في كتابه الجديد “مفهوم التحرر في منظار الثقافة النقدية الفلسطينية” الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية هذا العام، يبدأ الباحث الدكتور ماهر الشريف في المقدمة بطرح سؤال مهم وحساس ويشكل روح هذا الكتاب المرجعي وهو: هل ينبغي لنا إرجاء مهمات التحرر المجتمعي إلى ما بعد إنجاز مهمات التحرر الوطني؟
لكن المثقفين النقديين الذين يتحدث عنهم الباحث هم من قدروا أن التحرر المجتمعي هو شرط النجاح في تحقيق مهمات التحرر الوطني وبلوغ الاستقلال. ويحدد أن المثقف النقدي الذي يعنيه في كل أبحاثه ومساهماته السابقة هو الذي “رفض أن يكون آلة في يد السلطان، وأن يحصر وظيفته في حدود ضيقة بما يضمن له التمييز والاحترام واعتقد أن عليه رسالة يؤديها، فوضع معرفته في خدمة المصلحة العامة، ناشراً الوعي بضرورة التغيير وهو في هذا لم يضع الثقافة في تعارض مع السياسة ولم يعمل على إحاطة الثقافة بسياج يحميها ويصون عفنها بل سعى لإصلاح السياسة وتهذيب ممارساتها وتغيير دلالاتها وإيجاد علاقة بينها وبين الثقافة تضمن لهذه الأخيرة استقلالية حقلها ومعرفتها”.
وتأتي أهمية وضرورة هذا الكتاب، لنا نحن الكتاب والمهتمين والباحثين في حقل الثقافة، لا بل كأصحاب قضية ومهتمين بها، فهو يفتح لنا الباب أمام ما قاله وفكر به المثقف النقدي الفلسطيني بشأن قضايا التحرر في حقبة زمنية حساسة منذ النكبة حتى عام 1994. فهكذا ربما نرى خريطة شاملة حول آراء هؤلاء المثقفين الذين كان لهم الدور الهام في الهامنا. فأعطى الباحث مساحة للكثيرين منهم: ادوارد سعيد، غسان كنفاني، أنيس الصايغ، هشام شرابي، اميل توما، محمود درويش، فيحاء عبد الهادي وغيرهم. لكننا ونحن نقرأ حول ما بحثوا به عن علاقة المثقف بالسياسة أو قضية تحرر المرأة أو ما قالوه عن قضايا أخرى مثل التطبيع الثقافي، يأتي الى الذهن سؤالاً: لماذا لم يفلح المثقف النقدي الفلسطيني في وضع المشروع التحرري الحداثي موضع التطبيق؟ يجيب الباحث عن هذا السؤال في نهاية الكتاب ويشرح كيف أن الأمر يتعلق باختلال موازين القوى وافتقارنا إلى تربة اجتماعية تنمو فيها بذور الحداثة.
في زمن نحتاج فيه لتلك البذور، نحن بحاجة لتحقيق ذلك لاستعادة ما آمن وعمل به هؤلاء المثقفون، ربما أيضا للاستماع مرة أخرى لما نفتقد إليه. تضع هذه الآراء القارئ أمام التفكير برأيه الخاص بشأن هذه القضايا وتحفزه لاكتشافها. ينبه الباحث في بحثه المبني على “المنهج الوصفي” أن اختياره لهذه العينة من المثقفين والمثقفات لا يعني مطلقاً أن حقل الثقافة قد اقتصر عليهم، وأن هذا الكتاب كان في الأصل ورقة قدمها إلى مؤتمر “الثقافة الفلسطينية اليوم، تعبيرات وتحديات وآفاق” التي نظمته مؤسسة الدراسات بالتعاون مع كلية الفنون والموسيقى في جامعة بيرزيت عام 2021.
المثقف والسياسة
وعن علاقة المثقف بالسياسة ودوره في المجتمع، يعرض الباحث في الفصل الأول، آراء وأفكار المثقفين المتباينة حول تلك العلاقة، فرأى ادوارد سعيد بفصل المثقف عن السياسي ولكنه لاحظ التوتر الذي يعانيه المثقف لدى فصله من النطاقين السياسي والعمومي، وأكد هشام شرابي أن المثقف العربي ليس قادرا على “أن يتجنب الخوض في غمار السياسة وهكذا أيضاً أشار أنيس الصايغ أن دور المثقف يجب أن يتخذ طابعاً استشارياً فليس المطلوب منه أن يدير العمل السياسي، فاستذكر هنا تجربته في مركز الأبحاث الفلسطيني، وأنه حاول كمثقف أن يصنع التحاما بينه وبين السياسي الذي كان يمثله رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات. وفي الشعر أيضاً أقر محمود درويش أنه تخلى عن الشعر السياسي المباشر من دون أن يتخلى عن مفهوم “المقاومة الجمالية.” أما غسان كنفاني فلم يفصل بين الثقافة والسياسة وظل يحلم بطليعة أدبية فلسطينية تستنبت طليعة سياسية فلسطينية، على خلاف جبرا الذي فصل بين الثقافة والسياسة وانبهر في رواياته شديد الانبهار بالثقافة.
الخطاب النقدي والعمق العربي والإنساني
وعن الخطاب النقدي في الثقافة الفلسطينية، عرض الباحث في الفصل الثاني ما ميز هذا الخطاب من إبراز لخصوصية الهوية الفلسطينية، وكيف ركز على جوهر الضعف الفلسطيني لا على ظواهره وعلى إعلاء شأن العمق العربي للثقافة الفلسطينية والإيمان بأهمية التفاعل الثقافي. فأبرز ادوارد سعيد أهمية الذاكرة في التجربة الفلسطينية واعتبرها أداة جمعية بالغة القوة لحفظ الهوية وحذر شريف كناعنة من مخاطر انحلال الهوية وعبر أنها تواجه منافسة شديدة من مستويات أوسع من المستوى الفلسطيني كمستوى القومية العربية ومستوى الدين الإسلامي والتنظيمات السياسية. وتناغما مع مثقفين نقديين عرب مثل قسطنطين زريق، اعتبر المثقفين النقديين الفلسطينيين أن مصدر الخلل العربي والفلسطيني ليس خارجياً بل ينبع من بنية المجتمع نفسه وأن الهزائم التي لحقت بالعرب والفلسطينيين نجمت أساسا من الهوة في مستوى التطور الحضاري بين المجتمعين العربي والاسرائيلي. وعن العمق العربي للثقافة الفلسطينية اعتبر غسان كنفاني أن أدب المقاومة ارتبط ببعده العربي ارتباطاً عضوياً راسخاً، وخصوصاً في تعبيره الشعري. وأكد هؤلاء المثقفين أيضاً أهمية التفاعل الحضاري ومنهم محمود درويش الذي دعا إلى “حقنا في سرد روايتنا التاريخية وتطوير آليات التعبير عن انتمائنا القومي والإنساني”.
تجاوز اللغة السائدة
وعرض الباحث مقاربة المثقف النقدي في “الفصل الثالث” مفهوم التحرر من خلال العلاقة الوثيقة بين التحرر الوطني والتحرر المجتمعي، فاعتبر المثقف النقدي أن التحرر الوطني لن يكون ناجزاً ما لم يسبقه أو يتوازى معه تحرر اجتماعي. فانتقد هشام شرابي قيادة منظمة التحرير لأنها لم تدرك ذلك الترابط بين التحرر الوطني والتحرر المجتمعي. وانتقد أيضا هؤلاء المثقفون النقديون موقف التردد الذي ما زال يسود الخطاب العلماني التي لم تتوصل النزعة العلمانية من خلاله إلى إقامة جسور تربطها بالحركات الجماهيرية. هنا يشير إدوارد سعيد إلى العوامل التي سمحت ببروز الحركات الإسلامية السياسية وتطورها. ومن أبرز القضايا التي ركز عليها الخطاب النقدي الفلسطيني هي قضية المرأة، حيث أكد فيصل دراج أنه ليس المطلوب تحرير المرأة بمساواتها برجل لا يعرف معنى التحرر وانما المطلوب مشروع وطني اجتماعي يخلق شروطا عملية تحرر المرأة والرجل”. ورأت فيحاء عبد الهادي أن التغيرات الاجتماعية التي حدثت على مستوى وضع المرأة خلال الانتفاضة الشعبية الأولى تراجعت بانتهاء الظاهرة السياسية المحددة، الأمر الذي يؤكد موسمية التغيير. وقد تصور المثقف النقدي الفلسطيني أن بلوغ الحداثة يفترض اللجوء إلى لغة حديثة وتجاوز اللغة السائدة التي ما زالت في مرحلة ما قلب الحداثة بمفاهيمها ومصطلحاتها وأطرها الفكرية.
دحض مقولات الصهيونية وحل الصراع الدائر
وبشأن الصهيونية، فقد دحض المثقف النقدي الفلسطيني مقولاتها الجوهرية، وخصوصاً مقولة “الشعب اليهودي” وتوقف عند العوامل التي دفعت إلى إلباس مشروعها لباساً دينياً وكشف طبيعتها العنصرية وارتباطها بالإمبريالية. فنرى في “الفصل الرابع” آراء الكثيرين منهم إميل توما الذي وقف في وجه محاولات إضفاء صفة الاشتراكية على الحركة الصهيونية و كنفاني الذي أكد أن الأدب الصهيوني الذي ضبط خطواته مع السياسة فقد قفز الى تنفيذ مهمته المزدوجة وهي المشاركة في تعبئة اليهود عبر العمل على خلق جو عالمي للتعاطف معهم وطمس كل ما من شأنه عرقلة الاندماج الصهيوني. وكان إدوارد سعيد من أكثر المثقفين النقديين الفلسطينيين الذين حللوا ظاهرة معاداة السامية والموقف من الهولوكوست، مشدداً على ضرورة توضيح الفروقات بين معاداة السامية في الماضي في أوروبا وبين نوع المشاعر السائدة حيال اسرائيل التي تسود حاليا في الشرق الأوسط والتي لا صلة لها باليهودية في ذاتها.
وبشأن التطبيع الثقافي الذي رفضه المثقفون النقديون، فقد عبر أنيس صايغ عن موقف حاد واعتبر أن التطبيع مرض بل وباء معد تمتد سلبياته إلى عموم أنحاء الوطن العربي”.
وعن كيفية تصور المثقف النقدي الفلسطيني لحل الصراع الدائر على الأرض الفلسطينية، يتطرق الباحث في الفصل الخامس لرؤية المثقفين لطبيعة الصراع، وموقفهم من اتفاق أوسلو والبديل من أوسلو في مرحلة ما بعد أوسلو. فقد قدر إدوارد سعيد أنه من دون العدالة لن يتحقق سلام، مؤكدا أن هناك خطوات يجب أن تتخذ لتحقيق السلام كتلك التي اتخذت بعد انتهاء نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. وحذر هشام شرابي من مخاطر المحاولات الرامية إلى تحويل الصراع العربي الإسرائيلي من مجابهة قومية إلى مجابهة دينية. وقد اتخذ المثقفون النقديون الفلسطينيون موقفا حازما في معارضة اتفاق أوسلو وأكدوا أن هناك بديلا له. وعبر المثقف النقدي أيضاً عن قناعته بأنه لن يكون هناك حل دائم للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي من دون ضمان حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى وطنهم.
تثير هذا الكتاب المرجعي الهام التساؤل عن آراء المثقفين الغير مذكورين هنا، ربما لنبحث عنهم وأيضاً يفتح هذا الكتاب الباب لإدراك أهمية دراسة بعض هذه القضايا كما عكسها الفن والأدب أيضاً، فهناك الكثير من الأدباء الذين عكسوا خصوصية الهوية وقضايا تحرير المرأة والتحرير المجتمعي وغيرها من القضايا المذكورة في فنهم وأدبهم وحياتهم كذلك. والجدير بالذكر هنا أن هذا الكتاب هو أحد مساهمات الباحث الدكتور ماهر الشريف في حقل الثقافة العربية فقد صدر له عام 2020 “المثقف الفلسطيني ورهانات الحداثة” أيضاً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية وغيرها من المقالات والدراسات له في هذا الحقل.