عندما أقوم بتحرير صورة ما، أحب كثيرًا أن أشعل التلفاز على إحدى قنوات الأفلام وأكتم صوته تمامًا، فأن أكون على مقدرة على ممارسة التأمل في صور التقطت من قبل شخص آخر، هو جزء من قدرتي على إخراج الصور. عندما كنا نقوم بعملية المونتاج خلال فيلم Goodfellas، نهضت من مقعدي لأتحرك نحو شاشة التلفاز ونظرت، رأيت مشاهد حقيقية. توقفت وتأملتها قليلا; كان لاعبو كمال الأجسام يرفعون الأثقال في صالة الألعاب الرياضية، وتم وضعهم وتجميعهم في زوايا غريبة، وكانت امرأتان تنزلقان وترقصان بينهما، واستمرت أقسام من الأوبرا الباروكية في الظهور، ثم تعلوا أصوات الصالة الرياضية على صوتها، ثم تخفت مرة أخرى. أصابتني الدهشة، ولكن ماذا كنت أشاهد؟ في مرحلة ما، علمت أنني كنت أشاهد فيلمًا كان من الممكن أن يصنعه جان لوك غودار فقط. لم أكن أعرف أوبرا أرميد لولي، Lully Armide، ولم أكن أعرف قصيدة الشاعر توركوا تو تاسو، Torquate Tasso، التي تعود إلى القرن السادس عشر، والتي استندت عليها الأوبرا، لكنني كنت أعرف غودار; كنت أعرف بصمته وتوقيعه.
تحدثت كثيرًا عن تجربتي كشاب خلال فترة الستينيات، عندما كنت أدخل وأخرج من السينما بشكل منتظم ولا تفارقني الدهشة وأنا في قاعة السينما أشاهد أفلام مايكل انجلو، جون كارافيتس، آلان رينيه، انغمار بيرغمان، ناجيسا أوشيما، شوهي إمامورا، فيديريكو فلينى، فرانسوا تروفوا وغيرهم الكثير. وبعد ذلك كان غودار.
عندما تدخل قاعة السينما وتجلس في مقعدك مُحضرًا معك أفكارًا ثابتة حول ماهيِّة الفيلم، وآليات إنتاجه، وقدرته على التأثير، كان غودار يجمع كل تلك المفاهيم المشتركة ويرميها في الهواء ويتركها تهبط حيث يريد. أعاد غودار تعريف السينما في لغة خاصة، فهو يقدم فيلم لن ترف عينك عنه ثانية، ولكنه قادر على أن يفاجئك مرارًا وتكرارًا في كل لقطة وفي كل مقطع.
أن تشاهد ممثلًا في شخصية مستوحاة من عمل خيالي، فيتركك ذلك تراوح بين سؤال الواقع والمتخيل، وإلى أي درجة تشاهد إنسان من قلب الحدث؟ وكيف تتجسد القصة مشهدًا بصريًا؟ فهل هذه اللقطة أو سلسلة اللقطات هي المعادل لفقرات في رواية، أم هي لحظات من الواقع المُنساب في عين الكاميرا؟ أم أنه يجمع بينهما معًا؟ هذه أسئلة لا يستطيع مقاربتها بذلك المزيج من الحرية والجسارة إلا من أحب السينما بقدر ما أحبها غودار، واستطاع أن يعرفها جيدًا كما فعل.
عندما شاهدت فيلم Breathless للمرة الأولى، أول ما ربطني به طريقة صناعة الفيلم في حد ذاتها، أذهلتني تمامًا. أستحضر المقاطع التي يستخدم فيها تقنية jump cuts بشكل لا نهائي، لكن التجربة الفعلية لمشاهدتها كانت مسألة مختلفة. في البداية كانت هذه المقاطع مقلقة، ثم تبدأ بإثارة شيء ما بداخلك، ثم تتركك في حالة من الافتتان.
يتنقل في الزمن خلال تلك اللحظات الصغيرة في الوقت الذي قد يبدو اعتباطيا لوهلة ما ليتركك في حالة تشكك وريبة. ولكن بعد ذلك، عندما كنت أتأمل الصورة، بدأت أدرك أنها لم تكن اعتباطية على الإطلاق، وأن تلك اللقطات تأتي دائمًا على شكل فواصل تستطيع أن تصدمك وأنت في كامل يقظتك. لكن متيقظا على ماذا بالضبط؟ بالنسبة للسؤال الأساسي في جوهر عمله في التحرير: لماذا يتم القص من لقطة إلى أخرى، ولماذا هذا الإطار بدلاً من ذلك؟ بعبارة أخرى يصبح فعل صناعة الأفلام جزءًا من تجربة الفيلم نفسه.
واصل غودار من فيلم إلى آخر المضي قدمًا، ليس فقط في التعامل مع قواعد صناعة الفيلم ولكن في تعامله مع الحقائق المادية للسينما. كانت مادة السيلولويد نفسها جزءًا من التقليد الطليعي في السينما قبله، لكن استخدامه كان أقرب إلى الفنون البصرية. كان يتعامل مع الشخصية والسرد والخدع السينمائية، وكل تقاليد السينما كما عرفناها. لكنه فعل كل ما لم يكن من الممكن أن يفعله غيره. تجده يقطع الصوت فجأة، أو يقطع النوتات الموسيقية في لحظات غريبة أو يتخللها بشكل إيقاعي تأثيرات محيطة. كان من المفترض أن تظهر اختياراته عفوية وعشوائية، لكنها دائمًا ما كانت تنبثق من روح المادة. أخرج غودار فيلم Alphaville في باريس عام 1965 في ثيمة مدينة المستقبل، ويرتبط الفيلم بصريًا بشكل مباشر بالتعبيرية الألمانية – نشعر به بشدة في التحول المفاجئ إلى السلبية. في فيلم Weekend، يتم التعبير عن عنف العمل وكراهية غودار المطلقة للثقافة الفرنسية للطبقة الوسطى بعدة طرق مختلفة على عدة مستويات، لكننا نشعر حقًا، بشكل عميق، في استخدام اللقطات المتناقضة داخل الإطار نفسه، بحيث يُسخِّر الوسيط ليصبح جزءًا من السرد. في ذلك الوقت، أثيرت جميع الاعتراضات التي قد نتوقعها، والتي ترقى إلى: هذه ليست طريقة لصناعة الأفلام. كانت إجابة غودار في شكل الفيلم نفسه: لم لا؟
ثم كان هناك التحول في السينما إلى اللون. بدءًا من فيلم A Woman is a woman وبقوة متزايدة وجرأة في كل من أفلامه: Contempt، Made in USA, La Chinoise, Two or Three Things I know About her جعلنا غودار نصطدم وجهًا لوجه بالألوان – الألوان الأساسية الجريئة التي عملت على تسطيح (تجريد) الإطار البصري، متجسدًا لدينا في جميع أشكال التكوينات. كنت مغرمًا بالقول إن رساميّ المعاصرين المفضلين هما جان لوك غودار ومايكل أنجلو، وقد عنيت ذلك بكل تأكيد.
ثم كانت هناك كل تلك الكلمات: عناوين الفصول، مقتطفات لنصوص يدخلها في منتصف الحدث، ويعيد ترتيب الكلمات لتشكيل كلمات أخرى، والكلمات كتداخلات بصرية وإيقاعية، وبالطبع الكلمات المنطوقة في شكل اقتباسات. لم أتمكن دائمًا من متابعتها كلها أو تجميعها مع بقية الفيلم، ونادرًا ما كنت أعرف المصدر، لكن لم يكن هذا هو الهدف. مثل كل شيء مختلف في غودار، كان استخدام الاقتباسات مثيرًا. تمنح الأفلام شعورا بالانعتاق، على أقل تقدير، حتى عندما كانت في أقصى حالاتها إثارة للغضب. لم تتوقف عن فتح أعيننا وجعلنا نفكر.
أقل ما يقال في غودار أنه كان غزير الإنتاج، كانت الصور التي يخرجها تجري في سيل كثيف. كان صوته يتطور باستمرار، واستجابته لكل ما يحدث في العالم -حرب الجزائر، حرب فيتنام، التأثير الماوي، مايو 6، الوجه المتغير لباريس، صراع الحياة الداخلي للرجال والنساء والفتيان والفتيات، الواقع المستمر لكسب الرزق وتأمين لقمة العيش- الأكثر أهمية. لكن كانت هناك بعض الأفلام الفردية التي أثرت علي بشدة. كان فيلم Vivre sa vie تجربة عميقة للكثير منا. أذهلني مشهدًا تلو الآخر، متجر التسجيلات، حيث تتحرك الكاميرا مع شخصية نانا التي تلعب دورها آنا كارينا وفقًا لمتطلبات وإيقاع عملها؛ لقاء مع الفيلسوف بريس بارين في المقهى. التسلسل “الوثائقي” حيث يتم عرض تفاصيل الإتجار بنانا كعاهرة مع التفاصيل الإكلينيكية حول الموسيقى التصويرية والشعر المتجسد بصريا على الشاشة. لكن التأثير الكامل للفيلم كان مصدرًا ملهما للغاية. تمنح مشاهدة الفيلم رؤية نانا من جوانب مختلفة وتبحث بدقة في خبايا شخصيتها وكأننا أمام لوحة رائعة يتم رسمها أمام أعيننا. ترك موتها الوحشي المفاجئ البعض في حالة من السخط. بالنسبة لي، كان الأمر غير مستغرب، لأن هذا هو ما يحدث في الشوارع.
أفضل أفلام غودار هو فيلم Contempt فيما يمكن اعتباره تجربة تراجيدية بامتياز. وهو فيلم يتحدث عن خيانة حقيقية: خيانة زوج لزوجته، خيانة السينما (التي جسدها فريتز لانغر على أنه البطل – روحه تطارد أيضًا فيلم جاك ريفيت (“Paris Belongs to Us” للمنتج جاك بالانس، خيانة هوميروس; الأسطورة، من العصور القديمة. اللحظة الأخيرة، عندما تتحرك الكاميرا بعيدًا إلى المحيط الهادئ عبر نداءات الصمت، لم تتحقق أبدًا في تحريك سريرتي بعمق. إنها رثاء للسينما، للحب، للشرف، للحضارة الغربية نفسها.
كتب غودار في مقدمته لرسائل تروفو: “ربما يكون فرانسوا ميتًا. ربما أنا على قيد الحياة. ولكن بعد ذلك، هل هناك فرق؟ ” الآن ربما مات غودار، مثل تروفو. يمكننا قول الشيء نفسه عن روبرت جونسون أو هيرمان ميلفيل أو سوفوكليس أو هوميروس. لكن تجربتهم الفنية تبقى على قيد الحياة بشكل لا يقبل الجدل. فهي العمل الذي، سواء كنا مشاهدين مستعدين له أم لا، يولدنا أحرارًا.