محطات من شبكة سجون الأسد

ممالك الرعب والموت والجنون… كنا ثلاثة عشر رفيقاً

Tammam Azzam، Untitled، 2022

فرج بيرقدار

شاعر سوري

اكتفينا بدايةً بإبلاغهم أننا مضربون عن التنفس، وكنا نعرف مسبقاً أن التنفس مرتبط بالأوامر العسكرية الواجب تنفيذها، وليس بالحقوق التي يمكن أن نقبلها أو نتنازل عنها، وعند أول تصعيد من قبل الرقباء لإجبارنا على الخروج إلى باحة التنفس، أخبرناهم أننا مضربون عن الطعام أيضاً. 

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

12/05/2023

تصوير: اسماء الغول

فرج بيرقدار

شاعر سوري

فرج بيرقدار

كنا ثلاثة عشر رفيقاً. 

أيُّ لعنة أو مصادفة في هذا الرقم المشؤوم!

لقد واكبني هذا الرقم منذ بداية اعتقالي، إذ صادف أن زنزانتي في فرع فلسطين كان رقمها 13، وحين نقلونا إلى فرع التحقيق صادف أيضاً أن رقم زنزانتي كان 13، وحين جمعونا من الزنازين ووضعونا في مهجع صادف أن رقمه 13، وحين أدخلونا إلى سجن تدمر وأوقفونا أمام الحائط، كنا ثلاثة أنساق في كل منها أربعة، وكنت أنا الثالث عشر، فوقفت منفرداً خلفهم كما لو أني مكلَّف بحراسة سوء الحظ.

أضيف إلينا الآن ثلاثة، فانكسر التطيُّر من الرقم 13، ولكن أناخ بدلاً منه شؤم يشبه رائحة جثّة متفسخة في مغارة مغلقة. 

الثلاثة كانوا عسكريين متطوعين: بسام جوهر، نبيل الحمصي ومحمد الجبوري.

ذلك يقطع كل الشكوك بيقين أن السلطات تبيِّت للرفاق العسكريين وأعضاء المركزية أمراً يمكن استقراؤه من المعاملة الوحشية التي نتعرض لها في الليل والنهار.

لا شيء يبعد شبح التفكير في تصفيتنا سوى أن مصادفات القتل في باحة التنفّس، لم تطل أحداً منا كما يحدث بين يوم وآخر مع معتقلي “الإخوان المسلمين” ومعتقلي “بعث العراق”. 

ما أوجع أن يكون تأخُّر دورك في الموت عن دور جارك نوعاً من العزاء والمواساة، أو أن تفكِّر في أن تعذيبك يتوقف عند عتبة ما قبل الموت، في حين أن هناك مَن ليس لتعذيبهم عتبات أو حدود.

تبدو حالات القتل منتقاة أحياناً وعشوائية أحياناً، ولكن الحرمان من الزيارات وغياب الرعاية الصحية، ومنع الراديو والصحف والكتب والأوراق والأقلام، فإنها مطبَّقة على الجميع بمنتهى الحكمة والعدل والتساوي. 

في سجن تدمر لا نوافذ للأمل ولا مسارب للأحلام والمصادفات. 

كانت بعض مهاجع الإخوان تضم ما بين مئة إلى مئتي سجين ، وكانت كمية الطعام موحَّدة لجميع المهاجع، بغض النظر عن عدد من فيها، ولهذا كانت حصة الفرد في بعض المهاجع ربع بيضة، وأحياناً سدسها أو ثُمْنها مع حبتين أو ثلاث من الزيتون. ولأن عددنا قليل فقد كان طعامنا أكبر من حاجتنا بكثير، ولا سيما من مادة البرغل المدعوم بالرمل والحصى، وكانوا يجبروننا على أكله كاملاً. 

حياة بعض السجناء مهددة بالموت جوعاً، وحياتنا مهددة بالموت تخمة. 

في البداية حاولنا أن نُخرِج ما يزيد عنا من الطعام، لعله يكون من نصيب أحد المهاجع، ولكن بعد عدة جولات من التعذيب والتنكيل وإرغامنا على أكله كاملاً، لم يعد أمامنا سوى أن نرمي الطعام الزائد في التواليت على دفعات صغيرة يتناسب تصريفها مع حصتنا من الماء. 

ذات يوم أُغلِقت قنوات الصرف الصحي، وفاض التواليت بما فيه، لتكتشف إدارة السجن أننا نهدر “المال العام ولا نحترم النعمة التي خلقها الله”، وكان لا بد أن ندفع الغرامة من دمائنا وتمزيق جلودنا، ثم “ترشيد وتشحيح وتنحيف” كميات طعامنا المتناوب ما بين البرغل والأرز والبطاطا.

*   *   *

في إحدى الليالي فتحوا الباب، وسألوا رئيس المهجع إن كان عنده فرج بيرقدار، فأبلغهم أني موجود.

– طيب.. خليه بكرا الفجر يكون جاهز.

– حاضر حضرة الرقيب.. بس شو لازم يجهِّز؟

– يعني بيقطع علاقته نهائياً بالمهجع.

شرَّقت الهواجس والاحتمالات وغرَّبت، فذهبت توقعات بعض الرفاق إلى أن كوني شاعراً يجعل احتمال إطلاق سراحي وارداً، ورأى البعض أنه إن لم يكن إطلاق سراحي فعلى الأقل نقلي إلى دمشق، وربما ضمّي إلى بقية الرفاق في سجن صيدنايا. وقد كان كل احتمال مقروناً إلى توصيات وآمنيات.

*   *   *

في الصباح أخذوني إلى مبنى الإدارة،  كنت أسمع هناك الحديث بين إدارة السجن وبين آخرين ميَّزتُ بعض أصواتهم، فصوت الرقيب أحمد خليل، الذي ضبطني في فرع فلسطين وأنا أتحدث مع الرفاق في الزنازين الأخرى، مثل الجاروشة ويمكن تمييزه من بين ألف صوت.

حين مشت السيارة سألني أحدهم إن كنت أعرف إلى أين، فقلت:

– إلى فرع فلسطين.

– كيف عرفت؟

– من أصواتكم.

– طيب من أنا؟

– لن أقول لك

شيء ما لامس شفتي، فأدرت رأسي.

– لا تخاف هيدي حبة فواكه

– إذا بيعنيك أمري شيل الطميشة

– لا والله ما حزرت. 

طوال الطريق وأنا أسترجع تسلسل التحقيقات معي منذ بداية اعتقالي. أيمكن أن يكون هناك ثغرة ما، اكتشفوها لاحقاً ويريدون فتح التحقيق بشأنها مجدداً؟

عندما وصلنا، أنزلوني إلى المنفردة رقم 6، ثم نسوني. أفترض لو أني كنت مخيَّراً حينها لاخترت المنفردة 13. شيء يشبه الحنين، وربما هو استيقاظ للمثل القائل “أن تعرفه خيرٌ من أن تتعرف عليه”. 

في الأيام الأولى كان يأكلني القلق، ثم شيئاً فشيئاً صرت أقتات قلقي، وأوطِّن نفسي على احتمال أن أبقى معزولاً لسنوات.

*   *   *

بعد أحد عشر يوماً حضر عدد من الأشخاص الذين لا أعرفهم، ثم أخذوني إلى غرف التحقيق.

تركّزت الأسئلة حول ما يعتقدونه جناحاً مسلحاً للحزب، وحول بعض الضباط الذين هم أصدقاء شخصيين قدامى. 

لم يكن في إجاباتي ما هو جديد، ولم يعمدوا إلى تعذيبي أو تهديدي.

بضعة أيام لاحقة أعادوني مع دورية لم أميِّز صوت أحد من أفرادها.

بقدر ما كنت مهموماً في طريقي من تدمر إلى دمشق، بقدر ما كنت سعيداً في طريقي من دمشق إلى تدمر.

عدت إلى مهجعنا كأني عائد إلى بيتنا. الإحساس بالوِحدة والعزلة والاستفراد هو نوع من الغُربة التي تجعل المهجع بيتاً وساكنيه أهلاً.

*   *   *

انقضى العام الأول ونحن مقطوعون تماماً عن العالم الخارجيّ، والعالم الخارجيّ مقطوع عنّا تماماً، ولهذا أفرغنا قلقنا وضيقنا وتوتراتنا بشجارات حراجية لا معنى لها ولا ثمار، وبتضامنات وصداقات وتعاطفات لا تفصم عراها الضغوط والمخاطر ولا حتى الموت.

أخي الأكبر موجود في هذا السجن. ذلك ما سرّبَه أحدهم لأهلي منذ سنوات. كنت أختلس من حين لآخر بعض النظرات، لعلي أراه بين سجناء الإخوان المسلمين. كنت أفترض أحياناً أن نظراتي وقعتْ عليه ولكني لم أستطع تمييزه، إذ جميع السجناء حليقو الرؤوس والشوارب، ناحلو الأجسام، صفر الوجوه وثيابهم مرقّعة إلى حد يصعب معه تمييز أي قطعة هي الباقية من قماشها الأساسي.

كنا نتوقع أن تصبح حالنا بعد سنوات كحالهم، غير أنه قد حدث ما جعلنا نعيد النظر في كثير من الأمور، إذ حين ساءت صحَّة رفيقنا عباس أبو ديمة بصورة خطيرة، قمنا بالطرق على الباب رغم معرفتنا بأن ذلك من المحرّمات. حينها للمرة الأولى جاءت الإدارة بطبيب سرعان ما أعلن، بعد فحوصات أوّلية، ضرورة نقله إلى مشفى تدمر.

– يا رفاق.. لو كانت حياتنا مهدورة، لما نقلوا رفيقنا إلى المشفى، وما دامت حياتنا ليست مهدورة، فلماذا لا نفكر بمواجهة محدودة بغية تحسين شروط حياتنا؟

ذلك ما صرّح به أحدنا لتتصادى كلماته مع هواجس الآخرين.

بعد عودة رفيقنا واطمئناننا أنه صار بخير،عقدنا اجتماعاً مطولاً وفي منتهى الدرامية، استطعنا في نهايته الوصول إلى إقرار مشروع إضراب عن الطعام، احتجاجاً على سوء المعاملة وغياب الكتب والجرائد وبؤس نوعية الطعام وعدم تأمين الأدوية، وغير ذلك من تفاصيل حياتنا اليومية.

 في 6/6/1989 أبلغنا الإدارة بإضرابنا عن الطعام. 

يومها تحرَّكت الإدارة بدينامية عالية عبر بعض الرقباء… ترهيب وترغيب وجس نبض وأسئلة عن أسباب الإضراب وتهويل وتحبيط وتهديد..إلخ. 

لاحقاً جاء مساعد الانضباط، ليخبرنا أن الإدارة، لا تسمح بهذا السلوك أبداً.. ثم ما الداعي لهذا الجنون، إذا كانت طلباتنا ستُلبَّى قريباً بشكل طبيعي.. أم أننا ننوي استفزاز مدير السجن؟

تداول الرفاق الأمر ورسى خيارهم على الاكتفاء بالإضراب ليوم واحد، ذلك لأن غرضنا العنب وليس الناطور، فإن صدقت إشارات مساعد الانضباط كان خيراً، وإلا.. فلا أحد يستطيع ثنينا عن اللجوء إلى الإضراب مجدداً.

في الواقع حسَّنوا معاملتنا جزئياً.. صارت الإهانات الجسدية والمعنوية أقل، وأعطونا النشرة السياسية، التي تصدرها إدارة التوجيه المعنوي للجيش، ولكنهم بين شهر وآخر كانوا يقطعونها وتعود الإهانات بين مدّ وجزر. 

– يا رفاق.. انتظرنا الإدارة أكثر مما ينبغي.

– وها قد مضى على اعتقالنا سنة وبضعة شهور والإدارة تماطل، ونحن نحاول. 

– هذا إضافة إلى أننا بدون زيارات وبدون جرائد وكتب وبدون تنفس حر وبدون…

كان واضحاً أنه لا بد من الاستعداد لبذل التضحيات اللازمة من أجل تحسين ظروف حياتنا إلى حد يمكن قبوله أو تحمّله. 

