إنْ تكن قارورة غاز سبباً درامياً لسرد فصولٍ من حياة أفراد سوريين، في حربٍ ضد بلدٍ وشعبٍ واجتماعٍ، في “يوم أضعت ظلّي” (2018)؛ فإنّ انقطاع المياه دافعٌ إلى تصوير تفاصيل عيشٍ في مدينة مدمَّرة، تعاني آثار استمرار تلك الحرب نفسها، كما في “نزوح” (2022).
مقاربة أهوال بيئة ومصاعب أناسٍ فيها، سينمائياً، يدفع المخرجة السورية سؤدد كعدان (1979) إلى اختيار تفصيلٍ حياتي أساسيّ في الحياة اليومية، ليكون ركيزة بصرية، تحتمل شيئاً من تأمّل وتفكير في شؤون ومشاعر ورغبات، بكشف بعضها على الأقلّ. قارورة الغاز الفارغة سببٌ كافٍ لخروج سناء (سوسن أرشيد) من منزلها، بحثاً عن قارورة أخرى تصلح لإعداد العشاء لابنها الوحيد خليل (أحمد مرهف آل علي)، تاركةً إياه في عتمة منزل ومدينة، والخروج هذا يتحوّل إلى مرآةٍ تعكس بعض الحاصل في الخارج، على الأقلّ. وانقطاع المياه مدخلٌ إلى كشف المخفيّ في عائلةٍ، مؤلّفة من الأبوين هالة (كندة علوش) ومعتزّ (سامر المصري)، وابنتهما زينة (هالا الزين)، أصغر بناتهما، المتزوّجات والمُقيمات مع عائلاتهنّ في أمكنةٍ مختلفة. بكشف بعض هذا المخفيّ، تُروى أحوال بلدٍ في صراعه مع الموت، بل مع القتل والتدمير والإلغاء.
بهذا، يتّصل كشف المخفيّ بواقعٍ سوريّ، يُقيم في دمار واحتراق ومخاوف ومخاطر، وعيشه مليءٌ بقلق وقهر وآلام. الواقع السوريّ حربٌ، ظهورها ـ بصرياً وسمعياً ـ نادرٌ، وآثارها (أطلال أبنية، انفجار صاروخ في المنزل العائلي يُسبِّب أضراراً مادية فقط، شوارع مليئة بركامٍ، إلخ.) تُصيب نفوساً ومشاعر أيضاً. انقطاع المياه أثرٌ يُبنَى عليه نصٌّ (كتابة كعدان) يُراد منه أنْ يكون انعكاساً لمُصابٍ يحلّ بالعائلة، يتمثّل (المُصاب) بصدامٍ بين هالة ومُعتزّ، غير المتوافقَين أحدهما مع الآخر إزاء مسألة البقاء (معتزّ) والخروج إلى مكان آمن (هالة). أما زينة، فتعيش مرحلة عُمرية مهمّة للغاية، إذْ تبدأ اكتشاف جسدها ومشاعرها، رغم سوءٍ يُحيط بها، وغبار يفترش أرضاً وعقلاً (عناد الأب إزاء البقاء، ومحاولاته الهزيلة لخلقِ إيجابيات من وطأة السلبيات القاتلة).
صدامٌ كهذا يمتدّ مئة دقيقة، موزّعة على أيامٍ عدّة، يتخلّلها تعارفٌ بين زينة وابن الجيران، عامر (نزار العاني)، المهووس بتصوير الأفلام، ومنقذ هالة وزينة من جحيمٍ يفرضه معتزّ عليهما، لأنه رافضٌ الخروج، ومُصرّ على البقاء، كأنّ الرفض والإصرار انعكاسٌ لمعنى العلاقة بالبلد، وهذا يُناقَش طويلاً، فحسم الإجابة على السؤال غير سهلٍ، وغير قابل للتحقّق أصلاً، لأنّ الهجرة/البقاء مسألة ذاتية، ولكلٍّ منهما تبريرات، بعضها مُقنعٌ. اشتغالها سينمائياً دونه تحدّيات جمّة، درامياً وجمالياً وفنياً وتقنياً.
والسؤال، المغلَّف بسرد يوميات العائلة في جحيم بلدٍ ومنزلٍ، يتمثّل بالتالي: هل يبقى المرء في بلدٍ (منزل) معطوبٍ، يُثير خوفاً ويُشيع خراباً وموتاً، والأسوأ أنّ من يُثير الخوف ويشيع الخراب والموت نظامٌ يُفترض به أنْ يحمي أبناء الوطن وبناته، مانحاً إياهم كلّ أصناف الأمان والاحترام؟ إجابة سؤدد كعدان غير حاسمةٍ، فالخروج شبه الآمن لهالة وزينة رفقة عمر، عبر نفقٍ، سيتعطّل في لحظة وصول معتزّ إليهم، وتمكّنه من جذب زينة إليه، فترضخ هالة. اللاحق سيكون “لمّ شمل بقايا العائلة”، والتعبير عن الحبّ الكبير لمعتزّ إزاء هالة يكاد يُلغي كلّ ما له علاقة بجوهر التساؤلات المعنية بالهجرة/البقاء، ومفهوم العائلة/الوطن، وثنائية أهل/أبناء. ألن يكون الخضوع، الملتبس ربما، لهالة إزاء معتزّ، بسبب زينة، انعكاس لمفهوم خضوع المرأة للرجل، وإنْ بسبب ابن/ابنة؟ ألن يكون تشدّده الصارم إزاء الجيران، وخروج هالة عليهم من دون ارتداء الحجاب، فيغضب عليها طالباً منها بحدة ارتداءه، موقفٌ من مسألة علاقة الرجل بالمرأة؟
التعبير نفسه مُبالَغٌ في كاريكاتوريّته، التي تتفاقم مع أداء متصنّع لسامر المصري، الذي يخفق مراراً في إظهار خفّة دمّ وتصرّف هادئ وإعلان حبّ زوج/أب، محاولاً إشاعة مناخ مُريح رغم الخوف والقلق والاضطراب. أداء يبلغ، أحياناً، رتبة التهريج غير المُضحك وغير الممتع. فغلبة الحرب والتحرّر من الخوف وتجاوز التحدّيات أمورٌ يستسهلها التمثيل والنصّ والمعالجة، وسلوك معتزّ، كما يُبيّنه سامر المصري ويمارسه، مُنفر لشدّة اقترابه من بهلوانياتٍ، تحدث في تمثيلٍ وواقع.
للنصّ أهميته في مقاربة إحدى الحالات القاسية والصعبة، التي يُعانيها كثيرون وكثيرات في حروبٍ أهلية. لكنّ الترجمة السينمائية ينقصها ما يُزيل كلّ حاجز بين المُصوَّر (هِلن لوفار وبوراك كانبير) والمُشاهِد، وكلّ وهنٍ في تركيب الشخصيات وعلاقاتها، وفي كيفية مقاربة الأسئلة ومعاينتها، وفي تصميم مَشاهد وتنفيذها (مونتاج سؤدد كعدان ونيلّي كَتّييه). كأنّ هناك ناقصٌ دائماً، في الانفعالات والحوارات والأحلام، كما في الصدام والخروج والمطاردة. هناك ما يشي بانعدام منطقٍ درامي في بناء النصّ سينمائياً (شيءٌ يُشبه الارتباك في كتابة مَشاهد وعلاقات وآليات تعبير، وفي تنفيذ غالبيتها، خاصة إصابة المنزل العائليّ بصاروخ يُدمّر أكثر من جدار وسقف، من دون إصابة أفراد العائلة بالأخطر من جرحٍ)، وبعجزٍ عن منح الشخصيات حيويتها وواقعيتها وإنسانيتها.
يبدو أنّ الثقل الإنساني في ما تختاره سؤدد كعدان حائلٌ دون ترجمة سينمائية أمتن وأعمق. لديها قدرة على إيجاد ما يُثير إعمال تفكير وتأمّل في أحوالٍ، تبدأ بالفرديّ وتنتقل إلى تساؤلاتِ جماعة. لكنّ الترجمة السينمائية غير كافية، بل غير متساويةٍ والثقل الإنساني، القادر ـ مع ترجمة سينمائية أمتن وأعمق ـ على كشفٍ وتفكيكٍ وقولٍ، يُفترض بها أنْ تُثير متعة مُشاهدة رغم الخراب والموت والمآزق، وتنبّهاً إلى أحوال وأهوال. فيلمٌ قصير لها، بعنوان “عزيزة” (2019، 13 دقيقة، تمثيل عبد المنعم عمايري وكاريس بشار)، يؤكّد قدرتها على معاينةٍ ومقاربة سينمائيتين: قصة سلسة وإنْ تُحمَّل بقول سياسي/ثقافي، تكثيفٌ مقبول، إدارة تمثيل أفضل، معالجة أسلس. هذا غير حاضرٍ، كفاية، في “نزوح”، وحضوره في “يوم أضعت ظلّي” ـ الفائز بجائزة “أسد المستقبل أفضل فيلم”، في مسابقة “آفاق”، في الدورة الـ75 (29 آب ـ 8 أيلول 2018) لـ”مهرجان فينيسيا السينمائي” ـ أكبر وأهمّ.
رغم هذا، يُثير “نزوح” ـ المعروض للمرة الأولى دولياً في برنامج “آفاق إكسترا”، في الدورة الـ79 (31 آب ـ 10 أيلول 2022) للمهرجان نفسه ـ سؤال المقاربة السينمائية السورية للحرب الأسدية، المُعلنة من النظام ضد “ثورة 18 آذار” (2011)، ولهذه الثورة أشياء متفرّقة في “يوم أضعت ظلّي”، كما أنّ لتلك الحرب حضوراً في “نزوح”. سؤال يتجاوز مقالةً وفيلماً، لحاجته إلى أكثر من نقاشٍ وبحثٍ