كتبتها غابي وود ونشرتها الغارديان في ٨/١٠/٢٠٢٢.
على مدار ١٢١ عاماً الفائتة اتخذت جائزة نوبل شكلاً تقليدياً في منحها لروائيين وكتاب مسرح وشعراء. كان يحدث أن يفوز مرة أو مرتين علماء فلسفة مثل برتراند راسل وإلياس كانيتي، وأحياناً لكتاب غير روائيين مثلما فاز ونستون تشرشل في عام 1953 باكتساح ملحمي، بفضل ” براعة كتابة التاريخ التي جاءت على شكل سيرة ذاتية”.
يمثل هذا العام نقطة تحول بمنحه جائزة نوبل للكاتبة الفرنسية آني إرنو البالغة من العمر 82 عاماً، فتقرر الأكاديمية السويدية، لأول مرة، تعميق قيمة كتابة المذكرات وتعلن للعالم تقديرها للحياة الخاصة.
كانت هناك بدايات أخرى في تغير مسار جائزة نوبل مؤخراً: أليس مونرو (2013) كاتبة في الغالب للقصص القصيرة. سفيتلانا أليكسييفيتش (2015) صحفية تجمع “رواياتها على شكل أصوات” شهادات الآخرين، حيث لم يتم تكريم أي من هذين النمطين في الكتابة بالجائزة سابقاً. بالمقارنة مع فوز إرنو تشير هذه المعالم ليس فقط إلى أن النساء على وجه الخصوص يدفعن حدود الأدب الى تخوم جديدة ولكن أيضا إلى نوع معين من الخبرة الحميمة، وهي تجارب يتم نقلها بمهارة عالية، يمكن أن يكون لها تأثير على نطاق مهيب.
تركز كل من تلك المؤلفات الثلاثة على انعكاس السرديات الكبرى على حياتنا. عندما حاولت أليكسييفيتش نشر كتابها الرائع ” ليس للحرب وجه أنثوي”، قال لها رقيب سوفييتي: “لسنا بحاجة إلى تاريخك الصغير”. نحن بحاجة إلى التاريخ العظيم”. بعد سنوات عديدة، انتصرت ألكسييفيتش في تحقيقها لمسارها الأدبي، والآن يضع فوز إرنو المسمار في نعش ذلك الرقيب وشركائه: نحتاج جميعاً إلى هذا الانفتاح على تاريخنا المصغر. إنه ما يصنع الأدب في الحقيقة.
بدأت إرنو الكتابة -سراً، دون علم زوجها آنذاك- في التقليد الفرنسي للنثر الذاتي، وهو مصطلح أصبح الآن منتشراً حول ما هو أبعد من مرحلة التعرف عليه كنوع أدبي. روايتها “الخزائن” الصادرة عام 1975، والكتابان اللذان تلاهما روايات مستوحاة من حياتها الخاصة، لكن في الشكل التقليدي للكتابة. آخرها، “امرأة متجمدة” الصادر عام 1981، كان يدور حول حياة أم متزوجة وأم لطفلين تم “تجميدها” بسبب الحياة المنزلية. تعرض الرواية وجهة نظرها عن المرأة في المجتمع والتي شغلتها لعقود من الزمان مما دفع القراء إلى افتراض أنها تتحدث عن نفسها.
في تلك المرحلة، قامت إرنو بقفزة نوعية من الخيال إلى الحقيقة: “لا ذكريات غنائية، ولا عروض منتصرة للسخرية”، كما تؤكد. أرادت أن تكتب عن والدها الراحل، الذي كان يدير مقهى في نورماندي والذي ابتعدت عنه جزئياً نتيجة لالتحاقها بالجامعة. في منتصف طريق كتابة الرواية بدأت إرنو تشعر “بالنفور”. وشرحت لاحقاً أن الرواية ” غير مكتملة. ففي سبيل سرد حياة تحكمها العوز والحاجة، ليس لدي الحق في تبني نهج فني”. وبدلاً من ذلك، كانت تقوم “بجمع” كلمات والدها وأذواقه وسلوكياته، وتقدم الحكي ليس فقط عن الرجل ولكن عن جيله وطبقته الاجتماعية.
من الجدير بالذكر أن عمل إرنو المكتوب في شكل مذكرات، يظهرها بشكل كبير كمشاهد يتحدث من مسافة بعيدة أو من قناة لمشاعر مشتركة.
