في عناق الكلمة واللون تدعونا اللوحات أحيانا لنذهب بعيداً إلى المكان التي أتت منه، فنتخيله أحيانا نصاً أو قصيدة. هناك الكثير من الأعمال الفنية التي لم تتأثر بالأدب، بل بالعكس هي التي ألهمته وأثرت به أيضاً، فلا بد من ذلك الحوار الخفي بينهما، كما كانت صداقة الفنانين والأدباء مهمة في تاريخ الفن فقد أثرت ربما على الطرفين. فهل يشكل الأدب مصدرا لاستلهامهم شخصيات للوحات الفنانين؟ نعود إلى تاريخ الفن ربما كي نعثر على خيوط الإجابات.
فها هي أوفيليا تخرج من مسرحية شكسبير “هاملت” ليرسمها الفنان الفرنسي جون ميليه في أحد لوحاته فنعود إلى النص لنفهم أبعادها جيداً. عندما قتل حبيبها هاملت أبيها، جنت أوفيليا ورغبت في الانتحار فألقت نفسها في النهر، يرسم ميليه هذه اللحظة بينما هي مستلقية في النهر وتغني. أصبحت تلك اللوحة تجسيداً لأوفيليا التي جعلتها اللوحة حية.
بطريقة مختلفة عن لوحاته أيضا، رسم بيكاسو دون كيشوت سرفانتس، فرسم رجلاً على حصانه باللون الأسود العريض يرافقه سانشو على حصانه أيضاً فبدت اللوحة وكأنها ترافق النص، مليئة بالحركة والمرح. كانت تلك اللوحة لا تشبه مراحل بيكاسو الزرقاء والمكعبة والتجريدية، ربما لكي يشعرنا بشيء يخصها. أما لوحة “السيدة شالوت” للفنان وليم ووتر هاوس فهي تعود إلى قصيدة لورد تينسون التي تحمل الاسم نفسه وتتحدث عن السيدة شالوت التي عزلت في برج وحيدة ولم يكن باستطاعتها أن تنظر إلى العالم إلا من خلال مرآة، ولكنها حين نظرت مباشرة إلى السيد لانسلوت حلت على حياتها اللعنة.
تبدو هذه الأعمال وكأنها تنقل القصة، وهناك أعمال أخرى ترسم فقط الشخصيات، ومن هنا يأتي السؤال عن الفن الفلسطيني، كيف تأثر بالأدب وما تأثير قراءات الفنانين على لوحاتهم؟ لكن لماذا الفن الفلسطيني؟ ربما لأنه جاء من مكان يمتلئ بلغة ثورية وأدبية أثرت على رموز تلك الفترة حيث كان يسود المشهد لغة مفعمة بالمجاز.
اللغة واللوحة
في كتاب “الفن المعاصر، الأصول والقومية والهوية” الصادرة ترجمته عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، يشرح الباحثان بشير مخول وغوردون هون عن أهمية الكتابة والنص في الفن الفلسطيني، ويقولان: “من الصعب في واقع الأمر أن نجد فنانا فلسطينيا لم يضمن شكلا ما من العناصر النصية في عمله بطريقة أو بأخرى أو في وقت من الأوقات.” ويضيفان أيضاً: “إن استخدام النص في الفن المعاصر يمكن أن يوجد في كل مكان من العالم والخصوصية في استخدام الفنانين الفلسطينيين له لا يمكن أن نميزها في الغالب إلا من خلال المحتوى والسياق لا من خلال الشكل”. ولذلك كان لنا هذا السؤال لمجموعة من الفنانين الفلسطينيين لنبحث حول تلك العلاقة الجميلة حول ما قرأوه وأثر بهم، ليس فقط من خلال إدخال النص في اللوحة بل تأثير هذا النص عليهم فنيا.
نبيل عناني: الشعر يثري اللون
هناك قصة ما ربما تجعل الألوان تتحدث في لوحاته وربما تصبح هي نفسها قصيدة، فذلك التناغم اللوني الذي يلهمنا للكتابة قد استلهم أيضا من قراءات كثيرة، يقول الفنان الفلسطيني نبيل عناني لنا عن هذا الموضوع: “أنا أحب قراءة الشعر إلى جانب الروايه والقصه ولكن العلاقه المباشره مع فني عمليا هو الشعر بإدخال نصوص شعرية في اللوحه تساعد في إثراء اللون والملمس والمضمون من الشعراء محمود درويش والمفكر والشاعر ادونيس ونزار قباني وغيرهم.” يبدو أن الشعر أيضا يمنح عناني تلك الطاقة التي يمزج بها ألوانه ليرسم طبيعة فلسطين كما يراها بنظرته الخاصة.
هاني زعرب: المكتبة جعلتني فناناً
أما الفنان الفلسطيني هاني زعرب فيقول في نص له منشور في موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية أنه اكتشف الرسام داخله من خلال قراءة الكتب والروايات في مكتبة أبيه أثناء منع التجوال في فلسطين فيقول: “كم كنت طفلاً محظوظاً بمكتبة أبي التي منحتني بحراً من الأحاسيس والكلمات والصور، أكتشفها وأكتشف دواخلي من خلالها. فكانت الباب الوحيد المفتوح في بيتنا للضوء، حيث لا يمكن لكل جنود الأرض العثور عليه. ويكمل في النص نفسه وهو يسرد علاقته بالفن: “تذكّرتُ، كم كان الرسم سلوىً ما بعدها سلوى، وموسيقى تعلو وترنو بي بعيداً لتبدد ألوان الصمت. كيف كان للرسم سلطة تبني سككاً وجسوراً وتمد طريقاً لروحي وجسدي فوق الخراب الرمادي، حيث لا ألوان. فمن كنت سأكون بلا هذا البحر وهذا الخراب؟”
منذر جوابرة: القراءة جزء من العمل الفني
وأحيانا يصبح جزءاً من البحث عن العمل الفني من خلال قراءة المراجع كما قال الفنان الفلسطيني منذر جوابرة: “لعبت القراءة دوراً بارزاً في مشاريعي الفني من خلال منهجيات البحث والمقارنة الفكرية والتي سمحت لكثير من الصور المتخيلة أن تغزو ذهني أثناء القراءة، والتي خلقت بدورها جدلاً كبيراً بين ترجمة هذه النصوص لأعمال فنية سردية، وبين أن تكون القراءة عبارة عن مرجعية فكرية تسمح للعمل بالتحرر أكثر وخلق شكله الخاص بعيداً عن النص المقروء. وعلى الجهة الأخرى، فإن القراءة الأدبية سمحت للتوسع حول القراءات الفلسفية والتحليلية لاحقاً، والتي بدورها ساهمت في تطور العمل من الناحية الوصفية للمشروع والذي يقترن بوقائع أو تصورات مستقبلية، وبين الجمع لهذه النصوص المختلفة في عمل فني قادر أن يقدم نفسه كعمل مستقل ولكنه في الوقت نفسه هو حصيلة لمرجعيات من النصوص المقالات والأبحاث والأدب”.
أمل كعوش: أثر الأغنيات وميرون
تقول لنا الفنانة الفلسطينية المقيمة في لبنان أمل كعوش التي غالبا ما ترافق رسوماتها ولوحاتها جملاً شعرية: “أنا بشكل عام أحب الشعر، ولأني أيضاً أغني، فالكلمات عندي مهمة جداً، وحتى اذا كنت أسمع أغنية دائماً تجذبني الكلمات القوية، حتى لو كان اللحن بسيط جداً، الكلام له وقع كبير. أرسم منذ خمسة عشر عاماً، وأستلهم أحياناً الرسومات من أبيات شعر أو اقتباسات من روايات وهي ليست ركيزة لعملي إنما أحب عندما يعجبني بيت أو كلام معين أن أترجمه إلى رسم، وأحياناً الأغنيات مثل أغنية لأم كلثوم أو لفيروز أو غير ذلك كالموشحات مثلاً حيث أصمم لها رسماً بسيطاً. هناك مثلا شخصية ميرون التي أرسمها، وفي ثورة مصر في 2011 رسمت أم كلثوم وميرون تمشيان معاً وتمسكان بيد بعضهما البعض وتغنيان: ومشينا في طريق مقمر. وأكثر ما حضرني عندما قرأت اقتراحك هو الرسم الذي أنجزته عام 2006، وهو بعنوان “رأيت رام الله” وهو عنوان رواية الشاعر مريد البرغوثي، وهو عبارة عن ميرون وهي اسم الشخصية التي أرسمها وتحمل اسم قريتنا المهجرة شمال فلسطين وقد رسمتها تحمل الكمبيوتر وتنظر إلى غوغل إيرث وكان عنوان اللوحة “رأيت رام الله”. وكنت أعبر عن علاقتنا نحن في الشتات مع الوطن من خلال الفضاء الافتراضي وقد شاركت في هذا الرسم بمسابقة حنظلة للرسم الكاريكاتوري الذي نظمته مؤسسة المورد الثقافي ونالت استحسان لجنة التحكيم وحصلت على الجائزة الأولى “جائزة حنظلة”.
زهى صلاح الدين: أثر محمود درويش
وتقول الفنانة الفلسطينية الشابة زهى صلاح الدين: “أن نرسم أو نكتب أو نغني أو نرسم للاشيء فهذا زيف ثمةُ شخص ما فكرة ما شيء ما يدفعنا لذلك (حنا مينا). نقرأ لنصبح أقوى و أعقل وأكثر ثقافة و إبداعاً، لطالما كانت القراءة سبيلي وبوابتي للإلهام وتجلي الفكرة ووضوحها، الكتابة نصاً أو شعراً أو نثراً والرسم وجهان لعملةٍ واحدة، أن ترسم لوحة كمن يؤلف كتاباً أو ينظم قصيدة، اللوحة اختزال القصيدة واختزال للرواية والحكاية، لذا كان لدي شخوصي المميزين للاستلهام من إبداعاتهم، الأول الكاتب الكبير حنا مينا والشاعر الفلسطيني محمود درويش، ولا يخفى على من يعرفني ويعرف لوحتي أثر قصائد محمود درويش على أعمالي الفنية وخاصة مجموعتي المائية من معرض حالة روح الذي أنجز في الشارقة عام ٢٠١٦، خاصة قصيدته “يطير الحمام يحط الحمام”، لا أكذب إن قلت إن حالة وجدانية نادرة تلمسني حين أقرأها”.