تلمس القاصة الفلسطينية شيخة حليوى، مشاعر ملتبسة في وعي الإنسان، وتلمح لها، من خلال طرق الأبواب المقفلة، والذهاب بعيداً مع الحواس، من خلال مهارات سردية، تعزز أصوات الأحداث والشخصيات، وتشغلها بالرموز والمحاكاة ثنائية القطبية، خلال مجموعتها القصصية “أمهليني صيفاً آخر” الصادرة عن دار أثر للنشر والتوزيع 2023. ففي مجموعتها، تبدو صورة الإنسان طاغية على السرد، عبر القصص المختلفة التي احتوتها، ولا يمكن مغادرة أي قصة دون السقوط في أفكار أخرى، مشت بالخفية خلف الصور الواردة في سردها. إذ أن القصة هنا، تقوم على المحاكاة وإدخال الفكرة الغريبة للذات، بهدف إكساب الوعي غربة عن المعتاد واليومي.
وإن فكرة الغرائبي في سرد حليوى، لا يتم تحمليها للشخصيات فحسب، بل هنالك من الأحداث والنهايات ما يفعل ذلك، فتبدو طريقة التلميح، مثل طابعة صور فورية، تستخدمها القاصة من خلال اللغة التي تمضي عبر معايير السرد، الممتثلة للوصف والتركيب للحركة والحس والمشاعر، مع بعضاً من الجمل الشاعرية، وذلك عبر 64 صفحة من القطع المتوسط. وعبر اثني عشرة قصة، تجمع القاصة صوراً مختلفة لنساء يقمن في عتمة العالم، ويحملن المعرفة الجديدة، الأصوات التي تمكن العالم من تجاوز أزمته الأخلاقية حال التفت إليهن. فتبدو المرأة في سرد حليوى، بطابع إنساني، غير مكترثة لفكرة النسوية بقدر ما هي تحمل رسالة الإنسان ذي اليد المنغرسة في التجربة المغايرة، تجربة لا تطلع عليها الشمس إلا في قصص كهذه. حتى الرجل في قصص حليوى، فإنه يده تتعرض للسع بفعل قالب اجتماعي، يتمرن على المعتاد، ويبتعد عن التحوّل والتغيير.
خيط من بكرة
أما بدايات القصص، فتشبه أن تسحب خيطاً من بكرة، الصوت الناتج، دوماً يتقن صنعة التوتر، ويزيده باستمرار السحب والحركة لخيط الأحداث. فهنالك من الغموض في البدء دوماً، ما يمّكن القصة من تحقيق قفزة نحو المكان الغريب، المكان الذي يبحث عنه الخيال الإنساني، ليتفعل عبر المزيد من التقدم، والاشتباك الشعوري.
انقلاب
يعمل السرد في قصة شيخة حليوى من خلال أدوات بنائية مختلفة، مثل انقلاب المشهد والانتقال لنتيجة نهائية، مع ترك خط الصدمة في يد القارئ، يتحسّسه ليكشف عن معناه الخاص مع السرد، كما حدث في فتح مشهد جديد وقد تفكّكت الحيلة، بطريقة القفز من أعلى الجبل، دون إيضاح ميكانيكية الوصول للنهاية. وإن زواج ابن حِسن من الأرملة الشقراء، بعد ثلاث زيجات فاشلة، بقي خطاً مبهماً في خطوط سردها لقصة “شيء بهذا الحجم”.
عنصرية
ثمة وجع خفي في سرد شيخة حليوى، يمكن ملامسته، عندما يكون علينا تخبئة جزء من الصورة، لأننا نخجل منه، ونفرح بالباقي. هذه الصورة من الممكن أن تكون صورة العالم، حينما يتجه إلى التفرقة والعنصرية حسب اللون أو العرق، ولأن الجنس الأبيض اللون يحمل فكرة التميز، يأتي الجنس الداكن دوماً هو الموضوع، وهو الفكرة.
تثير حليوى فكرة العنصرية كما لو أنها تمرر حافة لوح زجاجي على كومة من الملح، لا بهدف تقسيم الملح، لكن، إعادة تشكيله. وكأنها تريد أن تكسر قالب الفكرة الدارجة عن اللون، فالعالم يعلم أن الملح أبيض اللون، لكن عليه ألا يتجاهل، أنه سم قاتل للإنسان. في سرد حليوى، إننا بالفعل، نحن البشر، حجارة بيضاء وسوداء، مصفّفين على بيانو هيولي، نحاول أن نصنع لحناً موسيقياً، يحدثنا عن الفكرة التي تبني الإنسانية، غير ملتفتة إلى اللون، ولا الشكل ولا الجسد.
من السرد: “كانت حِسِن في السّابعة من عمرها حينَ فهمت أنّ سوادَ بشرتها
يجعلها في شرع أهل قرية «المِشرقيّة» في عِداد العبيد. دخل مُتار القرية
حاملا عباءة جديدة قدّمها لوالد حِسن، لم تفهم يومها كيف يغضب
أبوها من هديّة تأتيهِ، ولماذا أعادها بأدب إلى «سيّدهِ»، أدب لا يخلو من
لوم وعتاب. فقد جرت العادة، إذا زوّج كبير القرية أحد ابنائهِ فعليه أن
يحملَ «عباءة» جديدة ل «عبده» “.
مربع غامض
في نص شيخة حليوى، هنالك ما يثير الحيرة مع تكوين الشخصية الأساس التي تقوم عليها القصة، وما يستفز الشك، ويحتاج لتكرار محاولات الفهم. إذ تعمل على المربّع الغامض من الشخصية، الحيّز الغريب، المكان الذي تدور فيه عاصفة الشيء، ومن بعده، يصبح المرء في طور آخر من التجريب والوعي. ففي قصة “الحياة خارج نفسه”، تسحب الكاتبة قماشة النص من تحت مكوناته، من خلال التجريب عبر فستان أسود، يختفي فجأة، ويرجع في وقت آخر، ويكون على بطلة القصة اكتشاف الرحلة التي يتحرك من خلالها الفستان لكشف سر اختفائه، لكن نهاية القصة تحمل صورة مسرحية غير متوقعة.
من السرد: “سألها بحذر: هل ننتظر الفستان سيّدتي؟
أجابت: الفستان؟ لا سيعود مع صديقتي الّتي تعرّفت عليها للتوّ.
جميلٌ أن يتعقّب الشخص غرضا فيتعثّر بصديق، قال لها السّائق.
هزّت رأسها موافقة”.
ردّات فعل في نهر آخر
وترمي الكاتبة الحجر في النهر، لكن على القارئ أن يتأمل الدوائر الكثيرة التي تقوم بالترجمة المقابلة للحدث، على أنها ردّات فعل، ولكن في نهر آخر. مثلما أحدثت حراكاً في النفس، حول شخصية سارة في قصة “جارات الهنا” فشخصية سارة، هي نموذج للأفكار الأنثوية في التعايش مع واقع لا يتوقف عن قولبة الإنسان في صناديق مغلّفة لمسؤوليات الحياة. لكن هنالك إنسان آخر يعيش داخلنا، بهوية نحتاج إلى تمريرها للآخرين للحفاظ عليها. فلم تكن الحقيبة في قصة “جارات الهنا”، سوى صورة حية عن ذاتنا الأصل التي تتحقق بفعل تراكمية الذات الخفية، التي لطالما نخفيها عن الأشخاص الذين تفرضهم خشونة الواقع في طريقنا، الذات التي نسقيها بالخفية، لنحميها من الموت، مثلما نحمي وردة في الصحراء.
تلك الذات التي تحمل خصوصية الحديث الداخلي للنفس، والرغبات والأصوات التي لو أطلقها الإنسان، يكون مصيرها الموت. فالقصة تتحدث عن حياة في الداخل، لا تشبه الحياة في الخارج، هي الحراك النفسي وانطباعاتنا الخاصة عن العالم.
من القصة: ” في الدرب التّرابيّ المؤدّي للبيت مرّت سارة عن بيت رُقيّة، جارتها
الصّديقة، ثمّ بحدس مُفاجئ دفعت إليها بالكيس وغمزتها، فهمت
الجارة واستلمت الأمانة لتخفيها عندها أسبوعا أو أكثر، لن تُعيدها إلى
صاحبتها إلاّ في غياب زوج الأخيرة عن بيته. أمّا سارّة فقد تنفّست
براحة وهي تمدّ يدها نحو زوجها تُسلّمهُ علبة سجائرهِ، وتُسرعُ إلى
المطبخ تخفي نظرة الانتصار قبلَ أن يلمحها في عينيها”.
أثر الموت
من جانب آخر، تستطيع قصة شيخة حليوى، أن تفتح يداً على ما تود إظهاره، وأن تغلق أخرى على ما تود المناورة عليه، فيمكن رؤية أثر الموت في قصة “يأتي قبل أوانه دائماً”، ومن خلال تصوير المشهد بمشاركة الإضاءة والإعتام، هو كذلك الموت يتحقق بكبسة زر على مكان ما في العالم، من الممكن أن يكون حجرة، يتكمل إعتامها على حياة شخص ما، ودوماً يأتي قبل أوانه.
في الدراما النفسية التي تضعها القاصة، يمكن ملاحظة الصراع الوجودي للإنسان مع الكدح، والتعب مع الطرق المختلفة في حياته، لكن هنالك تعب آخر، أكثر سيطرة، هو تعب الفراغ، الوحدة، التهميش، التورط الكامل بالجدران الميتة. تكتب شيخة: “الموت يتأخر عن البيوت التي تتنفس أكثر من حي واحد”.
مع الفراغ يبحث الإنسان عن مكعبات تملأ الزوايا، وتشغل العين بالحركة، أياً كان نوعها، تلك المكعبات، تقلل من صدى الأفكار، الصدى في وقت ما، يتحول إلى هجمة ثعبان، بإمكانه أن يلدغ الوعي، والعمر معه. ونجد داخل السرد أن نورة تغرق في فراغها، وتبحث عن محركات خارجية، تدفع عنها اختناقها بالوحدة، بفعل انشغال ابنيها عنها في كبرها، لكنها خلال بحثها عن الحياة، كان الموت يضع لها ميعاداً، لا يترك لها المهلة مع الحياة، فبعد أن تركت لها الحياة مساحة كاملة من الفراغ، جاء الموت ليملأ عليها منزلها بالكامل، ويعفيها من تلك الرَّكنة الشاقة.
إن الأفكار التي تدور خلال قراءة سرد خليوى، تفتح على الفور مساحات مختلفة من الصراع الداخلي، كأن يحمل الذهن الشيء ونقيضه بنفس الإصبع، صانعة مساحة ضيقة جداً لفهم العالم، تجعل من القصة مفتوحة على احتمالات أخرى، يبدو من الصعب حصرها.