على الرغم من بساطة وإحكام كتابتها (العديد من أعمالها تصل إلى أقل من 80 صفحة)، تسعى إلى إظهار ما هو أبعد من تسجيل أحوال شخصية، ولهذا السبب يُنظر إليها أحياناً على أنها عالمة اثنوجرافية أو عالمة اجتماع. في الكتاب الذي كتبته أخيراً عن والدها، المكان (1983)، تحذر نفسها: “إذا انغمست في الذكريات الشخصية… أنسى كل ما يربط أبي بمحيطه الاجتماعي… لا بد لي من أن أنتزع نفسي من وجهة النظر الذاتية “.
يؤكد أسلوبها الأدبي ذلك ويوازن بين تلك النزعة لديها واتساع المعرفة الذي تسعى إلى تحقيقه. حيث تقول “هذه الطريقة المحايدة في الكتابة تأتي إلي بشكل بديهي”. “إنه نفس الأسلوب الذي استخدمته عندما كنت أكتب في المنزل لإخبار والديّ بآخر الأخبار”. كانت رواية “المكان” أول كتبها التي شعرت خلالها بأنها ليست “زائفة”، وكانت بمثابة بداية لعمل حياتها.
صدرت لها أعمال أخرى، تتناول موضوعات عن مشاعر الذعر والرهبة (إصابة والدتها بداء الخرف)، والرغبة (علاقة حب مع رجل متزوج)، والألم الجسدي (الإجهاض غير القانوني)، والألم العائلي (وفاة أختها الكبرى التي لم تلتق بها أبداً) والعار والحزن والشعور بالذنب (هل توجب عليها حقا أن تعالج أياً من هذه المواضيع على الإطلاق؟). تكتب: “يعجز الأدب أمام مآسي الإنسان “. وفي كتابها “شغف بسيط” تقول: “أحياناً أتساءل عما إذا كان الغرض من كتابتي هو معرفة ما إذا كان الأشخاص الآخرون قد فعلوا أو شعروا بنفس الأشياء.”
كان كتابها “السنوات” مشروعها التالي، وبدون أدنى شك تحفتها الفنية البديعة. (تم نشره بالفرنسية في عام 2008 وتم إدراجه في القائمة المختصرة لجائزة البوكر الدولية في عام 2019، مما يشير إلى تقديمها على نطاق واسع للقراء الناطقين بالإنجليزية). في هذا الكتاب، لا يتجسد هدف إرنو في تجميد لحظة معينة في الذاكرة بقدر ما هو محاولة لـ “حفظها” بكل حالاتها وأحوالها”. السنوات هي مذكرات جماعية لجيل بأكمله، تقويم زمني للخبرات الجمعية، الكلمات، الإعلانات، الغرافيتي، الملابس، الأفلام، العادات و المعتقدات.
لا تحاكي نصوص إرنو المترابطة بشكل محكم معالم الحياة العادية فقط، إنما تلامس ما لا يستطيع الناس قوله مثل تناولها مواضيع نهاية الحرب، استخدام الكمبيوتر، والهاتف المحمول. وهي أشياء يعرفها المجتمع لكنه يعجز التعبير عنها في آنياً. تشعر أنها تناولت مواضيع الاضطرابات المدنية في مايو 1968، في وضع كانت تشعر فيه بقوة، لكنها تعتبر ذلك نتاجاً خاصاً لتلك المرحلة. هذا الشعور بأن تكون متجاوراً للزمن ولكنك تخضع لاكتساح الوقت العظيم هو الإنجاز الحقيقي المستكين بمرور السنوات.
زرت إرنو قبل ثلاث سنوات، في منزلها خارج باريس. أخبرتني وقتها أن الدافع الأكبر لرغبتها في نقل الذاكرة الجمعية لجيلها هو أن حياة النساء قد تغيرت إلى درجة مثيرة منذ ذلك الوقت. وقالت إنه إذا عدنا بالنظر إلى الوراء، بدءاً من عمرها عندما بدأت، فلن يكون هناك ذات الهوة بين الحاضر والماضي. وهو أمر جلي لنا الآن، بفضل هؤلاء النساء ولما قدمن من سرد استطاع أن يحررنا من الكثير من القيود والأسرار الدفينة.