في 12 تشرين الأول 1989 بدأنا إضرابنا الثاني، مع تحديدات قاطعة لما نريد: الزيارات، المعاملة، الجرائد والكتب والأقلام، باحة خاصة للتنفس طيلة النهار، الطبابة والأدوية، الطعام…

افترضنا أن إصرارنا على المطالب سيجعل الإضراب طويلاً، وقد تلجأ الإدارة إلى كسره بالقوة، ولهذا لم نعلن عنه إلا بعد مرور ثلاثة أيام، وذلك لوضع الإدارة أمام الأمر الواقع، وبالتالي إلغاء جدوى تفكيرها في اللجوء إلى العنف.

اكتفينا بدايةً بإبلاغهم أننا مضربون عن التنفس، وكنا نعرف مسبقاً أن التنفس مرتبط بالأوامر العسكرية الواجب تنفيذها، وليس بالحقوق التي يمكن أن نقبلها أو نتنازل عنها، وعند أول تصعيد من قبل الرقباء لإجبارنا على الخروج إلى باحة التنفس، أخبرناهم أننا مضربون عن الطعام أيضاً. 

أخرجوا من بيننا أربعة رفاق لا على التعيين، ثم أغلقوا باب المهجع، لتبدأ جهنم في الخارج.

كان الرفاق الأربعة يترنحون تحت الضربات الطائشة لقبضات العساكر وأحذيتهم، والحارس الواقف على السطح يصرخ مهدداً بعد أن لقّم بندقيته، وصوَّب باتجاههم.

كنا نرقبهم من ثقوب الباب، ودماؤنا تغلي.

صرخة مخطوفة أطلقها محمد الصمودي إثر ركلة تلقّاها على خاصرته، ثم ما لبث أن هوى كشجرة قصفتها ضربة برق.
لا ندري كيف استطاعت قبضاتنا، أن تخلع شرَّاقة الباب، وقد اندلع المهجع بما يشبه الهستيريا.

صراخات مجروحة، وهياج ودقٌّ عنيف بالأيدي والأرجل، وهتافات لا أحد يعرف كيف اشتعلت وفارت وتلاطمت واندلعت:

– يسقط القمع 

– يسقط الإرهاب 

– تسقط الديكتاتورية

– يسقط الطغيان 

– عاشت الحرية.

ربما هي المرة الأولى التي يتعرض فيها صمت هذه المقبرة إلى هذا القدر من الصراخ الذي ترامت أصداؤه وتناثرت شظاياه في جميع الأنحاء.

اقترب الرقيب وهو يهز رأسه ويديه محاولاً امتصاص غضبنا بصورة تنطوي على نوع من التفهُّم والرجاء.  

– اِهدؤوا قليلاً ودعونا نتفاهم.

– لن نهدأ قبل أن تُدخِلوا الرفاق الأربعة.

– اِهدؤوا أولاً، فندخلهم.

– أدخلوهم أولاً، فنهدأ.

كنت أقف على الشرّاقة، محاولاً قدر الإمكان ضبط انفعالاتي أثناء هذا الحوار، وكان بعض الرفاق يحاولون تهدئة رفاق آخرين طفح بهم الكيل وفاض.

يبدو أن أحد العساكر ضاق ذرعاً بحواري مع الرقيب، فاندفع باتجاه الشرَّاقة مزبداً معربداً، ثم بصق في وجهي. 

كان وجهه أمامي تماماً، فلم أستطع إلا أن أردّ له البصقة.

كأن صاعقة ما ضربت جبلاً، ثمّ ساد صمـــت كتيم وثقيل وموقوت كعبوة ناسفة.

وقف العساكر مذهولين للحظات، قبل أن يرفع الرقيب المسؤول يده علامة النهاية.

فتحوا الباب.. دخل الرفاق الأربعة، وانسحب العساكر، تاركين في الباحة صمتاً متربصاً، ينذر بكارثة.

الكاتب: فرج بيرقدار

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع