أبحثُ عن علاء

Malèna

رانيا سواحي

كاتبة من تونس

في حركة الأعناق التي كُنت أُراقبها كانت الرؤوس تنزل عندما ينظر اليهم علاء وترتفع عندما يُشيح علاء نظره. كانت حركةُ الأعناق كالموج تُتابع مشية لبنى، تصعدُ بتصاعُد ثدييها وتنزل بنزولهما.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

11/04/2023

تصوير: اسماء الغول

رانيا سواحي

كاتبة من تونس

رانيا سواحي

ومترجمة. خرّيجة المعهد العالي للقنّ المسرحي بتونس.

استيقظتُ اليوم وفي ذهني هدفٌ واحدٌ. البحثُ عن “علاء”، في ذاكرتي.

كانت أوّل رسالة حُبٍّ أكتُبها إلى رجُلٍ، قصيرةً جدّا. جُملةٌ واحدةٌ فقط. كتبتُها بخطٍّ غليظٍ وقلمٍ أسودٍ على سيجارةٍ سرقتُها من عُلبة أمّي. سأرميها لهُ من الشّرفة عندما يأتي.

علاء، الشّابُ الذي كُنتُ أُحبُّ لمدّة سبع سنوات ولم أجد الفُرصة كي أُخبر أحدًا بذلك، سيمرُّ بعد دقائق. في هدوءٍ مُصطنعٍ، أجلسُ على الكُرسيّ في شُرفة الصالون، أنظرُ إلى اليمين لأُراقب الساعة المنتصبة في الوسط وإلى اليسار لأنتظر مُرور علاء.

لم أكُن أعرفُ عنهُ الكثير، وقد يكونُ ذلك أفضل. فقط معلوماتٌ محدودةٌ جدّا جمّعتُها عنه في رحلة التجسُّس عليه. أعرفُ أنّه أصغر إخوته، يعيشُ مع أمّه وإخوته- شاهين أو شهاب- لا أذكر جيّدا، ولُبنى أخته الكبرى.

لُبنى، تُذكّرني مشيتُها بشخصيّة “مالينا” الايطاليّة، لكنّها أكثر جُرأةً. كانت لُبنى على حدّ قول سُكّان الحيّ “قحبه” وكانت أمّها “بطرونه”، وعندما أقولُ قحبه فأنا لا أقصد بأنّهم كانوا يشتمونها. هي حقّا تُأجّر جسدها مقابل سعرٍ يُتّفقُ عليه مع الزّبون. بالنّسبة لأمّها، البطرونه، فذلك يعني أنّها كانت “قحبه” وأنّها عندما تقدّمت بالعمر أصبحت تشتغلُ سمسارًا، أي تحصل على عُمُولةٍ مقابل الخدمة. أنا طبعا، كنت أُصدّقُهم ورُبّما لذلك أحببتُ علاء.

حين تتوقّفُ سيّارةُ لُبنى في الشّارع، يتوقّفُ كلُّ شيء، حتّى الوقت. مع نزولها، ومع كلّ خُطوةٍ تخطوها هذه “المالينا”، يبدأُ كلُّ شيء في الت ح رّ ك ب بُ ط ءٍ شديد.

كانت لبنى ثدياء، طويلة جدّا، تمشي باستقامةٍ وترفعُ مُؤخّرتها. لونُ بشرتها أبيضٌ جدّا، شعرُها أسودٌ جدّا، كما لا قيمة لكلّ هذا أمام أن تُحدّق لبنى بأعيُننا جميعًا. وكأنّها تملكُ سرّ العالم. وكأنّها تعرفُ كُلّ أسرارنا. وكأنّها تُعرّينا.

لا أفهمُ لماذا كان “الدُّغري” لا يُراقبُ لُبنى ولا ينظُرُ أين تكُونُ حتّى.

عندما تنظر لي، أُحسّ بكلّ الأضداد في نفس الوقت. الجمال والقبح والخوف والرغبة والجرأة والجبن… كلّ شيء وربّما كانت تعرف أنّني أحبُّ علاء.

أعتقدُ أنّها كانت تصُفُّ السيّارة في آخر الشارع عمدًا. تنزلُ شبه عارية، ترتدي “بيكيني” أسود يتدلدلُ منه خيوطٌ ذهبيّةٌ. كان لباسُها أقرب للباس الرّقص الشرقيّ من لباس البحر. لا تتكلّمُ إلى أحدٍ ولا تقولُ صباح الخير لأحدٍ ولا تشتري شيئا من محلّات الحيّ.

هي فقط تُنادي علاء من تحت الشرفة عندما تنسى مفاتيحها. لمدّة سبع سنوات سأُشاهد نفس المشهد كل يوم، تنسى لبنى مفاتيحها وتصرخ:

– يا علاء يا علاء حلّ ربّ الباب ويردّ علاء: أوه على الزّبّي يا لُبنى، طلّع ربّ مفتاح.

طبعًا، بعد الجدال اليوميّ سيفتحُ علاء الباب.

دعُوني أصفُ لكم كيف يكونُ الميكانيكيّون في شارع تازركة بباب الخضراء بتونس العاصمة. رُبّما يُذكّركُم أيّ تفصيل في أيّ شيء يُساعدُني على إيجاد علاء.

هُم دومًا مُستلقون على ظهورهم، أنصافهم العُلويّة تحت السيّارات وأنصافهم السُفليّة خًارج السيّارات، أرجلهم مفتوحة. هؤلاء الميكانيكيّون راقصون محترفون. لو طُلب منهم القيام بهذه الحركة أمام جمهورٍ على ركحٍ لوجدُوا صُعوبةً في ذلك. لكنّها تُصبحُ عفويّةً ومُرتجلةً عندما تأتي لبنى.

تُسحبُ الساقُ إلى الأُخرى فتُغلقُ الأرجلُ تليها حركاتُ الأعناقُ والعيونُ في اتجاهٍ واحدٍ. وفي حركةٍ واحدةٍ، هُووب، يظهرون من تحت السيّارات. صاحبُ الورشة كذلك، الواقف دائما في الباب، يسمحُ لهم بالتوقُّف قليلا عن العمل لأنّ هذا يصبح غريزيّا وغيرُ مُسيطرٍ عليه، كالجوع تمامًا. ثمّ حين تختفي لبنى يصيحُ فيهم للرّجوع للعمل فتختفي أنصافهم العُلويّة مجدّدا تحت السيّارات.

تفعلُ لُبنى مالا يستطيعُ مدرّبُ رقصٍ أن يفعله في شهرٍ من التّدريبات. تُدرّبُهُم على هذه الرّقصة لدرجة أنّه يمكنُك الشكُّ بأنّ مهنتها هي مُروّضةُ نمورٍ في السيرك وليس قحبة كما يُقال. لكنّي كنتُ أُصدّقُ سُكّان الحيّ لأنّ لا سيرك لنا في المدينة.

هكذا تتواصلُ حركةُ الرُّؤوس إلى أن تدخُل لبنى العمارة. كان علاء يمشي في مكان بين خلف وجانب لبنى بطريقة يكاد يكون ملتصقا بمؤخرتها. كان وكأنّه يحرُسُ مؤخّرة لبنى. وكأنّه يقول هذه مؤخّرة أختي، تُعجبُني هكذا ولا شأن لأحدٍ بهذا.

في حركة الأعناق التي كُنت أُراقبها كانت الرؤوس تنزل عندما ينظر اليهم علاء وترتفع عندما يُشيح علاء نظره. كانت حركةُ الأعناق كالموج تُتابع مشية لبنى، تصعدُ بتصاعُد ثدييها وتنزل بنزولهما.

“أُحبُّك إلى الأبد” : هذا ماكتبتُ على السيجارة.

في الجهة المقابلة من عمارتنا توجد عمارةُ عائلة “الدُّغري”، هُم جرابى، هكذا كان سكّان عمارتنا يقولون. في الظاهر، كلمة “جرابى” عاديّة ويُقصدُ بها المولودين في جزيرة جربة بتونس أو المنحدرين من عائلات وُلدت ونشأت في جربة، لكنّ هذا كان سيكون، رُبّما صحيحًا، لو لا أنقُل لكم الطريقة التي يقولون بها “هُم جرابى”. اعتقدت لفترة أنّ للجرب علاقة بتسميتهم هكذا وأنّه لا يجبُ الاقترابُ منهم.

يقولونها بصوتٍ منخفضٍ أقربُ إلى الوشوشة ويُحرّكون حواجبهُم بطريقةٍ تجعلك تشُكُّ أنّ في الأمر سرّا عظيما.

أنا، كنت أكرهُ الدُّغري الأب.

ما رأيتُهُ من “الدّغري” في ذلك الوقت يكفي لأقول بأنّه رجلٌ ملتزمٌ، جديٌّ أكثر من اللّازم وتقليديٌّ. دائمُ الكآبة والتحديق بالفضاء. يجلسُ وحيدًا في شرفة شقّته كتمثالٍ نصفيّ. لا تراهُ يُدخّنُ أو يأكُلُ أو يشربُ أو بصدد الوقوف أو الجُلوس. رُبّما لم يتبوّل يومًا.

قرّرتُ مرّةً أن لا أنام إلّا بعد التأكّد بأنّه إنسان حقيقيّ وأنّهُ ليس تمثالا يُغيّر أحدُهُم شكلهُ كما يُخيّلُ لي.

مرّت ساعاتٌ والدُّغري جامد في مكانه. صرتُ الآن في انتظار مرور “علاء” وتحرُّك “الدّغري” الذي لم أعرف اسمه إلى اليوم.

أتذكّر أنّ شُهبًا سقط فرفعتُ رأسي أتأمّلُ كيف يهوي، وعندما وجّهتُ نظري إلى الدُّغري كي أُواصل مُراقبتهُ، وجدتُ الكرسيّ فارغًا.

الكاتب: رانيا سواحي

هوامش

موضوعات

...للكاتب/ة

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع