وجهة نظرها: النساء والفلسفة (ترجمة)

Wigs, 1994.Art work by Lorna Simpson / Courtesy Hauser & Wirth

أمل نصر

مترجمة من فلسطين

يتجلى الآن السؤال حول ما إذا كانت الفلسفة تتقدم. يقترح كريس دالي أن الفلسفة الغربيةَ؛ لم تحرز أيَّ تقدمٍ تقريبا خلال الألفين وخمسمئة عامٍ الفائتة. ومع ذلك، يبدو لي أن كل الأشياء المذكورة هنا؛ هي علامات واضحة على التقدم. بمساعدة النساء، تنهض الفلسفة من الكرسي بذراعين الذي وضعها الرجال فيه، وتتعامل مع الأسئلة ذات الصلة بحياة الناس، وتتحدى المفاهيم المسبقة الخاصة بها، بما في ذلك تلك المتعلقة بماهية الفلسفة. 

للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

29/09/2022

تصوير: اسماء الغول

أمل نصر

مترجمة من فلسطين

أمل نصر

كتبتها Elly Vintiadis لموقع aeon ونشرت في ١٦/٨/٢٠٢١.

بماذا يساهم الفلاسفةُ في الفلسفة؟ وكيف يضيفون ثروتَهم المعرفية على هذا العلم؟ يبدو هذا السؤال وكأنّه غريب، لكن في مقابل ذلك، غالبًا ما يُطلب من النساء شرحُ ما يساهمن به أو يضِفْنَه على هذا العلم. الآن، وبعد أن سُمح لهن بممارسة الفلسفة بشكلٍ احترافيّ، يكمن وراء هذا السؤال إحساسٌ بأنَّ أصواتَنا كنساء؛ لا يُنظر لها على أنّها أصواتٌ فلسفية، بل يُنظَر إليها كأصوات نسائية في المقام الأول. يبدو الأمر كما لو أنَّ النساء ستكون لهن بالضرورة وجهةُ نظرٍ مميزة كجماعة، بدلًا من مجرد امتلاك وجهات النظر الفردية التي يتبناها الفلاسفة.

ربما ينشأ هذا السؤال لأنّه سؤالٌ تاريخيّ، وحتى وقت قريب لم تُمنَح النساء فُرَصًا حقيقيّة، تؤخذ فيها مشاركاتُهن على محمل الجد؛ ليُحققن إنجازًا معرفيًّا فلسفيًّا، ولا يزال تمثيلهن محجوبًا في الفلسفة الأكاديمية. مع ذلك، هناك تقليدٌ غنيّ في الإسهام الفلسفي للمرأة من العصور القديمة إلى اليوم.. على الرغم من العَقَبات الهائلة التي واجهتها النساء؛ ففي العالم القديم مثلًا: كانت هيباتيا الإسكندرية، وهيباشيا مارونيا، وآريتي السيرينية.. وفي القرن السابع عشر كانت إلينا كورنارو بيسكوبيا من البندقية (أول امرأة تحصل على شهادة جامعية) ومارجريت كافنديش دوقة نيوكاسل.. وفي القرن الثامن عشر كانت لورا باسي، ودوروثيا إركسليبن.. 

غالبًا ما كان يتعيّن على النساء المساهمةَ بشكلٍ مجهول -حيث تم نشر مبادئ الفلسفة القديمة والحديثة لليدي آن كونواي بشكلٍ خفيّ بعد وفاتها عام ١٦٩٠- أو عن طريق إيصال أفكارهن إلى الفلاسفة الذكور من خلال الرسائل، وخصوصًا إليزابيث، والأميرة بالاتين من بوهيميا في مراسلاتها مع الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت. مع ذلك، وعلى الرغم من أنهن كتبن على نطاقٍ واسع، إلّا أن كتاباتهن الفلسفيةَ نادرًا ما كانت توضَع ضمن مجملِ إنتاج التيار الفلسفي العام، ولم يتم نشرها على نطاق واسع. يبدو أن النساء كتبن في “الحبر المخفي” كما عبّرَتْ عن ذلك إيلين أونيل عام 1997، وأنَّ عملهن قد اختفى من تاريخ الفلسفة؛ لأن مساهماتِهن كانت تلامس مواضيع مصيرية من خلال تحديها للوضع الراهن. لذا، تم إسكات هذه المساهمات بشكلٍ مُمَنهَج.. أو لأنَّ الأسئلة التي تستعدُّ النساءُ لطرحِها لم تكُن جادّة بما فيه الكفاية، أو لأنَّ مجرّد حقيقة أن شيئًا ما؛ كتبته النساء كان كافيًا للإشارة إلى أنه خفيف الوزن إلى حد ما.

جادل ويسلي بوكوالتر وستيفن ستيتش عام ٢٠١٣؛ أن وجود الاختلافات بين الجنسيّن في الحدس (التقدير) قد يفسر نقصَ تمثيل المرأة في الفلسفة. لا أعتقد أن هناك أسبابًا وجيهة لدعم الادعاء الأساسي بأنَّ النساء يفكرن بشكل مختلف عن الرجال، لكن حياة النساء غالبًا ما تضعهن في حالاتٍ تؤدي بالضرورة إلى اهتمامات ومساهمات فلسفية مختلفة، وحتى حدس مختلف في بعض الأحيان. يمكن أن يفسِّرَ هذا جزئيًا سببَ ضعف تمثيل المرأة في الفلسفة الأكاديمية، ولكنه أيضًا؛ يفسر كيف يمكن لمساهماتهن أن تتسع في مضمون علم الفلسفة وتثريه.. بيد أن النساء اليوم لا يتم استبعادهن من الفلسفة كما كنَّ في السابق، إلّا أنهن في الغالب يتعرضن لنوعٍ آخر من التهميش، يتمثل في الموضوعات التي يكتبنها أحيانًا عن عدم قبول المرأة على أنها سائدة أو جادة.. من قِبل من يمارسون السلطة داخل التيّار الفلسفي.

لذا؛ فإنَّ لطرح سؤال متكرر لم يُطرح أبدًا عن الرجال في الفلسفة (كيف استطاعت النساء أن تسهم في هذا النظام المعرفي؟) الجوابَ البسيط؛ هو أن فلسفةَ المرأة متنوعة، ولا توجد طريقة واحدة تختزل خيارات المرأة أو طريقة واحدة تفكر بها.. ساهمت النساء بطُرُق عدة، وامتد عملهن إلى نطاق يشمل الفلسفة التحليلية للمنطق (سوزان ستيبينج، سوزان هاك، روث باركان ماركوس.. مثالًا) وإلى مجالات تتناول الموضوعات الحداثية في الأخلاق التطبيقية (مارثا نوسباوم، جوديث جارفيس طومسون، كريستين كورسجارد مثالًا). بالطبع؛ يجب أن تتمتعَ النساءُ بالحرية في المساهمة في الفلسفة كما تراها بشكل فردي مناسب، وألا تُجبَر على الانخراط في رؤية شخص آخر لما يجب أن تكتب عنه. ومع ذلك؛ فإنَّ الطريقةَ الأوضَح التي ساهمت بها النساء في مجال الفلسفة النسوية، هي معالجة الأسئلة التي تطرأ على واقع النساء في المقام الأول. على الرغم من أن المقاربات الفلسفية النسوية؛ مثل تلك التي تتبعتها جوديث بتلر، ولوس إيريجاراي، وباتريشيا هيل كولينز.. تختلف تمامًا عن بعضها البعض، إلّا أنّها كانت بالمجمل محاولةً لتسليط الضوء على ما تم اعتباره تقليديًا وجهةَ نظرٍ موضوعية لا ترتبط بمكان محدد.. والتي كانت ترتبط في الواقع حصريًا بوجهة نظر معينة -وجهة نظر الذكر- العارف افتراضيًا.

لطالما كانت الفكرة التقليدية السائدة هي أن الفلسفةَ سؤالٌ يدور في فضاءٍ نزيه ومحايد، خارج عن مسار التاريخ أو الثقافة.. ما يغفله هذا السؤال -وهو الشيء الذي أشار إليه فلاسفة مثل: فريدريك نيتشه وسورين كيركجارد وسوزان ستيبينج- هو أنَّ من يبحث في المعرفة  ليس عقلًا بلا جسد؛ فالسياق الذي يقع المرءُ فيه يؤثر على فكره بطرقٍ قد لا يراها شخصٌ خارج هذا السياق. لذا؛ فإنَّ النظرةَ المنزوعة السياق المرتبطة تقليديًا بالموضوعية يمكن أن يُنظَر إليها على أنها معاكسة؛ فهي ليست محايدة ولا كونية.. تجادل النظريات النسوية بأنَّ وضع الاستقصاء في سياقه قد يكون الطريقة الوحيدة لتسليط الضوء على الحقائق المهمة، وتوسيع فهمنا للعالم من خلال كشف التحيزات المتجذّرة بقوة في المجتمعات الأبوية لدرجةِ أنّها أصبحَتْ غيرُ محسوسة.

تختلف النساء عن بعضهن البعض بالتأكيد، وللنظريات النسوية باختلافها عن بعضها التزاماتٌ ومقاربات مختلفة.. لكن هناك قاسمًا مشتركًا بينهم، ففي العادة تتأسس بُنية النظريات النسوية على فكرة أنَّ النساءَ عانت من الاضطهاد المنهجي بسبب جنسهن، وهذا من شأنه التأثير على موقفهن كممثلات لباقي النساء. ولكن الأهم أيضًا؛ أنه يؤثر عليهن كمتلقيات للمعرفة. تقدم هؤلاء الكاتبات طرقًا للتغلُّب على هذا، حتى لا يكون سؤالُ الفلسفة سؤالًا من جانبٍ واحد. وبهذا المعنى؛ فهي طريقة لإعادة التفكير فيما يعنيه كونك موضوعيًّا حقًا، ولجعل “وجهة النظر المحايدة ” وجهةَ نظرٍ من الواقع المُعاش. وبالانبثاق من هذا الواقع، تكون النساء أيضًا في وضعٍ متميّز من الناحية المعرفية إبستملوجيًا، من خلال قدرتِها على تحديد حالات التفاوت الاجتماعي وعدم المساواة، وتقديم رؤى حول هذه الظواهر التي كانت ستضيع لولا ذلك.. على سبيل المثال، قد يكون لدى المرأة التي تعود إلى المنزل بعد يوم عملٍ؛ لبدء “دوامها الثاني” رؤيةً أوضح لعدم المساواة في العمل، والعمل غير مدفوع الأجر الذي يتعين على المرأة القيام به.. يمكن أن يشكّل هذا نقطةَ انطلاقٍ معرفية غير متوفرةٍ لمعظم الرجال.

تبدأ نظرية المعرفة النسوية من هذه الفكرة تحديدًا، وهي أنَّ ظروف حياتنا تشكّل جزئيًا حياتَنا المعرفية؛ فهي تؤثر على كيفية فهمِنا للعالم، وما نعرفه عنه.. عدا عن كيف يتم تلقي آرائنا. أظهر عمل ميراندا فريكر كيفية تأثير الصور النمطية والعلاقات الاجتماعية الهرمية والأدوار التقليدية للجنسين.. على كيفية اكتساب المعرفة ونشرها، وكيفية تلقي الشهادات أو الاعتراف الأكاديمي.. صاغت فريكر مصطلح “الظلم المعرفي” لأشكالٍ من الظلم نادرًا ما يتم أخذها على محمل الجد من بين المظالم التي تنشأ عندما لا يتم منح مكانتك كعارف (متعلم)، وتقديرك.. بسبب وضعك الاجتماعي.

هناك أشياء لا يمكن إدراكها إذا لم يتواجد لدينا الجهاز المفاهيمي للقيام بذلك.

تسلّط فريكر الضوءَ على ظاهرة “ظلم الشهادة”: عندما لا يُعتقد أن شهادتك ذات مصداقية؛ لأنك تنتمي إلى جماعة يُمارَس عليها شكلٌ من أشكال التعصب (على سبيل المثال، بسبب جنسك أو نوعك أو عرقك) و”الظلم التأويلي”: عندما لا يكون لديك الموارد التفسيرية لفهم جوانب تجربتك الخاصة بسبب الاعتقادات والمعاني السائدة.. على سبيل المثال، أتاح إدخال مفهوم التحرش الجنسي للمرأة فهمَ تجربة غير مريحة للغاية، كانت بالنسبة للأخريات مجرد مغازلة غير ضارة. وبالمثل، أعادت كيت مان في فيلم Down Girl (٢٠١٩) تعريف التحيز المنهجي في الحياة العامة والسياسة، وهو التحيز الخاص بكراهية النساء -الذي لم تحدده على أنه عداء فردي تجاه النساء، ولكن كآلية اجتماعية للمعاقبة والسيطرة على النساء اللواتي يتمردن على المطالب الأبوية- ويساعد هذا في فهم العديد من التجارب التي تمر بها النساء يوميًا.

لفتت كلتا الباحثتان في الفلسفة انتباهنا إلى منابع للأذى، كانت محجوبة عن إدراكنا في السابق إلى حد كبير. قدَّمن أيضًا مفاهيم ساعدتنا على رؤية الأشياء بشكلٍ مختلف؛ لأن هناك أشياء لا يمكننا رؤيتها إذا لم يكن لدينا الجهاز المفاهيمي للقيام بذلك.

تستند هذه الأعمال إلى التقليد النسوي، على سبيل المثال؛ سيمون دي بوار -الجنس الآخر وبعد بوفوار- من قبل مفكرات مثل؛ مارثا نوسباوم.. وهن يجادلن بأنَّ مبادئ الحرية والحقوق تصبح عقيمة إذا حُرمنا من القدرة على الفعل من مواقعنا في الحياة. الفكرة القائلة بأنَّ سقوط الحواجز القانونية لا يعني سقوطها على أرض الواقع؛ كانت موجودة في الفكر النسوي على الأقل منذ القرن السابع عشر، حيث كانت حاضرة في أعمال كاتبات مثل؛ ماري أستل، وماري وولستونكرافت، وهارييت تايلور ميل.. يجب ألا ننسى أيضًا أن المفكرات والمفكرين غير البيض مثل؛ سوجورنر تروث، وآنا جاي كوبر، وأودري لورد، ووليام إدوارد بورغاردت دو بويز.. الذين ينتمون إلى مجموعات أكثر تهميشًا من معظم النساء البيض؛ يجادلون  منذ فترة طويلة بأن وضعهم كمتعلمين غيرُ معترف به، ولا يُمنح التقدير المناسب.

مثال آخر على قيام النساء باستحضار وجهة النظر التي من المفترض أنها من مكان محايد للعالم الحقيقي، وهو النهج الأخلاقي النسوي الجديد، وأخلاقيات الرعاية. تتمثل إحدى نتائج هيمنة وجهة نظر الرجل؛ في شح العمل الفلسفي الذي يتناول الأمور التي يغلب عليها جزء من تجربة الإناث. إحدى هذه الظواهر هي الاهتمام بالآخرين. تركز أخلاقيات الرعاية على إبراز الجانب الخيِّر في مقدمي الرعاية ومن يعولونهم، وإعطاء صوت للناس في مثل هذه العلاقات، والظلم والقمع الذي يتعرضون له غالبًا. بالتالي؛ فإن أخلاقيات الرعاية تعزز صوت التمثيل العقلاني الأقل استقلالية في التفكير الأخلاقي، كما تعيد تقديم العواطف باعتبارها مركزية للأخلاق -كشيء يحتاج إلى تنميته، من أجل استكمال تفكيرنا حول المسائل الأخلاقية.

على الرغم من أن فكرة أن الرعاية يجب أن يكون لها مكان مركزي في تفكيرنا حول كيفية العيش ليست جديدة (يمكن العثور عليها في أعمال الفيلسوف الكونفوشيوسي مينجزي) لكن مفكرات القرن العشرين مثل؛ إيفا فيدر كيتاي، وفيرجينيا هيلد، وجوان ترونتو، ونيل نودينجز.. جعلنها في المقدمة، ولكن بتركيز مختلف. فبدلًا من وضع مفهوم العدالة في مركز التفكير الأخلاقي، والتركيز على بناء العلاقات الأخلاقية والمجتمعات حول ذلك، فإنهن يستبدلنها بمفهوم الرعاية.

يكمن جوهر أخلاقيات الرعاية في إدراك أن النظريات الأخلاقية التقليدية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حددت ما هو مهم من حيث العقل والاستقلالية. تفترض نظرية إيمانويل كانط الأخلاقية، على سبيل المثال؛ أن الأخلاق تتعلق أساسًا بالعلاقات بين الوكلاء العقلانيين والمستقلين والمتحررين والمتساوين.. و يطالب مذهب المنفعة منا أن نحسب بدون عواطف صافي السعادة التي سيحققها فعل معين. على الرغم من ذلك؛ في الواقع البشر مخلوقات علائقية وعاطفية.. يُعتمد وجودنا، ويتشكل من خلال ارتباطنا واعتمادنا على الآخرين. على عكس العلاقات الشكلية المجردة؛ التي وصفتها بعض النظريات الأخلاقية، فإن العديد من العلاقات الاجتماعية التي نجد أنفسنا فيها غالبًا ما تكون غير متكافئة، ومليئة بالعواطف.. ويتم الدخول فيها بشكل لا إرادي، وفي بعضها يحتاج الناس إلى رعاية، وغير قادرين على الرد بالمثل على تصرفات الآخرين. الأسرة هي مثال أساسي لمثل هذه العلاقات، لكنها موجودة أيضًا في المجتمع ككل: في مكان العمل، في الأوساط التعليمية، في العلاقات بين الإنسان والحيوان، وفي المجال السياسي والعالمي الأوسع..

تعتبر أخلاقيات الرعاية ضمن النظام الأبوي “أنثوية” وليست عالمية.

في أخلاقيات الرعاية، لا تُعد الرعاية أحدُ المكونات الفكرية لدينا؛ كواحدة من الفضائل التي ندعو إليها مثلًا، لكنها تتموضع في المركز لكل ما ندعو إليه. وكما تؤكد كيتاي في أخلاقيات الرعاية، فإنَّ التركيز ينصب على اكتشاف المعنى المعياري للرعاية؛ من أجل معرفة ما يجب علينا القيام به لتقديم الرعاية، وفهم أنواع الهياكل المؤسساتية التي نحتاجها؛ لدعم علاقات الرعاية، والحفاظ عليها. غالبًا ما يُترجم هذا من خلال وجود دستور رعاية أو نية رعاية الآخرين (كما هو الحال في الأخلاق المسيحية) لكن كيتاي تؤكد أن هذا لا يكفي. على سبيل المثال؛ فإن ذلك النوع من الرعاية يأخذ أشكالًا أبوية غالبا، ويفقد جوهره الحقيقي.. تتحدث كل من نيل نودينجز، وجوان تورونتو عن أن الشخص الذي يتلقى الرعاية يجب أن يشعر بها -وبهذا المعنى – يجب أن تكون ممارسة الرعاية فعالة، وتفي باحتياجات الشخص الذي تتم رعايته. 

لذلك؛ على الرغم من وجود نظريات أخلاقية مختلفة تدعو إلى الرعاية كإحدى مكوناتها الأساسية، إلا أن جوهر التركيز يختلف في أخلاقيات الرعاية. لهذا السبب؛ لا يتفق مؤيدو هذه النظرية على اعتبار أخلاقيات الرعاية شكل من أشكال أخلاقيات الفضيلة التي يتهمهم البعضُ بها. على سبيل المثال؛ تقاوم نظريةُ الرعايةِ توصيفَ الرعاية على أنها فضيلة أو رغبة ما، وتفضّل اعتبارها ممارسة تسعى إلى التأكيد على العبء الذي تتحمله النساء في المجتمعات الأبوية. لذا، بدلًا من التركيز على شخصيات الأفراد؛ فإن أخلاقيات الرعاية تتعلق في المقام الأول بدراسة العلاقات التي تتجاذب فيها سلوكيات الرعاية.

ونظرًا لأن أخلاقيات الرعاية ترتكز على سلوكيات العلاقة، وخاصة أساس تشكيل الرعاية؛ فإنّها غالبًا ما تُوسم من قبل النظام الأبوي  بـ “الأنثوية” وتُنزع عنها صفة الكونية. يعتبر نموذج الرعاية من العلاقات التنموية للمرأة، حيث إن النساء في الغالب هن من يعتنين بأفراد الأسرة من الأطفال أو المسنين أو الرجال.. ولكن هذا الوسم ينتج أيضًا؛ لأن أخلاقيات الرعاية تلفت انتباهنا حتمًا إلى القضايا الأخلاقية التي تنشأ في المجال الخاص للعائلة، مثل الأعمال المنزلية والأطفال وحالات الإعاقة والعنف المنزلي.. مع ذلك؛ تؤكد أخلاقيات الرعاية جانبًا مركزيًا وأساسيًا للظروف الإنسانية، تتجاهله العديد من النظريات الأخلاقية: “أن كل شخص لديه مسؤوليات والتزامات لرعاية الآخرين، وقد تم الاعتناء بنا جميعًا في مرحلة ما”. كما يذكرنا أيضًا أن النساء غالبًا ما يجدن أنفسهن في مواقف من عدم المساواة فيما يتعلق بسلوكيات الآخرين الذين يمتنعون عن تقديم الرعاية، كما أنهن في وضع يمنحهن امتيازًا لتحديد أوجه عدم المساواة التي يواجهها من يقدم الرعاية مقابل من يتمتع بها ممن هم تحت الرعاية. لذا، هناك طريقة لتحقيق مقاربة ناجعة لأخلاقيات الرعاية، تتمثل في اعتبارها أخلاقيات إنسانية للمساواة، تتمحور حول تقصي التجربة الكونية في الرعاية، والتي تشمل تحقيق الاحتياجات المختلفة للأشخاص في جميع السياقات الاجتماعية. وهذا يتطلب إعادة تصور كيفية التفكير في الأخلاق.

الفكرة المركزية القائلة بعدم مساواة الأفراد في قدراتهم لها تداعيات في جميع جوانب تفكيرنا تقريبًا. من بين الأمور التي تجبرنا أخلاقيات الرعاية على إعادة التفكير بها؛ مفهومنا للإعاقة، والكرامة، والحياة الطيبة، والعدالة، وقيمة العقل، والاستقلالية.. يتطلّب منا التفكيرُ في هذه الأمور عدمَه من وجهة نظرٍ منفصلة، ولكن من وجهة نظر الشخص الذي يحتاج إلى الرعاية، والشخص الذي يقدم هذه الرعاية، وهي وظيفة تقع في معظم الحالات على عاتق النساء. لهذا السبب تحديدًا، كان ذلك البعد الأخلاقي مفقودًا في النظرية الفلسفية. بطريقة مماثلة، فلسفة الحمل -التي تمس القضايا القانونية والأخلاقية والاجتماعية- هي موضوع قدمته النساء، وغاب تمامًا عن الفلسفة؛ لأنه يتضمن جوانب من الخبرة لا يشاركها الرجال.

يثير الحمل أيضًا أسئلة معرفية. تشير فيونا وولارد في عملها عن الحمل إلى فكرة؛ أن بعض التجارب هي تجارب “متغيرة إبستملوجيًا”. أي أن هذه التجارب تقدم المعرفة حول أشياء معينة لم تكن لتحدث معرفتها لولا خوضها فعليًا. هل تكشف التجربة الذاتية للحمل عن جوانب من التجربة لا يمكن للأشخاص الذين لا يمرون بها معرفتها؟ إذا كان الأمر كذلك، إذا كانت تجربة المرأة جسديًا وعاطفيًا للحمل؛ تتعارض مع الروايات “الموضوعية” للحمل، فمن ينبغي أن يُعطى صوتُه استحقاقًا معرفيا؟

على الرغم من مركزية الحمل في التجربة البشرية ككل، إلا أن ميتافيزيقا الحمل كانت شبه معدومة في تاريخ الفلسفة الغربية، مما يجعل هذا مثالًا آخر على أن التجارب التي تخوضها الأنثى يتم تجاهلها باعتبارها خارج سياق التجربة البشرية. ومع ذلك، تُظهر فلسفة الحمل كيف أن المنظور الفلسفي السائد في الأنطولوجيا والميتافيزيقا هو منظور ذكوري للغاية، وبالتالي كيف أنَّ النظرة المفترضة من العدم (الحيادية) لا يمكن في الحقيقة أن تكون شيئًا من هذا القبيل.

يتعارض نموذج الأم كـ “حاوية” مع حقيقة تجربة الحمل، بالإضافة إلى تعارضه مع المشكلات الأخلاقية الأخرى.

لنأخذ مسألة علاقة الجنين بالنظام الحامل له. تتمثل إحدى طرق مقاربة العلاقة؛ في القول إن الجنين كائن حي داخل كائن حي آخر -أي لدينا كيانان مختلفان: الجنين الموجود في الأم، كما هو الحال في الاستعارة الإنجليزية “كعكة في الفرن”. هذا هو ما يسمى بنموذج “الحاوية”: وهي وجهة النظر السائدة في الثقافة الغربية، والتي تصور الجنين بشكل شائع على أنه رائد فضاء يطفو في الرحم، كما لو أنه كيانٌ منفصلٌ عن الجسم الذي يطفو فيه. ولكن هناك طريقة أخرى للتفكير في هذه العلاقة، وهي طريقة دعت إليها الباحثة الهولندية إليزابيث كينغما Elselijn Kingma، تتمثل في اعتبار  الجنين جزء من كيان الأم، بنفس الطريقة التي يكون بها القلب أو الكلى جزء من جسم الأم. وفقًا لهذا الرأي، يصبح الجنين كائنًا منفصلاً عند الولادة فقط.

رغم أن كلا التصويرين قد يبدوان معقوليّن في النسق المنطقي للعلاقة، والتمييز بينهما غير منطقي، إلا أنهما يثيران أسئلةً مختلفة تماما. على سبيل المثال؛ إذا كانت الأم مجرد حاوية؛ فيمكن أن يتضرر جسدها، ويتم مراقبته بعدّة طرق مختلفة. ولنفكر في الذعر الأخلاقي الذي يحيط بالأمهات من إلحاق الأذى بأجنتهن من خلال خياراتهن بشأن الولادة أو ممارسة الشرب. أما إذا كان الجنين مجرد جزء من جسد الأم، فلا تثار مثل هذه الأسئلة، وبالتالي تصبح هذه المراقبة غير مبررة.

إضافة إلى المشكلات الأخلاقية التي أثارها نموذج الأم كالحاوية؛ فإنه يتعارض أيضًا مع حقيقة تجربة الحمل. تعرف أيُّ امرأة كانت حاملًا في أي وقت مضى؛ أن اتصالَ جسم الأم بالجنين أكثرُ حميميةٍ وتعقيد مما قد يبدو عليه نموذج الحاوية. أن تكوني حاملاً، يشبه أن تكوني شيئًا ما بين كائن حي أو كائنيّن؛ أنت والجنين شخص واحد، ولكن ليس ذات الكيان المنفرد الذي كنت عليه قبل الحمل. حتى من الناحية البيولوجية، يصبح الحديث عن كائنيّن، وكيف يتقاسمان حدودًا مشتركةً مع العالم الخارجيّ معضلةً؛ عندما نفكر في كيفية ارتباط الجنين بالأم داخليا. قد يبدو هذا غير منطقي إذا فكر المرء من منظور الأنطولوجيا التقليدية، حيث يكون الأفراد متميزين بوضوح، ومستقلين عن بعضهم البعض، ومكتفين ذاتيًّا. -ولكن في مثل هذه الأنطولوجيا، من غير الواضح كيف يمكن أن يبدأ الحمل.

لذا؛ تُظهر حالة الحمل كيف أن المنظور التقليدي في الأنطولوجيا منظورٌ محدود -من حيث نطاق الأسئلة التي يأخذها بعين الاعتبار، وما يجعله أكثر أهمية. يقول المنطق: أن “كل شيء هو ما هو عليه، وليس شيئًا آخر” لكن تجربة الحمل تقضي على هذا التمييز الدقيق، وما يبدو أنه استحالةٌ منطقية، يصبح ممكنًا بطريقةٍ ما. هذا يعيد إلى الأذهان دراسةً تقدمها ماري ميدغلي، التي في مناقشتها كيف تؤثر أوضاعنا المعيشية على طريقة تفكيرنا في العالم؛ تشير إلى مقدار الفلسفة التي قام بها رجال ذوو امتيازات ليس لديهم أسر، يتمتعون برفاهية ممارسة الفلسفة بمعزل عن الآخرين؛ مثل ديكارت الذي يمارس التأمل في حقيقة المعرفة من غرفته، بمعزل عن مقتضيات الحياة اليومية. تكمن مشكلة هذا التفكير المنعزل في أنه يحرف الطريقةَ التي نفكر بها في العالم، ويتجاهل وجهات النظر التي قد تكشف عن بُعدٍ آخر للواقع.

أكثر ما يميز الفلسفة هو أنها ممارسة فكرية تتطلب تشكيكًا، وتمحيصًا مستمرًا لافتراضاتنا، وما يسبقها من أفكار مسبقة. أعتقد أن أهم شيء أضافته النساء إلى الفلسفة كجماعة، إلى جانب المساهمات الفردية التي لا تعد ولا تحصى في جميع مجالات الفلسفة؛ هو إحياء الصوت الذاتي. أصوات النساء -مثل جميع الأصوات من الأقليات- تشبه صوت صرصار والت ديزني المتحدث للفلسفة، مذكّرًا الفلاسفة بأن ممارساتهم الاستقصائية لم تظهر الفضائل التي يسعون إليها كفلاسفة. إنه تذكيرٌ بأن نقاط البداية التقليدية التي يتم أخذها على أنها وجهةُ نظرٍ من مكان غير معرَّفٍ؛ هي في الواقع مُغرقة بشكل كبير أيديولوجيًّا، ويمكن أن تقوض التحقيقَ إذا لم نتحقق من أنفسنا باستمرار.

بمجرد أن يتم إدراك أنه لا يمكن أن يكون هناك حقًا وجهة نظر قائمة بشكل منفصل عن سياق تاريخي واجتماعي، فيجب عندئذٍ البدء في تقديم وجهات نظر الأشخاص المعاشة. ومن بين هذه الانطباعات  المحجوبة وجهات نظر المرأة. كما رأينا؛ فإن وجهات النظر هذه تتحدى نقاط البداية الفلسفية للأسئلة حول المعرفة والأخلاق والميتافيزيقا وما إلى ذلك. تصبح الفلسفة فعل قوة وتحرر، ويمكن أن تؤدي إلى التغيير؛ من خلال تحدي هذه الأطر، وإعادة تعريف الفئات، وإنشاء فئات جديدة، وتحديد الديناميكيات الاجتماعية.

بناءًا على كل هذه الأسباب، وعِوَضًا عن انتقادها وتهميشها بسبب تحطيمها للآراء التقليدية، يجب الاحتفاءَ بالمرأة في الفلسفة (ووجهات النظر الجديدة التي تأتي بها). في النهاية، يدور سؤال المرأة في الفلسفة حول الحق في الممارسة النقدية الجمعية حول خلق ثقافة لا تشعر فيها النساء بالغرابة، وبأن وجودهن يشبه وجود الأطياف. لتحقيق ذلك؛ فإن تشجيع النساء، وكسرَ الصور النمطية التي تعيقهن هو أمر واجب -فهذا الأمر سيشرعن المرأةَ في الفلسفة، ويمنحها الاستحقاق المعرفي الذي فاتها. في الوقت نفسه، وبالرجوع لأنفسنا كنساء؛ يجب أن نكون حذراتٍ من الشعور بالرضا عن أنفسنا؛ لأننا نكتسبُ مساحةً في الفلسفة، ولا نرمي الثقلَ الذي حملَتْهُ ظهورُنا على أكتاف شخصٍ آخر.

يتجلى الآن السؤال حول ما إذا كانت الفلسفة تتقدم. يقترح كريس دالي أن الفلسفة الغربيةَ؛ لم تحرز أيَّ تقدمٍ تقريبا خلال الألفين وخمسمئة عامٍ الفائتة. ومع ذلك، يبدو لي أن كل الأشياء المذكورة هنا؛ هي علامات واضحة على التقدم. بمساعدة النساء، تنهض الفلسفة من الكرسي بذراعين الذي وضعها الرجال فيه، وتتعامل مع الأسئلة ذات الصلة بحياة الناس، وتتحدى المفاهيم المسبقة الخاصة بها، بما في ذلك تلك المتعلقة بماهية الفلسفة. 

الكاتب: أمل نصر

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع