يقدم ميشيل فوكو في كتاب “المجتمع العقابي: دروس أُلقيت في الكوليج دو فرانس (1972-1973)” الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات للمترجم نصير مروّة 13 محاضرة، هي أكثر قرباً للأطروحة، تبحث في الطريقة التي تشكّلت بها العلاقات بين العدالة والحقيقة للقانون الجنائي الحديث، والرابط بينها وبين نظام عقابي جديد لا يزال يهيمن على المجتمع المعاصر.
دروس يناير (كانون الثاني)
يبدأ فوكو الدرس الأول بالإشارة إلى أن الموضوع الجانبي والدائم لهذه الدروس سيكون نقد فكرة الإقصاء أو بتعبير أدق “استخلاصها وصوغها وفق أبعاد تتيح تفكيكها إلى عناصرها المكونة، ومعاودة العثور على علاقة السّلطة المضمرة فيها، والتي جعلتها ممكنة”. وهو يضيف بأنه يجب إجراء نقد مماثل لفكرة الاختراق التي أدت دور مماثلاً “تقريباً” لفكرة الإقصاء، من ناحية إتاحتهما الالتفاف على أفكار “مثل اللاسوية والخطأ والقانون”. كما أن الفكرة المذكورة سمحت بقلب “السلبي إلى إيجابي والإيجابي إلى سلبي”، فالتحليلات التي أجريت لمصطلحات الإقصاء أو الاختراق يرى أن متابعتها ينبغي أن لا تكون فيها “مسألة قانون وقاعدة وتمثُّل، وإنما السّلطة بدلاً من القانون، والمعرفة بدلاً من التمثُّل”.
يصل فوكو في هذا الدرس إلى تبيّن أربعة أشكال كبرى من التكتيكات العقابية، يمكن تلخيصها سريعاً بأنها: الإقصاء “بمعنى طُرد ونُفِيَ وأُخرج وأُبعد”، إضافة إلى تنظيم افتداء، فرض تعويض بمعنى التزام الفرد المتسبب بالضرر بالدَّين المستحق أو الضرر الذي يجب تعويضه للضحية، الوسم باستحداث ندبة أو/وعلامة على جسد الفرد المرتكب للجرم، والحبس أو/والسجن. ويؤكد فوكو أنه يريد تناولها بوصفها “أدوات لتحليل علاقات السّلطة، وليس بوصفها أدوات تكشف عن الأيديولوجيا”، موضحاً في النهاية أن فكرة الحرب الأهلية هي التي ينبغي أن “توضع في صلب هذه التحليلات حول العقوبة”، نظراً لمعاناتها من قصور “فلسفي وسياسي واجتماعي”. والحال هنا أن الحرب الأهلية هي “الأرضية العامة التي ستتيح وضع استراتيجية خاصة بالعقوبة متمثّلة في الحجز، وفهمها وأعمالها”.
يشير فوكو إلى أن عناصر التحليل التي استند عليها في الدرس الثاني تنقسم إلى أربع نقاط. أولاً، لحظة إنشاء النظام الجنائي العام وأعماله، والذي رسم قانون التحقيق الجنائي لعام 1908، ثم قانون العقوبات لعام 1810، وكلاهما رسما الخطوط العريضة ليس “في حرب الكل ضد الكل، وإنما في حرب الأغنياء ضد الفقراء”. ثانياً، إن الخطاب التي تمت صياغته في تلك الحقبة وضع القوانين “لكي تطبق على من لم يضعوها”. ثالثاً، الجهاز القضائي الذي وضع في تلك الحقبة هو جهاز “يحكمه بالكامل مبدأ المراقبة الثابتة الذي لا يستثني أحدا”. رابعاً، الحبس والسجن اللذان وفقاً لوجهة نظر نيكولاوس هاينريش يوليوس الذي يتحدث عن انقلاب مشهد “الفرجة” إلى “المراقبة” في السجن، ويعتبر أن “جدوى هذه الفكرة الجوهرية” هي أهم ما عنى في السجون.
من هذه النقاط ينطلق فوكو لتحليل فكرتي العقوبة والجزاء بالمقارنة بين “حرب الكل ضد الكل” و”الحرب الأهلية”، فهو يعتبر في أحد التحليلات أن الحرب الأهلية تُمثل “الحالة الختامية لتحلل السيّد والسيادة”، بينما حرب الكل ضد الكل هي “الحالة الابتدائية التي يمكن السيّد أن يتكّون انطلاقاً منها”، لأنه طالما هناك سيد فإنها لا تكون حرب الكل ضد الكل، وكذلك لا تستطيع الحرب الأهلية “معاودة الظهور إلا في نهاية المطاف، أي عندما يتوارى السيّد ويزول”، ولذلك يرى أن “الجريمة هي فعل يعيد تنشيط حرب الكل ضد الكل، أي حرب الواحد ضد الكل”، وعليه ينتج أن العقاب لا يكون “إصلاحاً لضرر”، إنما هو تدبير حماية، أي “تدبير مضاد للحرب يتخذه المجتمع ضد هذا المجرم”.
يناقش فوكو في الدرس الثالث فكرة ظهور المجرم من خلال جملة السيرورات السياسية والاقتصادية التي أفضت في النهاية إلى تعريف المجرم “عند مستوى معين بوصفه عدواً اجتماعياً”، ثم ما تخفيه هذه العملية التي تقوم على توصيف المجرم والحكم عليه وإقصائه بوصفه “عدواً عمومياً”. فقد ظهرت تحليلات اقتصادية في القرن الـ18 لتحليل الجنوح (الجُرم) مرتبطة بـ”الفقر والتسوّل”، لكن النظرية الأكثر إثارة للاهتمام لها علاقة بالفيزيزقراطيين (أتباع المذهب الاقتصادي الزراعي في فرنسا) الذين حددوا دور الجنوح “ليس بالنسبة إلى الاستهلاك وإلى حجم الأموال/الممتلكات المتوفرة”، وإنما بالنسبة “إلى إواليات الإنتاج وسيروراته”، وبالتالي فإنهم منذ حددوا مرتكب الجرم من زاوية الإنتاج “فإنهم يصفونه ويحددونه بوصفه عدواً للمجتمع: هذه وضعيه مرتكب الجُرم نفسه بالنسبة إلى الإنتاج الذي يعرّفه بوصفه عدواً عمومياً”.
أما غيوم فرانسوا لو تروسن فإنه يذهب إلى أن “التشرّد هو الذي يتحدد انطلاقاً منه باقي الجرائم”، فهو يقول إن العقاب يبدأ من “واقعة التجول والتنقل، وعدم الاستقرار أو الثبات في أرض، وألا يكون للمرء عمل تتحدد به هويته”، بمعنى أن الجريمة تبدأ من نقطة عدم وجود هوية أو سجل مدني للمرء، أي عدم تموضعه جغرافياً داخل جماعة، فهو يرى أن المنطقة الأقل إنتاجاً ستكون مرهقة بارتفاع الأجور، ويضيف إليها تعاظم الفقر وارتفاع الأسعار وفقدان المنافسة، معيداً ذلك إلى انسحاب المشردين من عملية الإنتاج (العمل)، ومن هنا يصبح لدينا معيار يسمح بتعيين عدو المجتمع، وهو “كل شخص يعادي أو يعارض قاعدة الوصول بالإنتاج إلى حده الأقصى”.
استكمالاً لفكرة “المجرم بوصفه عدواً اجتماعياً”، يستهدف فوكو في الدرس الرابع النظرية والممارسة الجزائية بتحليل العلاقة بينهما وبين التكتيك الفعلي للعقاب في القرن الـ18، معتبراً أن السجن تكتيك جديد أُدخل في النظام الجزائي نهاية القرن ذاته، حيثُ كانت تلك الحقبة تشهد إعادة تنظيم لنظام العقوبات حول السجن من جهة، وإعادة تنظيم معاصرة لبروز المجرم “بوصفه عدواً اجتماعياً” من جهة أخرى، وهو يقول هنا بوجود تغاير في المسارين، الأول يظهر في “الاشتقاق الخطابي الذي يؤدي إلى صوغ مبدأ المُجرم”، والثاني “مبدأ العقوبة”، وعليه فإن بين النظامين الجزائي المنتظم حول مبدأ المجرم، والإصلاحي المنتظم حول مبدأ السجن يوجد “ثغرة ينبغي لنا أن نعيّن ظهورها التاريخي”.
ويمضي موضحاً وجهة نظره بالإشارة إلى أنه لا يمكننا اعتبار السجن أو الاعتقال “تفريغاً تابعاً، عملياً وخطابياً” عن النظرية الجزائية أو عن الممارسة القضائية بما هو نتيجة لهما، كما لا يمكننا أيضاً أن نجعل من نظام السجن “تفريغاً ناتجاً من ضرب من النموذج النظري نستعيره من نظرية المجرم – العدو الاجتماعي الجزائية”. وعليه فإنه تنشأ أربعة مبادئ للعقوبات مرتبطة ببعضها، إذ إنه بوسع كل مجتمع أن يكيف العقوبات وفقاً لحاجاته من ناحية الجدوى الاجتماعية، لأن الهدف منها تجريد العدو من سلاحه، إما لجعله غير قادر على الإضرار أو إعادة دمجه ضمن الميثاق الاجتماعي، والذي ينتج عنه إما مبدأ المراقبة أو مبدأ التربية وإعادة التأهيل، فالهدف من العقوبة في النهاية أن تكون “حماية للمجتمع”، وأن تحول دون استحداث أعداء جدد.
يبيّن فوكو في الدرس الخامس أنه يمكن تقريب “الشكل –سجن من الشكل –أجر” من حيث مقارنتهما لجهة أنهما يدخلان “كمية ما من الزمن في منظومة تكافؤات: أجر مقابل مقدار ما من زمن العمل، والسجن مقابل خطأ ما”، نظراً لتواصل السجن والأجر لارتباطهما كل على مستواه بـ”جهاز السّلطة الذي يؤمّن الاقتطاع الحقيقي للزمن، والذي يُدخل الوقت في نظام التبادلات والمقاييس”، وعلى هذا الأساس يعتبر أنه جرى إدخال السجن مواربة في “النسيج المتفرّع عن النظريات والممارسات، على نحو يكاد يكون فجائياً وقسرياً”، فهو يرى أنه يجب دراسة نشأة وتكوين “الشكل –السجن” انطلاقاً من شكل من أشكال الأديرة، لأن “الحبس في زنزانة السجون وجد نقطة التحامه في الحيّز الرهباني”.
تفسيراً لذلك، يوضح فوكو أن المسألة في هذه العملية ليست الحيلولة دون وصول أحد إلى العالم الخارجي، إنما هي “مسألة حماية الأمكنة والأجسام من العالم الخارجي”، في هذه العملية نجد أن العالم هو من تم استبقاؤه في الخارج، وليس الفرد من يُحتفظ به في الداخل، لأن “المسجون هو العالم، وهو مسجون في الخارج”. ومع ذلك، فقد مارست الكنيسة الحبس في ثلاث حالات، نلخصها، الحبس غير العقابي تمهيداً لتسليم المسجون إلى العدالة الزمنية، الحبس العقابي المرتبط بحماية رجال الدين من العدالة الزمنية، وأخيراً الحبس الديني العقابي. من هنا نجد أن السجن “ولد فعلياً في داخل الأوساط الدينية، ولكن ليس في أوساط دينية غريبة فحسب عن الشكل الرهباني، وإنما معادية له أيضاً”، فالحبس في شكله الوليد وجد لدى الجماعات الكاثوليكية مثل جماعة المنشقين البروتستانتية الأنكلوسكسونية منذ القرن الـ17.
دروس فبراير (شباط)
يعتبر فوكو في الدرس الأول أن فكرة السجن ولدت في عنصر الإصلاحية، إذ إنه لم تتم إضافة العنصر الإصلاحي إلى السجن إلا بعد عدد من التجارب السلبية والأبحاث لـ”تصحيح آثاره وإصلاحه، وكذلك لتصويبه وتكييفه على المطالب الاجتماعية التي ظهرت بعد ذلك”، ويضيف هنا بأن المجتمع كله يحمل عنصر الإصلاحية الذي يشكل السجن إحدى صياغاته، ولذلك “فإن الإصلاحية هي حقل يقترن بالسجن ويشترك معه”. من هذا الجانب يصل إلى أنه لمعرفة كيف أمكن إدخال السجن في جمعيات قانونية ودينية وسياسية كانت غريبة عنه إلى حد بعيد لا بد من دراسة مجموعة من التجارب، والتي يمكننا أن نسيق عليها مثالاً التجربة الإنكليزية التي جعلت تعميم “الشكل –السجن” ونطاق الإصلاحية بالحبس أمراً ممكناً في القرن الـ18.
فقد ولدت في إنكلترا خلال تلك الحقبة – وهي حقبة النمو الاقتصادي التي شهدت توظيف رأس المال في الآلات والمخازن واليد العاملة – أربعة نماذج كبرى، تمثلت بالجماعات الدينية المنشقة، وجمعيات تتصل بصورة غير مباشرة بالجماعات الدينية، إضافة إلى جماعات لها طابع شبه عسكري، وجماعات ذات طابع اقتصادي، وعلى الرغم من تنوّع مهامها، لكنها كانت جميعها تصب في خانتي المراقبة وفرض الأنظمة الأخلاقية والدينية والانضباطية، وقد ظهرت هذه الجمعيات بالتوازي مع وفود الأشخاص غير المنظمين إلى المدن الكبرى “التي لا تستطيع أن تؤطرهم في داخل تنظيماتها، ولا أن تمتصهم وتستوعبهم”، ما جعل الدولة تجد نفسها مطالبة بأن “تصبح أداة تهذيب هذه الطبقات”، وتعيد توزيع الطبقات على مبدأ “الأخلاقية الجزائية”، وأن تضفي عليها “دولنة أدوات هذه الأخلاقية”.
يصل فوكو في الدرس الثاني إلى فكرة أن انتقال الأفراد والنظام الجديد لموضعة الثروات جعلا من قيام سيرورة ضبط أمراً واجباً وضرورياً، لكن مع اختلاف الجهات المنفذة من حيث إنه لم تعد مسؤولة عنها الجماعات الدينية المكوّنة من البرجوازيين الصغار، إنما كانت الجماعات المرتبطة بالسّلطة من الأرستقراطيين والتجار. وقد كان لهذا التحوّل أن غيّر من تأثير العقوبة الكلاسيكية على أولئك الذين لم يرتكبوا الجريمة إلى تأثير العقوبة (الاحتجاز) على تصرفات من ارتكب الخطأ، وليس تصرفات الآخرين، نظراً لأن “هذا التوجه الجديد للنظام العقابي ينأى بنفسه ويبتعد عن النظام الجزائي. وعبره سيمر إضفاء الطابع الأخلاقي والنفسي على العقوبة في القرن الـ19”.
عند المقارنة بما يتعلق بين النظامين الفرنسي والإنكليزي، فإننا نجد أن “حركة ضبط اجتماعي قد فرضت نفسها في إنكلترا بالتدريج على الدولة انطلاقاً من وحدوية دينية، في حين أن لدينا في فرنسا صورة معاكسة، ذلك أن الحركة تستند إلى جهاز دولة مفرط المركزية”، فقد كانت في إنكلترا الأداة الأساسية للتدابير العقابية مرتبطة بـ”الترغيب والترهيب والاستبعاد والإقصاء من الجماعة”، بينما كانت الأداة الرئيسية في فرنسا مرتبطة بالحبس. وهنا على الرغم من اختلافهما بالأدوات، فإننا في الحقيقة إزاء الحركة نفسها من “القسر والإكراه”، وفي كلا الحالتين كنا نلاحظ “ذات حركة الانتقال نحو الدولة”.
يرى فوكو في الدرس الثالث أن تكوين النظام العقابي الذي كان مغايراً لطبيعة عمل النظام الجزائي في القرن الـ18، وضبطه بطريقة أوسع من مجرد الرقابة على العامة المتمردة عبر السجن الإصلاحي، لم يكن نتيجة للتمرد أو العصيان “سوى حالة خاصة منه”، فقد كان ظاهره أعمق من ذلك، والقصد هنا “اللاشرعية الشعبية (مثل الحرفيين والتجار)” التي لم تكن “ملائمة وحسب، بل كانت مفيدة للنمو الاقتصادي” حتى جاءت لحظة أصبحت فيها هذه اللاشرعية “التي كانت تعمل فيها متشابكة مع النمو الاقتصادي، غير ملائمة ولا تتوافق معه”، بمعنى أنها أصبحت تشكل عائقاً وخطراً على هذا النمو، والتحوّل في نمط علاقات الإنتاج، ليكون لدينا ثلاثة أنماط من اللاشرعية: الشعبية وأصحاب الأعمال وأصحاب الامتيازات، ويضاف لهذه اللاشرعيات أيضاً لاشرعية السّلطة.
مع حلول القرن الـ19، قامت البرجوازية بتحويل الأجهزة الإدارية والبوليسية والرقابية الخارجة عن القضاء الذي كان يعمل بوصفه هيئة تحكيم بين اللاشرعيات إلى جهاز قضائي معني تحديداً بـ”التخلص من اللاشرعية”، ووضعت يدها على السّلطة، وأسندت إليه مهمة تطبيق شرعيتها. ويوضح فوكو هنا أن هذا التحوّل سمح للبرجوازية تولي إدارة السجن الإصلاحي بدلاً عن الشبكات اللاشرعية، ودمجته في النظام القضائي لعدم إمكانية تحمّلها اللاشرعية الشعبية، وهكذا أصبحت اللاشرعية الشعبية في القرن الـ19 “الهدف الكبير لنظام البرجوازية القمعي كله”.
يجيب فوكو في الدرس الرابع عن سؤال مسألة تحويل عنصر الإصلاح بالحبس إلى الجهاز الجزائي، محاولاً إظهار أن فكرة “العامة المتمردة” ليست فكرة كافية لحل المشكلات، ولذلك أدخل مكانها “فكرة أكثر إجرائية هي فكرة اللاشرعية الشعبية”، فهو يرى أن هذه اللاشرعيات “قد تكاملت مع لاشرعيات طبقات اجتماعية أخرى”، وهي “شكلت معها نظاماً فاعلاً”، لكنها حين اقتربت من اللاشرعية البرجوازية شجعت تنامي المجتمع الرأسمالي، وهذه اللاشرعية الشعبية من وجهة نظره خضعت للتحوّل في شكليها الريفي والحضري.
يقترح فوكو لتحليل العقوبة في ردها إلى اللاشرعية أن يأخذ بعين الاعتبار أربعة عناصر هي موضوع الرهان في لعبة الصراع من أجل اللاشرعية، والتي يلخصها بـ”القانون، الممارسة اللاشرعية، الفرد، وجسم الثورة”، حيثُ يعيد العقد “توزيع الأوراق بين هذه العناصر، ولكن بطريقة أكثر غموضاً والتباساً مما هو حال الأجر”. وفي مقارنته ما بين اللاشرعيتين الحضرية وقرينتها الفلاحية، يرى أنه في حين تقع الأولى بـ”الضرورة تحت طائلة الجزاء”، فإن الثانية “ستتغلغل في جانب كبير منها في داخل القانون المدني، ولكن ليس من دون استحداث صعوبات ومعاناة”.
دروس مارس (آذار)
يفتتح فوكو الدرس الأول بالإشارة إلى أن الخوف أدى دوراً حاسماً في تنظيم النظام الجزائي في القرن الـ19، وهو خوف اجتماعي مرتبط أساساً بالمسار العمراني الحضري، يصفه بأنه “نصف مادي ونصف سياسي، بأكثر مما هو خوف يحدّده إدراك متبصر ثاقب للمسارات الاجتماعية”، فهو يرى أن النقطة التي كان يرتكز عليها “الخوف البرجوازي الاجتماعي اليومي” لم تكن “الطبقات الهامشية والخطرة، بقدر ما كانت طبقة العمال من حيث هي بؤرة يومية دائمة للاأخلاقية”، فقد كانت علاقة “جسد العامل” بالثروة والربح والقانون هي ما يشكل في “النهاية الرهان الذي سينتظم من حوله النظام الجزائي”.
وعليه، فإنه في اللحظة التي وضعت فيها البرجوازية القانون المدني الذي سيحكم “العقد المتعاقد عليه بين الملاك”، فإنها في مقابل ذلك حددت قانوناً جزائياً تكون وظيفته ظاهرياً “أن يعاقب ما هو إخلال بالعقد”، لكن عمله أعمق من ذلك لأنه “يهدف إلى الوصول بقدر الإمكان إلى البؤرة اللاأخلاقية”، بإقحامها “جسد العامل” وعلاقته بـ”الثروة والربح والقانون”، وهو ما ليس عقداً، إذ يجب “أن يكون الرد على عقد المالك، حسن اعتياد العامل، أو عاداته الحسنة”. وبناء على ذلك يبرز مسار معقد يقوم على استحالة السماح للاشرعية العمال بالهوامش التي كان مسموحاً بها للاشرعية الشعبية، والخوف منها، ما ينتج عنه وضع تؤمن للبرجوازية، حماية الجهاز الإنتاجي، قمع اللاشرعية، وتجهيز العمال أخلاقياً.
يتحدث فوكو في الدرس الثاني عن نشؤء لاشرعية جديدة هي لاشرعية التبديد، بمعنى أن “جهاز الإنتاج لم يعد جسد العامل بالنسبة إليه مجرد رغبة”، إنما “قوة عمل ينبغي لها أن تصير قوة منتجة”، بحيث يكون تحوّل القوة الجسدية إلى قوة عمل، وتكاملها مع نظام الإنتاج الذي يجعل منها قوة منتجة، ولحظتها تتكوّن لنا لاشرعية التبديد المرتبطة بـ”جسد العامل بوصفه قوة إنتاج”. إذ إن قوام هذه اللاشرعية يصبح “رفض استخدام هذا الجسد وتشغيل هذه القوة على جهاز الإنتاج”، وهو رفض له أشكال عدّة تأتي في سياقات “قرار العطالة” و”عدم الانتظام العمالي و”الاحتفال” و”رفض الأسرة”، ومن هذا المنطلق يظهر لنا وجه لاشرعية أخرى، أي لاشرعية التبديد، لأن “المسألة لم تعد مسألة علاقة الرغبة في مادية الثروة، إنما هي علاقة تشبث بجهاز الإنتاج”.
هكذا نجد أنه أصبح لدينا في القرن الـ19 “نظام بالغ اللطافة والرهافة يشتمل على مواصلة العقابي في الجزائي، ويستند إلى عدد من القوانين والتدابير والمؤسسات”، على سبيل المثال لا الحصر، يمكننا الإشارة إلى “دفتر عمل العمال” الذي يحمل تقييمات إيجابية أو سلبية، فالدفتر هنا يصفه فوكو بأنه “مؤسسة من هذه المؤسسات غير الجزائية بالضبط، لكنها تتيح تأمين تواصل العقابي والجزائي”. وعلى هذا يستقر “ثنائي المراقبة – المعاقبة”، ويستقيم بوصفه علاقة سلطة، ويصبح لدينا هنا “وسيلة إكراه أخلاقي وسياسي لا غنى عنها من أجل جعل الجسم والزمن والحياة والبشر تتكامل وفق صورة العمل، وفي لعبة القوى المنتجة”.
يشير فوكو في الدرس الثالث إلى أنه شهد النصف الأول من القرن الـ19 “مشروع حجز كامل للطبقة العاملة، وحجر عليها”، كان يتعدى جهاز الإنتاج، ويتجاوزه إلى سلسلة من المؤسسات غير الإنتاجية، كالمؤسسات التربوية مثل المدارس، والإصلاحية مثل السجون، والعلاجية مثل المصحات العقلية، والتي يمكننا وضعها جميعها “مؤقتاً، في خانة الحبس”. وهو يرى أن هذه اليوتوبيات المرتبطة بالبحث العمراني أدت إلى حل مشكلة بحيث “يمكن أن يكون أكبر قدر ممكن من الناس تحت بصر ومراقبة أقل عدد ممكن منهم”، هكذا كانت وظيفة هذه المؤسسات الجديدة “أن تضاعف السّلطة، وأن تكون مناطق السّلطة فيها أكثر تركّزاً وأعظم غزارة وزخماً”، ووجد الأفراد أنفسهم “مربوطين” عبر “أجهزة ليس لهم أي صلة بها”.
يأخذ فوكو مثالاً لذلك التقييد الجنساني في المدرسة الثانوية التي بُنيت على الحيلولة “الدقيقة الصارمة دون الجنس الغيري”، بمعنى “الأحادية الجنسية للمؤسسة تجعل من المستحيل مادياً قيام علاقة جنسية غيريّة”، لما في ذلك “حظر المثلية الجنسية”، وهو حظر ليس نوع الحيلولة، لأن الحظر على عكس ذلك “يفترض ولا يمكنه أن يلعب ويعمل حقيقة إلا بما تكون مثلية جنسية كامنة موضوع ممارسة إلى حد ما”، وعلى نحو يمكنها أن تكون “في كل لحظة موضوعاً لتدخل السّلطة، وللحكم والعقاب” بحيث تؤدي إلى تحكّم على الأفراد “يكونون خاضعين في حياتهم الجسدية والعاطفية لشيء مثل التحكّم أو الرقابة الدائمة الدائبة”.
يصل فوكو في الدرس الرابع والأخير لأطروحة “المجتمع العقابي” للحديث عن أي نظام من السّلطة يعمل السجن، والذي يميزه بأربعة أنماط من الترسيمات النظرية التي تتحكم بالتحليلات المعروفة للسّلطة، وهي الترسيمة النظرية للاستحواذ على السّلطة، بالإضافة إلى ترسيمة تموضع السّلطة، ترسيمة التبعية، وترسيمة الأيديولوجيا أو “الإنتاج الأيديولوجي”. ويسوق مثالاً على ذلك “الرقابة الإدارية للأهالي، والتي هي ضرورة من ضرورات كل سلطة”. ويتفرّع عنها ثلاثة معارف، أولاً معرفة الإدارة للذين يسيرون جهاز الدولة؛ ثانياً معرفة الاستقصاء والتحقيق التي يقوم بها أشخاص غير مرتبطين بشكل مباشر بجهاز الدولة مهمتهم جمع المعلومات، وأخيراً معرفة متعلقة بالتفتيش البوليسي مثل إرسال التقارير حول سلوك ودوافع الأفراد المعتقلين.
تقود هذه الترسيمات فوكو إلى الحديث عن فكرة “العادة” في الطبيعة البشرية التي تأتي من “الاعتياد”، فهو يرى أن “العادة هي ما يرتبط به الأفراد” ليس بملكيتهم، لأن ذلك يعود إلى العقد، ولأن ذلك هو دور العقد، إنما بجهاز الإنتاج”، لأنها الرابط الذي يرتبطون به ليس “مع شريك على مستوى الملكية، بل ما نرتبط به مع نظام للأشياء ونظام زمني ونظام سياسي”. هكذا نجد أن جهاز الحجز يستطيع تثبيت الأفراد على جهاز الإنتاج “عبر تكوين العادات بوسيلة الإكراهات والعقوبات، والتعليم والقصاص”، نظراً لأن الهدف من الحجز الحديث أن “يصنع المعيار، ووظيفته إنتاج الأسوياء الطبيعيين”.
نهاية، تأتي أهمية الدروس التي ضمتها أطروحة “المجتمع العقابي” من منطلق محاولة ميشيل فوكو رسم الخطوط العريضة لنظام الحقيقة المقترن بالشكل القانوني والسياسي للمجتمع المعاصر، والتي يرى أستاذ الحقوق والعلوم السياسية في جامعة شيكاغو، برنارد أ. هاركورت، بأنها “جذرية وملتزمة” تجعلنا نشعر أنها تأتي “تتويجاً لحقبة من أكثر الحقب النضالية التي عاشها فوكو نشاطاً وحيوية، ولا سيما في مجال العقوبة والسجن”.