منذ شق الحلم القطري طريقه لاستضافة فعاليات كأس العالم 2022 قبل أكثر من اثني عشر عاماً، وحتى لحظة انطلاق الفعاليات في 20 تشرين الثاني 2022، لم تتوقف الانتقادات التي طالت الدولة العربية رغم جهودها الواضحة في التحضير لاستقبال هذا الحدث الهام والتشكيك في قدرتها على ذلك. كانت الغطرسة الأوروبية والهجمة التي شنتها صحافة وإعلام العديد من الكيانات الغربية ظاهرة في كثير من الأفعال والتصريحات التي تدعي قيام قطر، والشرق عموماً، بانتهاك حقوق الإنسان والعمال وتنتقد العادات والتقاليد العربية والإسلامية، وتعرضت قطر إلى حملة منظمة وربما غير مسبوقة بدأت بالتساؤل حول طريقة فوزها بحق الاستضافة واتهامها بتقديم الرشاوى، الأمر الذي سرعان ما قامت الفيفا بنفيه، فما كان من رعاة هذه الهجمة سوى انتقاد طقس قطر الحار وغير المناسب، ليكون الرد إعلان أول مونديال شتوي في التاريخ وبناء ملاعب مكيفة بالكامل ومتوافقة مع معايير الاستدامة. كذلك تم انتقاد حظر المشروبات الكحولية في الملاعب والتذرع به لكيل مزيد من الاتهامات للبلد المضيف، وذلك رغم قيام البرازيل بمنع تناول الكحول في الملاعب نظرا لما يرافق ذلك من أحداث شغب.
لقد كانت استضافة فعاليات كأس العالم طوال أكثر من سبعة عقود ضمن الحدود الجغرافية للقارة الأوروبية والأمريكيتين، وبعيدة كل البعد عن الجنوب العالمي والشرق بمفهومه الأوسع حتى مونديال عام 2002 في كوريا الجنوبية واليابان، ويبدو أن الهجمة التي تعرضت لها قطر لم تكن سوى جزء من هجمات وانتقادات متسلسلة لكل استضافة ممكنة خارج هذا النطاق الجغرافي، كجنوب إفريقيا وروسيا، والتي تمثل نموذجاً مختلفا ومغايراً للعالم الغربي. وقد تشكل مقاربة المنطق المتعلق بمسار التاريخ الإنساني وحركته الكلية، في ضوء مقاربة هيجل التاريخية وقوله إن الأحداث الكبرى والشخصيات التاريخية تتكرَّر مرَّتين -ورؤية كارل ماركس النقدية لهذه المقاربة وتعقيبه أنها تظهر في المرَّة الأولى كمأساة قبل أن تأتي في المرَّة الثانية في صورة مهزلة- مفتاحاً لمعالجة التصورات والهجمات الحالية ضد قطر باعتبارها شاهداً حيا على إمكانية تطور وتقدم ما هو ليس “غربي” دون اشتراط “غربنته” أو التجرد من شرقيته. المشهد الذي يعيد إلى الذاكرة ذلك الجدل المتمحور حول هيمنة المركزية الغربية المتجذرة في السياق التاريخي المصاحب لنشوء المعرفة ضمن إطار المنظومة الاستعمارية وعلاقة ذلك بهوية الشرق وصورته الذهنية المتخيلة وما تتضمنه من معتقدات وتصورات وعادات وممارسات سيطرت على تجليات حضوره في الكتابة التاريخية.
وإذا افترضنا أن المعاني الخيالية هي محرِّكة العقل، كما اعتبر ابن رشد في شرحه لأرسطو، فإنها تشكل ضرباً من المحسوسات عند غياب المحسوسات، ذلك أن العقل يجرد التصور ويخلقه، أي أنه يتمثل الأشياء ويصوِّرها بحيث يجعل الصورة التي تتخيلها النفس أو تشتهيها معقولة. ويشير كارل ماركس في هذا الإطار إلى أن النحلة في بناء خلاياها تتفوق على الكثير من المهندسين المعماريين، غير أن ما يميز أسوأ معماري عن أبرع نحلة، هو أن المعماري يقيم البنيان في خياله قبل أن يبنيه من الشمع، ففي ختام كل عملية عمل، نحصل على نتيجة كانت موجودة، سلفا، في مخيلة العامل الذي يحقق غايته الواعية التي تفرض عليه أسلوب وطريقة أفعاله كقانون ينبغي أن تخضع له مشيئته. ويرى ميتشل (Mitchel, 1991) أن الاستعمار كان يعتمد على خلق واستبعاد نقيضه في وقت واحد، معتبراً أن الشرق بالنسبة للأوروبيين لم يكن سوى الواقع الخارجي والمدلول العظيم لسلطة البنية المقامة في الخيال وأن صورته لم تكن انعكاساً لليقين بقدر ما كانت وسيلة لإنتاج “أنا” غربية تتسم بهوية ذاتية متفردة وتؤسس حداً مطلقاً بين الذات والآخر، أي بين الحداثة وماضيها، الأمر الذي يكسب الغرب هويته النقية وغير الفاسدة أو المنقسمة، وينظر إلى كل ما هو شرقي باعتباره جزءاً مستبعداً لكن متكاملاً من الهوية الغربية.
ويظهر أن طريقة تخيل الغرب للشرق قد أثرت بشكل واضح في تحولاته السوسيولوجية وبواعثه الثقافية، حيث جرى استيعاب الحداثة في الأيديولوجيا الرسمية والمؤسساتية الغربية على نطاق واسع، وتم استخدامها في بناء السلطة والثقافة الإمبريالية (هارفي، 2005). وقد عمل الاستعمار على إعادة تشكيل البنى القائمة للمعرفة الإنسانية كما لامست التجربة الاستعمارية مختلف فروع العلم في عملية أقرب ما تكون للأيديولوجيا التي تسيء تمثيل الواقع وتعيد ترتيبه، حيث دلت كتابات الحقبة الاستعمارية على طريقة جديدة في التفكير حول الأوروبيين وغيرهم، وتقديمهما في واقع الحال على أنهما ثنائيتان متناقضتان، وإنتاج اختلاف بين الأبيض والأسود (لومبا، 2007). وقد أكد جان بول سارتر (سارتر، 2004) في معرض تقديمه لكتاب فرانز فانون “معذبو الأرض” أن أوروبا، والتي جرى تعريفها لاحقاً باسم الغرب، قد غزت واستعمرت مناطق أخرى وقسمت العالم إلى قسم متحضر وآخر متخلف وكتبت تاريخ الإنسان من خلال تصورها لذاتها بطريقة تُغفل وتحط من قدر المؤشرات الثقافية والأدبية والفنية للآخرين.
ويبدو، والحال كذلك، أن النظام الوستفالي الغربي قد بُني ابتداءً لتنظيم العلاقات بين قوى اعتبرها متساوية واستثنى دول آسيا وإفريقيا، مفترضاً أن الآخر الذي ينتمي لعرق أو أيدولوجيا وثقافة مغايرة لا يمكن معاملته بذات المساواة أو الندية، بل إنه ليس بإمكانه التوق إلى مكانة متكافئة مع الغرب، ما يخلق صداماً ثقافياً ويحيل النظرة الأوروبية إلى شكل من أشكال المركزية العرقية باعتبارها مركزًا حضاريًا وثقافيًا متفوقًا على الآخر خارج نطاقها الجغرافي (بديع، 2015). ويرى ديفيد هارفي (Harvey, 1990) أن النزعات والتوجهات الثقافوية للمشروع التنويري ولرجال الفكر الأوروبي في أواسط القرن 19 قد اندرجت سوياً تحت عنوان الحداثة، تلك المتناقضة وغير الثابتة والتي لا ضمان معها سوى أنها نفسها غير مضمونة وعابرة للزمان والمكان دون احترام أو حفظ للاستمرار والتواصل التاريخي. ومما لا شك فيه أن المشروع الكولونيالي لم يكن حكراً على الأبعاد العسكرية والاقتصادية فقط، بل كان ذا طبيعة شمولية مستندة إلى ظلم معرفي وإكراه نظري يتضمن في ثناياه بعداً ثقافياً يهدف إلى تمكين قيم ومبادئ المركزية الغربية واختراع وإقصاء الآخر الذي تم توصيفه بالهمجية والبدائية، وأن الاستعمار قد تدخل بشكل أو بآخر في تشكيل الهوية الثقافية للبلدان المُستَعمَرة والبنى المعرفية التي تم تكريسها لترسيخ العنصرية التي تنظر إلى اللاغرب على أنه مجرد آخر للغرب، أو موقع يُصار إلى إعادة تعريف تاريخه وهويته بعيون غربية.
وقد ذهب الفيلسوف الألماني جورج هيجل (2001 Hegel,) إلى القول بمركزية التاريخ الأوروبي، معتبراً أن هناك ارتباطًا كبيرًا بين الجغرافيا والتاريخ، وأن جغرافية وطبيعة المكان تؤثران في سلوك السكان وثقافتهم، وبالتالي موقعهم التاريخي، ورأى في زنوج إفريقيا مثالا على الطبيعة الهمجية التي يجب إنقاذهم منها باستعمارهم واسترقاقهم، فذلك أرحم لهم من حياة العنف التي يعيشونها، واعتبر أن المناطق المتحضرة في شمال إفريقيا ليست سوى امتداد للحضارة الأوروبية، وأن تاريخ الشرق لا يعدو كونه تكراراً لخراب مهيب. الأمر الذي يؤكد أن العيون الغربية التي كانت موجهة نحو الشرق لاستكشافه، وما نتج عنها من معارف أوروبية تقصي الأصلاني وتسقطه من المعادلة استناداً إلى سردية الغرب التاريخية التي تستبطن جوهرانية كل ما هو ليس بأبيض -والتي أجد أن الحملة المستمرة ضد قطر والخطاب الغربي الفوقي والاصطفائي يشكلان جزءاً لا يتجزأ منها- لم تكن يوماً بريئة أو عبثية ولا عفوية، بل كانت جزءاً من منظومة متكاملة ونهج ممأسس رأى فيهما الغرب حاجة ملحة لتمكين وتبرير سيطرته على الشرق وتكريس الهيمنة ونزعات المركزية الغربية وتأسيس حد مطلق بين الذات والآخر، والتي قادت إلى وجود مضاعفات عنيفة من التفاعل الأيديولوجي والثقافي والمعرفي المستمر بين المُستَعمِر والمُستَعمَر.