في كتابه “الحرب الجوية والأدب” (بالألمانية: Luftkrieg und Literatur، والذي ترجم إلى الإنجليزية بعنوان مغاير، أخلَّ بالمعنى: On the Natural History of Destruction)، يتناول الكاتب الألماني وينفرايد جورج سيبالد (W. G. Sebald 1944-2001) الأثر النفسي والفكري للحرب العالمية الثانية، وتحديدًا الدمار الذي أحدثته غارات قوات الحلفاء على مدن ألمانية رئيسية مثل دريزدن وهامبورغ في العام 1943 – 1944. يقول سيبالد: “أولئك الذين أثَّرت عليهم (تلك) التجربة بشكل مباشر لم يشاركوها فيما بينهم، ولم ينقلوها للجيل التالي”، ينبهنا سيبالد -بذكاء- إلى أن “النظر والنظر بعيدًا” بمعنى إشاحته، عن المأساة كان شأنًا مشتركًا في الكثير من الدول التي مرت بأمر مشابه، كاليابان، والولايات المتحدة وفرنسا، ما أدى إلى عدد من سياسات الذاكرة والخيال/المخيال اتفقت أغلبها على النسيان و/أو الطمس. وإشاحة النظر تلك -كما يشير سيبالد- تحدث من خلال سياسات عمرانية، سميت لاحقًا في أدبيات العولمة المركزية الغربية وسياساتها المكانية المتعلقة بالذاكرة: “إعادة إعمار”. انبنت أدبيات النظر تلك على الحاجة إلى فقدان ذاكرة جماعي، تجاه ما حدث، أنتجت سياسات عمرانية تقوم على طمس الموت والخرائب والذاكرة والجسد والمكان، وإذ نفترض أن ثمة علاقة عضوية بين الكتابة/السرد والبناء/العمران، يمكننا فهم ما تفعله الكتابة والعمران من إخراس وإلغاء في حالات إشاحة البصر، أو انعدام القدرة على رؤية النص السردي والمادي.
من هنا يمكننا التأسيس للمقاربة الرئيسية لفيلم “حمى البحر المتوسط” (2022)، من إخراج مها الحاج، ويقوم بالأدوار الرئيسية فيه عامر حليحل، بدور وليد روائي (أو) كاتب في منتصف العمر، ترك عمله في بنك، ليتفرغ لكتابة منجزه الكتابي الأول. إلا أنه لا يستطيع. ما يمنحه إحساسًا خانقًا أنه في سجنٍ كبير (السجن الفلسطيني). منذ عامين، يُعاني اكتئابًا مزمنًا، يتابع معه طبيبة نفسية بشكل غير منتظم، ولا يتناول أدويته، لشعوره الراسخ بانعدام أي جدوى.
الشخصية الرئيسية الثانية وهي جلال، جار وليد الجديد في الشقة المقابلة، يلعب الدور ببراعة أشرف فرح. جلال غير مهتمّ بالواقع الفلسطيني، وإنما يتخذ عناصره السياسية والهوياتية العربية بشكل طقوسي لا أكثر ولا أقل، إذ سمى كلبَيه الأخطل والخنساء، بعد اسميهما الأجنبيين السابقين. جلال لامبال يعشق المرح، ومنخرط في عالم الجريمة، لكنه ظاهريًا عامل بناء.
عن الصداقة
تجمع صداقة ما بين النقيضين ظاهرًا، الشبيهين باطنًا. صداقة من النوع الذكوري، فكلاهما يمتشق “عضوًا” ذكريٍا في علاقته مع معنى وجوده: القلم في حالة وليد، وبندقية الصيد في حالة جلال، وكلاهما يجد مردودًا ما في علاقته تلك بالآخر. ودخول الفيلم لعوالم الصداقة الذكورية هذه إنما ينطوي على الكثير من المخاطرة الجسدية والجنسانية، دون الوقوع في كليشيهات السرد المعتادة عنها.
تقوم الصداقة على إقناع وليد لجلال أن يدخله عالمه، في الإجرام، ليستفيد من ذلك في كتابة عمله، لكن سرعان ما تتضح الحقيقة أنه، يريد بذلك أن يستغل ظرفًا اقتصاديًا يمر به جلال، ليتمكن من دفع مبلغ مالي له ليقوم بقتله ووضع حد له مع معاناته بشأن اكتئابه المزمن.
عن الصداقة يخبرنا الفيلسوف الفرنسي دولوز أن الصداقة هي صداقة الحكمة، بحيث تصبح الحكمة هنا موضوعًا للرغبة، والصديق هو توجه إليها بشكلٍ ما أو بآخر، يمكن للصداقة حينها أن تنطوي “على حذر تنافسي مقابل الند بقدر ما تنطوي على نزوع عشقي نحو موضوع الرغبة”. ولنتأمل موقف وليد من خلال ما قاله لزوجته، أنه: “زنخ وفصح وثقيل دم!”، بل وكان ينظر إليه على صعيد المعرفة والثقافة نظرة دونية لأسباب وطنية، ومع ذلك يسوقنا الفيلم/السرد إلى هشاشة تجمع كليهما، لا تفسرها الثقافة والوطنية ولن تطمسها اللامبالاة و”الزعرنة”.
“قد يغدو الصديقان، حينما تتحول الصداقة نحو الماهية، بمثابة الراغب والمنافس (لكن من سيميز بينهما؟). وهي اللحظة التي نراها في مشهد النهاية.
عن حيفا المدينة والجغرافيا: بين الطرف والمركز، أو الميلانخوليا والحمى
ثمة خيوط تمتد على طولها في المبنى الأساسي للفيلم وما يطرحه، فحمى البحر المتوسط هنا، والتي أصابت ابن وليد، ترتبط كما قالت له الطبيبة وراثيًا بسكان منطقة “شرق المتوسط”، ولها امتدادات ثقافية في الدين والهوية. وهو نفس الربط الذي نراه على امتداد الخيط، بحصص الجغرافيا، في المدرسة، والتي يهرب منها ابن وليد، وتنتابه وعكة “حمى المتوسط” فقط حينها.*
تحضر حيفا بقوة في الفيلم، لكنها تحضر من خلال سردية أساسية وهو كونها مدينة تعاني هي أيضًا على مستوى المشاهد من حمى البحر المتوسط لنفس الأسباب التي عددتها الطبيبة في الفيلم. ثمة أمر وراثي في تلك المدينة يصيبها بالفصام في علاقتها بفلسطينيتها من ناحية، ومن أخرى بعلاقتها بسياقها الاحتلالي، ما يكسبها صفة ميلانخولية حزينة، لها علاقة بفقد لم تروه المدينة بعد، والإضاءة هنا لسيبالد.
ولنفهم ما يحدث بالنسبة لحيفا (مدينةً واجتماعًا) في الفيلم، نضع في نصب أعيننا مشهدًا شارحًا.
ابن وليد تصيبه وعكة “حمى المتوسط” فقط في أيام الثلاثاء، وتحديدًا في حصة الجغرافيا. وحين تنبه وليد للأمر، أخبره ابنه بأزمته مع معلمة الجغرافيا ومقولاتها، حينها اقترح الأب على الابن أن يواجها معلمة الجغرافيا، و”نعطيها درس في التاريخ”.
التاريخ هنا هو الزمن، وفي هذا الزمن أصبحت القضايا المعرفية قضايا زمان بالمعنى المزدوج: الزمان كقضية معرفية (التاريخ)، والمعرفة كنتاج لحركة الزمان. وهو ما عوّل عليه وليد لمواجهة جهل الجغرافيا لدى المعلمة، ما أدى إلى وعكة ابنه. بمعنى آخر، هنا تكتمل المعادلة: الوجود الزمني/التاريخي في مواجهة تبعات موقع جغرافي (ما) (حمى المتوسط) يستلزم جسدًا، فاعلًا على المستوى التاريخي والجغرافي، كمعارف وليس فقط وجود. وهنا نفهم موقف المعلمة والطبيبة من وليد وابنه.
بالعودة إلى التاريخ/الزمان والمدينة كجغرافيا/مكان. وبالنظر إلى المدينة الحاضرة في خلفية أغلب المشاهد، وكأن النص البصري هو رثائية ما لحيفا العربية. نرى أن النص البصري للمدينة في الفيلم إنما يموضع الفلسطيني في موقع الطرف الثابت من المركز المتحرك -حداثيًا- الصهيوني. فخروج الفلسطيني/ة في الفيلم/الكادر إنما يحدث من على الأطراف والفضاءات الخاصة: كالطفل، وحبيبة جلال السرية، وصديقه المدين له بالنقود، حتى أهل وليد، كل هؤلاء يتحركون على الأطراف المدينية، من الفضاءات الخاصة، أو الفارغة، أو المهجرة والقديمة. حتى أن المشهد الوحيد الذي يحدث في الفضاء العام، هو حينما كان يتمشى وليد على ممشى الشاطئ في المدينة (غالبًا في منطقة وادي الجمال)، ويلتقي مصادفة بجلال وكلبيه، وجيرانهما (بعد برهة). حينها تناقشا بشكل عابر في أمور وطنية، وأشار جلال إلى شارع الجبل باسمه العبراني “تسيونوت”، ليعيد وليد التسمية العربية (شارع الجبل)، ليدخلا في نقاش على وطنية المكان، فيتهم وليد جلال بالخيانة، وحينها تهجم كلاب جلال عليه، مع مرور الجيران، الذين يستوقفهم مشهد الهجوم فقط(!).
في الفضاء العام للجماعة الفلسطينية في الداخل المحتل لا وجود لعلاقة اجتماعية قوية تنبني رأسيًا، فكل ذلك عابر. والحديث وإن كان وطنيًا، فهو مع ذلك حديث عابر، وكذلك الجيرة والصداقة والوطنية، كلها شؤون عابرة في الفضاء العام، عندما تصدر عن ذوات عربية، عابرة على أطراف مدينتها.
ينبهنا هذا الأمر إلى فهم سيرورة التكوين الاجتماعي للمدن المختلطة في الداخل الفلسطيني المحتل، وحيفا هي مُشار حديثنا هنا. فقد قامت الدولة الإسرائيلية باعتبارها امتدادًا استعاريًا للحداثة الغربية، من حيث السياسات المدينية/الحضرية بموضعة المجموعة اليهودية في المدن المختلطة باعتبارها كيانات “عبر تاريخية” (Meta Historical)، لها جذورها وامتداداتها المدينية التاريخية والجغرافية، في المقابل صدرت أوامر عسكرية لتركيز الفلسطينيين المتبقين في حيفا في منطقة سكنية واحدة، أطلق عليها في حينه “الغيتو العربي”، كما جاء في أحد التقارير في صحيفة “كول هعام” (صوت الشعب) بتاريخ 8 أيلول سبتمبر 1948، والذي حمل عنوان “الغيتو لعرب حيفا”، بناءً على ما سبق ذلك في تاريخ 26 نيسان/إبريل 1948، من أمر عسكري رقم 1 (من أرشيف الهاغاناه) بتعريف حدود ذلك الغيتو: وادي النسناس، وحدود وادي الصليب، الحاضرين في الفيلم، وليس من قبيل المصادفة.
أدى هذا التقسيم الحداثي إلى جعل المركز الإسرائيلي حيًا متحركًا في الزمان/التاريخ والجغرافيا/المكان، في مقابل توزيعات طرفية للفلسطينيين لا يمكنهم الحركة إلا بتصاريح عسكرية، ما أدى إلى تشكيل الهوية الجماعية والجمعية الفلسطينية بناءً على ذلك، على مستوى العلاقات الجمعية، امتدادًا من الجسد والحيز الفردي الحميم. هنا مثلًا يمكننا فهم كم التفاصيل في المشاهد المتعلقة بالبيت والحيز الحميم، سواءً في بيت وليد، أو عائلته أو جلال، ثمة استعارة تنطلق من مساحة الحيز الشخصي-الجسدي/المنزلي إلى الحيز المتعلق بالحق في المدينة والمكان والحكاية، يجعل تلك الحيوات المدينية أقرب إلى تسمية عبد المالك سيمون: Improvised Lives، في تناوله لتجارب المدن الجنوبية ما بعد الكولونيالية.
الجسد والعجز الكتابي
لم يكن سيبالد قد ولد بعد حين بدأ الحلفاء هجومهم الجوي المدمر على هامبورغ ودريزدن في ألمانيا. إلا أنه يفسر عدم مواجهة ما حدث حينها على مستوى الفكر والأدب، بوجود أسباب كالشعور بالذنب، والعار منه. الأمر فلسطينيًا مشابه، إذ تكاد أغلب الأعمال الفكرية والأدبية الفلسطينية تتناول “ما بعد” المأساة. والأمر ممتد على الأدب والفكر والسرد والأعمال الفنية والتشكيلية. فأعمال إسماعيل شموط مثلًا، تناولت الخروج على أثر المأساة، وهي النموذج الأكثر استدعاءً على غير حجة في هذا الجدل. أمّا في الأدب فالأمر أقل وطأة؛ إذ يحسب هنا لرواية “باب الشمس” أنها تكاد تكون الوحيدة في وصف لحظة المأساة الفلسطينية (نذكر هنا أن الباحث إسماعيل الناشف يسمي العشر سنين الأولى من النكبة بالـ”عشرية المفقودة”). أما سينمائيًا، ولشروط تتعلق بالتقنية والصناعة والسياق، كان الحال مختلفًا قليلًا، فقد تعاقبت في السنوات الأخيرة أفلام تناولت المأساة، ولو شذرًا.
الأمر لا يتعلق بوليد وحده إذن، إذ ثمة عجز تالٍ على المأساة نجده في أزمة جلال أيضًا، التي قد لا يكون واعٍ لها. هذا ما جعل فعل الكتابة والتذكر لوليد أمرًا صعبًا، في مقابل لا مبالاة جلال. عن الكتابة والتذكر نحيل إلى حسين البرغوثي في “الفراغ الذي رأى التفاصيل”، إذ يقول: “في الإنجليزية تفرقة لطيفة بين إدراك الشيء لأول مرة (Cognition) وبين إعادة إدراكه (Recognition)، الأول إدراك جديد، وأما الثاني فمعرفة متكررة، متذكرة، أي نمط إدراك يعاد إنتاجه. نوع من أنواع “العادة” (من: عاد يعود إلى الشيء السابق). فما أبحث عنه عمليًا، في هذا المكان هو الخروج منه، أي العودة من مكان جديد مدرك لأول مرة إلى مكان قديم سبق وأدركته. وهذه العودة للمألوف هي غايتي”.
من اقتباس العبقري حسين يمكننا تتبع تداعيات الانهيار النفسي لوليد على مستوى الفرد والجماعة، فعدم القدرة على كتابة المأساة بما هي سعي للخروج عن المكان إلى معرفة الشيء السابق، ألا تعني نكبة على النكبة الأولى، تجعل من المفهوم عدم قدرته على الكتابة بكل ما أورثته تلك المعرفة من طمس وتغييب وعدم معرفة، والأهم عدم القدرة على التعبير في غياب اللغة والمعنى؟
سعي وليد إلى الموت، هو خروج من موت لا يستطيع كتابته عن المأساة الفلسطينية، وموت الجغرافيا، وهو السبب الأساسي في اندفاعه الجسداني للانتحار بعد موته السابق فلسطينيًا، كمتتالية لحمى ابنه. لكنه انتحار ينحبس في الجسد التداولي من الموت برصاصة إلى الموت بخطأ طبيب التخدير، لكنه موت لا يضمن “العودة الدائمة”، كما يخبرنا نيتشه، والتي هي في نظره عودة الشيء نفسه أو عودة إلى “الشيء نفسه”، وهو ما لم ولا يحدث في حالة الفلسطيني (وليد، حسين البرغوثي، أنا، وغيرنا)، بل الإشكالية كما يقول البرغوثي، معكوسة تمامًا: الشيء نفسه يختفي، تنطمس معالمه، فأبحث عن “التكرار”، عن العودة، ولو لمرة إلى الشيء نفسه بلا جدوى”.
ميلانخوليا العودة والموت والكتابة، تمتد على كامل أشكال وتمثيلات الوجود الفلسطيني، وكأنها مرآة مهشمة، في الجغرافيا والزمان والهوية. ولنا في عنوان كتاب بيتر فريتشيه “وحيدًا في الحاضر (Stranded in the Present، 2004)، عن أزمة تذرر الوجود في الحاضر في مناهج “الكتابة” التاريخية، والتي أورثت الإنسان المعاصر انقطاعاته عن ماضيه من خلال تاريخ لا يفتأ أن يطمسه. فلسطينيًا لا يختلف الأمر كثيرًا، إلا في تراكب استعارات تاريخية تقوم على استعادة الغياب ومراكمة الموت، دون أي معرفة نقدية كما في هوس الأرشفة الحالي، ولذلك الأمر متن آخر.
“حمى البحر المتوسط” يطرح مفهومًا جديدًا للسينما الفلسطينية، دون أن نغرق في البحث عن الجندي وسوره وبندقيته، وأن ننسى الفلسطيني/ة.
هامش