك بهذه الألعاب/القيود، ويجد فيها مساحات جديدة ما كان ليجدها في الكتابة العادية. نجده هنا يلعب معنا –خفية- في هذا النص المأخوذ من أحد كراساتهLes Cahiers Georges Perec الذي يتناول فيها سيرته الذاتية والتي نُشرت عام 1988. نص عن الميلاد، عن ميلاد بيريك نفسه –كما يقول العنوان- ولكنه، في الحقيقة، لا يخص ميلاده على الإطلاق، إنه نص عن ميلاد نص يتحدث عن ميلاد بيريك. يحافظ بيريك على إقناعك طوال القراءة أنه سيتحدث عن “الموضوع” حالًا، في السطر القادم ربما، أو قد يبدأ من الفقرة التالية، لكنه لا يفعل أبدًا. هو نص عن ميلاد كذبة، حيث يقول بيريك في النص أن “الاعتراف المكتوب دائمًا بعيد عن الحقيقة”، لذا لا يمكن أن نقول أنه خدعنا بالفعل، إنه ببساطة نص ذاتي عن الهروب من الذات.

النص

7.IX.1970 بلديّة كاروس

وُلدت في 7.3.1936. كم دستة وكم مئة من المرات التي كتبتُ فيها تلك الجملة؟ لا أعرف. أعتقد أنني بدأت كتابتها مبكرًا جدًا، قبل أن أضع أي خطة لكتابة سيرة ذاتية. جعلتها الموضوع الرئيسي لرواية رديئة حملتْ عنوان “أتقدّمُ مرتديًا قناعًا J’Avance masque”، وأيضًا لقصة مساوية في رداءتها (والتي كانت ببساطة إعادة صياغة رديئة للرواية الآنف ذكرها) حملتْ عنوان “خطوات نحو بارناسوس Gradus ad Parnassum”.

أوّل ما يلاحظه القارئ أنها جملة تامة، مكتملة المعنى. من الصعب أن نتخيل نصًا يبدأ بـ”لقد وُلدتُ” نقطة.

على الجانب الآخر يمكن للمرء أن يتوقف بعدما يحدد تاريخ الميلاد.

وُلدت في 7 مارس 1936. نقطة. ذلك ما كنت أفعله في الشهور القليلة السابقة. وهو أيضًا ما كنت أفعله مدة 34 عامًا ونصف، اليوم بالتحديد!

عادة، يُكمِل المرء بعد ذلك. إنها بداية طيبة، بداية تستدعي تفاصيل أكثر، الكثير من التفاصيل، تاريخًا بأكمله.

وُلدتُ في 25 ديسمبر 0000. كان أبي يعمل بالنجارة من وقت لآخر، هذا ما يقولونه. بعد ولادتي بقليل، لم يكن الجينتايلات جَنَاتِلة(١) تمامًا وكان علينا أن نلجأ إلى مصر. هكذا عرفتُ أنني يهودي وأساس قراري الحازم بألا أظل كذلك يجب أن يُرى في ضوء هذه الظروف الدرامية. أما الباقي فإنكم تعرفونه.

الاستمرارية التي تكاد تكون مستحيلة، بمجرد أن يلفظ المرء بـ”وُلدت في 7.3.1936″، تتجسد كشيء مادي حينما أعود لأفكر فيها الآن، في تلك الكتب التي أشرت إليها سابقًا. في “أتقدّمُ مرتديًا قناعًا” يسرد الراوي حياته ثلاث مرات تامة على الأقل، والسرديات الثلاث مزيفة بالتساوي (“الاعتراف المكتوب دائمًا بعيد عن الحقيقة”: كنتُ أتناول الشراب في سفيفو Svevo في ذلك الوقت) لكن ربما مختلفة بشكل كبير.

ليس السؤال “لماذا أستمر؟”، ولا “لماذا لم أستمر؟” (أسئلة عليَّ أن أجيبها في ثالث أقسامي الثلاثة)، بل هو “كيف أستمر؟”.

الحقيقة هي أنني أعود إلى نقطة البداية. وُلدت في 7.3.36. ليكن. أُشعِل سيجارة، أنحرف لأتجول حول حافة المسبح دون نيَّة للسباحة، أُقلّب عبر صفحات الكتب، باحثًا عن افتتاحية نموذجية (وُلدت في…). أُصادف “أكثر صلابة من الخيال Too Strong for Fantasy” سيرة مارشا دافنبورت الذاتية، والتي تتناول فيها بحسب ما أعرف الموسيقى وتشيكوسلوفاكيا؛ يحتوي الكتاب على صور فوتوغرافية وفهرس. سأقرأها باهتمام أكثر. أُقلّب أيضًا عبر مذكرات آن فرانك (لن أستطيع أن أحصل على الكثير من هذا الكتاب)، مقالتيّ إلمر لوخترهاند عن السلوك الاجتماعي في المعسكرات (نُسخ من الأصول طلبتها من الأرشيف). عدا ذلك فإنني أتحلّى بالصبر، أداعب البيانو المتهالك نوعًا ما (أضغط مباشرة على الأوتار)، أُحدّق في عدد فرانس-سسوار France-Soir الذي بات قديمًا الآن، أحلقُ ذقني، أصُبُّ لنفسي بعض البيرة، إلخ (أقضم أحد أظافري، أقص أظافر قدميَّ، أتجول في الأرجاء).

عدا ذلك كله، فإنني، بوضوح، أستخدم الوسيلة الأكثر براعة (؟) لأعرض ذاتي: أستمر في الكتابة التي وصلتْ (حتى الآن) إلى 3 صفحات من هذا الكشكول حتى أصبحتُ غير قادر على الاستمرار…

إما أن هناك استمرارية، أو ليس هناك.

إما أن هناك استمرارية يمكن أن أحكيها، أو ليس هناك.

لنستمر في طرق الموضوع: ماذا؟ من؟ متى؟ أين؟ كيف؟ لماذا؟

ماذا؟ لقد وُلدتُ.

من؟ أنا.

متى؟ 7 مارس 1936.

أكثر دقة؟ لا أعرف الوقت بالتحديد؛ (سوف) أحتاج إلى مراجعة شهادة ميلادي. لنقل أنها التاسعة مساءًا. في يوم ما أيضًا سأحتاج إلى الذهاب إلى دار الكتب لأحصل على بعض الجرائد التي صدرتْ في ذلك اليوم لأرى ماذا حدث يومها. لفترة طويلة من الزمن كنت أعتقد أن 7 مارس 1936 هو اليوم الذي دخل فيه هتلر بولندا. إما أنه قد اختلط عليَّ الأمر فيما يخص التاريخ أو البلد. ربما كان ذلك في 1939 (لا أعتقد ذلك) أو ربما كانت تشيكوسلوفاكيا (ممكن؟) أو النمسا، أو السوديت (٢)، أو وقت عملية أنشلوس(٣)، أو مدينة دانزيغ أو محمية سار، لست خبيرًا في هذا التاريخ كله رغم ذلك فإن الأمور كانت عصيبة بالنسبة لي. مهما يكن، كان هتلر بالفعل صاحب قوة كبيرة وكانت معسكرات الاعتقال قد بدأت بالفعل.

أين؟ في باريس. ليس في الدائرة العشرين، كما ظننت ردحًا من الزمن، لكن في الدائرة التاسعة عشر. لا شك أنه كان في دار أمومة. مازال اسم الشارع غائبًا عنّي (يمكنني أن أجده أيضًا في شهادة الميلاد).

كيف؟ لماذا؟

لماذا؟ سؤال جيد، كما تقول لوسي فان بيلت(٤).

أفضل الكتّاب يقدمون قليلًا من التفاصيل عن والديهم مباشرة تقريبًا بعد أن يعلنوا عن تاريخ قدومهم إلى العالم.

كان اسم أبي آيسك جودكو، لذا يمكن مناداته آيزاك جوزيف، أو إيزيدور إذا أردتم. تتذكر أخته وأبنة أخيه أنهما كانا يناديانه إيزي. بالنسبة لي، كنت أُصرُّ دائمًا على مناداته أندريه.

8 سبتمبر 1970. بلديّة كاروس

اليوم كنت أغلب الوقت ألهو بمواد تلوين مختلفة: أحبار وزيوت، ألوان الجواش والسكاكين.

الساعة الرابعة عصرًا، ربما يمكنني أن أحاول العمل. نيّتي واضحة (إذا أردتم)، والصعوبة قائمة: تقنيات الكتابة، خُدعة البلاغة الأدبية. لست مكبوحًا على يد التواضع (لن يكون ذلك بأي حال من الأحوال موضوع الجدال الأساسي). ماذا إذن؟ ربما ضخامة المهمة هي ما تكبحني. أن أحلَّ الخصلات مرة أخرى، حتى العقدة الأخيرة، أن أنغلق على نفسي مدة لا أعرف كم ستكون من الأسابيع، أم الشهور أم الأعوام (12 عامًا إذا كنتُ أحترم القاعدة التي فرضتها كتابة “الأماكن(٥) “Lieux) في العالم المُغلق لذكرياتي، أُقلّب بينها مرارًا وتكرارًا حتى أشعر بالشبع والاشمئزاز.

 

الهوامش:

١-  الجينتايلات (جنتايل Gentile) وتعني الأغيار، أي غير اليهود. وفضّلنا استخدام اللفظة الأجنبية للمحافظة على الجناس اللفظي مع –اللفظة الأجنبية هي الأخرى- جَنَاتِلة (لطيف gentle).
٢-  السوديت Sudetenland: هو إقليم كان محور نزاع بين ألمانيا النازية وتشيكوسلوفاكيا قبيل الحرب العالمية الثانية.
٣-  عملية أنشلوس Anschluss: عملية عسكرية سلمية تم بموجبها ضم جمهورية النمسا إلى ألمانيا على يد الحكومة النازية وذلك في 12 مارس 1938.
٤-  لوسي فان بيلت Lucy Van Pelt: شخصية من القصص المصورة بيناتس Peanuts.
٥-  الأماكن Lieux: مشروع كتابي لبيريك، حيث يجلس في أماكن محددة كل شهر ولمدة 12 عامًا ويقوم بوصف المكان وما يحتويه من بشر وموجودات، مع إصطحاب صديق لأخذ بعض الصور الفوتوغرافية. كان نيّة بيريك من هذه التجربة هي اختبار مرور الزمن على الأماكن وعلى ذكرياته مع هذه الأماكن، وعلى كتابته عن هذه الأماكن.

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع