تبدو مهمّة التمرّد على الأفلام المصنوعة في المنطقة العربيّة شبه مستحيلة، تحديداً في السينما الروائية التقليدية التي يحاول بعض صنّاعها المناورة في مساحات إبداعية ضيّقة للخروج من حالة ركود على مستوى السرديات والتناولات البصرية في مناخٍ عامّ أصلاً لا يحفّز على المجازفات الفنية، فيصعب الإشارة إلى ما هو متخطّ للرائج سوى محاولات قليلة، ويوماً تلو الآخر تثبت الأفلام التسجيلية والتجريبية تفوّقها على التجارب الروائية إن اعتمدنا هذه التقسيمات غير المنصفة أحياناً، إلّا أن أول فيلم طويل للمخرج المصري محمد شوقي حسن يبدو اقتراحاً سينمائياً يراهن على كسر كل القيود الموضوعة على ما يتوقّع أن يكون فيلماً ناطقاً بالعربية.
“بشتقلك ساعات” المأخوذ عنوانه من الأغنية التسعيناتية الشهيرة، أو في تسميته الإنجليزية المقتبسة من القصيدة الشكسبيرية المكتوبة في حب رجل: “هل أقارنك بيوم من أيام الصيف؟” يفكّك بأساليب بصريّة مشاكسة معنى وشكل الرواية سينمائياً وثقافياً، وما من إرث قصصي أكثر غزارة وإلهاماً من حكايات ألف ليلة وليلة ليبني شوقي من عناصرها الإطار الكبير لقصة الفيلم التي ترويها شهرزاد بصوتها العذب (دنيا مسعود) حول علاقة غرامية تجمع شابين يلتقيان في نادٍ ليلي: أحدهما متعدد العلاقات والآخر لا يزال قليل التجربة وغير مستعد لهذا الشكل من الانفتاح، ومنذ الثواني الأولى تنكسر بسخرية شقيّة عدة مفاهيم تراودنا عمّا يجب أن تكون عليه قصة حب تردّدها على مسامعنا شهرزاد مستهلّة إيّاها بالكليشيه الأبدي المضحك: نظرة، فابتسامة، فموعد، فلقاء!
تدخل على هذه العلاقة خطوط سردية لعلاقات عاطفية وحميمية أخرى تحوّل الفيلم إلى شبكة متفرّعة من القصص يصعب الإمساك بها أو فهمها أحيانا أو معرفة أماكن حدوثها الجغرافية، هذا الإرباك المقصود يتمرّد على السرد الخطي وكذلك على نمطية العلاقات الزوجية وكم بالحري إن كانت بين شبّان، بكتابة سلسة وذكية وبسيطة للحوارات بين الشخصيات ليتحوّل الفيلم إلى كولاج من القصص المتداخلة بدون مركزيّة لأي بطل من الأبطال وبأسلوب فيه دوران في فلك سردي متبعثر، والذي كان بالإمكان تقصيره أو استثماره بانقلاب سردي آخر في نهاية الفيلم كي لا يتسرّب الملل في ثلثه الأخير، لكن هذا لا يقلل من جمالية الحالة الثائرة غير المنقطعة عن الإرث الثقافي العربي بأشكاله المتنوعة من قصص وأغاني وشعر(وديع سعادة)، لكن بتوجّه كويري متّسق يزعزع الرقابة الأبوية على تلقّي وتأويل الفنون، في مشاهد تبدو صادمة ولم تتعوّد عليها العين العربية في التعامل مع البوح والعاطفة والجسد الخاصّين بالرجال على الشاشة.
بين المقدّمة والخاتمة تتحوّر في الفيلم مرجعيّات كثيرة تعود إلى الثقافة الجماهيرية المصرية بخفّة دم ورشاقة تكسباها معنى جديداً، إذ يتغذّى المخرج علي “كليشيّتها” ليقدّمها بتأويل ساخر وإيقاع غير منتظم أقرب بروحه إلى مدينة ملاهي مكتظّة بالشخوص والأضواء والتجريب البصري، مستخدماً تحريك الرسوم والخلفيات المحوسبة والمؤثرات البصرية ومقاطع صوتية تعود لكلاسيكيات السينما المصرية. أما عناوين فصول الفيلم فمعظمها مقتبس من أشهر الأغاني المصرية لنجوم التسعينات والألفينات، والتي يغنّي بعضها أبطال الفيلم (أحمد الجندي، سليم مراد، نديم بحسون، أحمد عوض الله، حسّان ديب) بأصوات رجالية حسّاسة متأثرة بلا شك كمخرج العمل بعالم “الفوازير” والفيديو كليب وأعماق بحار مسلسل ألف ليلة وليلة، لتصبح هذه التوليفة سدادًا لدين قديم يُخرج الفانتازيا من قمقمها ويحرّر التصورات الكويرية حيال ما أفرزه تيار الفن المركزي، وكأنها محاولة لاستعادة الثقافة الجماهيرية وتأويلها من جديد على طريقة مجتمع الميم وتفكيك السيادة الذكورية المرتبطة بشكل وثيق بعصر التلفزيون الرسمي والقناة الرسمية وكل ما ترتب على تصوّرات إعلام الدولة القومية، الذي لا زال يملي على الجمهور طريقة فهم أحادية للفن عبر قمع خفّي قلّما يتطرّق إليه أحد في السينما على هذا النحو المسلّي والمناور.
لا تتخطى عادة الشخصيات المثلية في الأفلام العربية التقليدية (عندما توجد) إطار المحاسبة الأخلاقية والانتقام “الرباني” للشخصية كي يخرج المشاهد من قاعة العرض قرير العين، دون معالجة فنية أو سردية لهذا التنوع المتاح واستثماره في قصص جديدة ومنصفة، ويضطر دوما المؤلفون أو المخرجون إلى الالتفاف والإيحاء لدى تناول شخصيات من هذا القبيل، وهو أمر لا يستغرب في جو عربي عام لا يسمح بتناولات جريئة لارتباطه الوثيق بالرقابة ومصادر التمويل الرسمية أو الخوف من انقلاب الجمهور على صنّاع الأفلام والممثلين عبر تيارات محافظة أصبحت سيفًا على رقاب الفنانين في عصر منصات التواصل الاجتماعي (حالة فيلم “أصحاب ولا أعز” مثالا). وعلى الجانب الآخر عندما تُقرع أبواب المنتجين في الغرب قد يتم استغلال صنّاع الأفلام لإنتاج أعمال مستشرقة للذات، متنصّلة من مشاربها الثقافية، تقوم بإدانة مجتمع كامل ووصمه بالتخلف. قفز “بشتقلك ساعات” المشترك إنتاجه بين مصر، لبنان وألمانيا على امتداد ٦٦ دقيقة عرض عن كل هذه المتاهات ولم يقع في فخّ يُنصب عادة لأفلام تتناول الجنسانية والمثلية، لتتدفّق فيه بحرارة مشاعر الحب والنشوة والحيرة والاستكشاف دون جلد للذات وباحتفاء كرنفالي برّاق، أكثر ما يميّزه الصدق وعدم خوفه من التجريب الحقيقي.
عندما عرض الفيلم للمرة الأولى في بدايات هذا العام في قسم “منتدى” (فوروم) في مهرجان برلين السينمائي الدولي قوبل بموجة هجوم في الإعلام المصري واتهم بإساءته لمصر، تهمة لطالما كانت جاهزة لمهاجمة أي سينما تغرّد خارج السرب من أيام شاهين وخان ووصولا إلى عمر الزهيري ومحمد شوقي. تجربة الأخير تطرح أملا في شقّ طريق لسينما عربية غير مكبّلة لا يهمّها أن تغازل جمهوراً متخيّلا، قد نتّفق أو نختلف على مدى تواصلنا مع هذه الأفلام أو مع الخيارات الفنيّة لصانعيها، لكن لا يملك أحد وصاية أخلاقية على عرضها أو منعها من ذلك. المحاربة على مزيد من الحريّات في التصورات السينمائية هي الطريقة الوحيدة لكسر اللعنة الجاثمة على الأفلام العربية.