هنري لوفيفر هو أحد الأسماء المعروفة لكل مهتم بالدراسات المكانية ودراسات المدينة والجغرافيا والتخطيط الحضري، واشتقاقاتهم على تراكبيتها وتنوعها. ومع تحول المدينة والمكان إلى موضوعات دارجة (أقرب ما تكون لصيحة ساهمت عناصر مختلفة في التأسيس لها)، فقد أصبح تناول المدينة والمكان في كثير منها مصابًا بالخفة نفسها؛ خفة في تأمل الظاهرة، وخفة في تحليلها وخفة في بناء الجدلية. وقد امتدت هذه الخفة لتصيب كذلك المراجع والأدبيات والمنهجيّات، بطبيعة الحال. ولعل هذا ما أصاب توظيف أدبيات المنظر الماركسي الفرنسي الأبرز هنري لوفيفر، على حساب عمقها وفرادتها وصعوبتها، ومركزيَّتها هو شاهدنا هنا للبحث عنه. فقد أصبح كتابه “The Production of Space” الذي تحال إليه الكثير من تلك الإحالات المختزلة، مرجعًا هامًا في دراسات المكان والحيز دون أن يكون ثمة تحليل واشتباك فعلي مع مقولات الكتاب وأفكاره الفذة، التي بسببها استحوذ الكتاب على هذا الموقع، وهو ما أسهم في أذية الكتاب وأفكاره بقدر ما أسهم في شهرته. كما أدت مركزته بهذا الشكل المختزل إلى طمس مقولات وأفكار أخرى للرجل، لا تقل أهمية وضرورية واستشرافًا، وردت في مواقع أخرى كثيرة من كتبه وأطروحاته.
الأمر ذاته نجده قد أصاب أطروحات الفيلسوف الفرنسي البارز ميشيل فوكو، كمقولاته عن الفضاء الهيتروتوبي Heterotopia (التي وقعت ضحية الترجمة دون البحث بين فضاء “مغاير” وفضاء “مختلف” وغير تلك التراجم). وكذلك أدبيات ميشيل دو سارتو عن التسكع في المدينة وفرقها عن المشي، كشكل من أشكال مقاومة السلطة في المدينة/المكان. حتى أن هذه الاختزالات لم تتنبه (وكيف لها ذلك!) إلى نقد دو سارتو لفوكو، وهو الأمر الذي أوصله إلى لتأسيس فكرة التسكع وفكرة المشي كمقولات مضادة للبانوبتية (The Panopticon) التي استخدمها فوكو.
ونظرًا لأن تلك الخفة لها خسائر هي أكبر من المتن هاهنا لاستيعابها، وتحليلها، فسنحاول أن نعرض مداخلة نقدية تحليلية عنوانها الظاهري “بحثًا عن هنري لو فيفر”، لكنها فعليًا تتوسم إلحاحية “إعادة إنتاج هنري لوفيفر” عربيًا، إنطلاقًا من مقاربات الجغرافيا النقدية. وهي محاولتنا لفهم أعمق بشأن تباين الدراسات المكانية والحيزية بين المركزية الغربية، وغيرها، وبالذات في هذا الجزء من العالم، وفي هذه اللحظة (ما بعد 2011) الفارقة، وهو الأمر المفهوم ضمنًا في أي بحث يتوسم الفهم المكاني والمديني والحيزي الآن وهنا، أو تراه هكذا يجب أن يكون.
1
إن كانت أغلب الدراسات والكتابات المعنية بالمكان والمدينة، في العالم العربي، حتى بعض أبحاث التخرج الجامعي، والتي نراها في أغلبها تعتريها الخفة في البناء أكثر من الفكرة، تتأسس على تناول مقولات لوفيفر عن المكان، إلا أنها تعامت، كمظهر من مظاهر الخفة، عن أفكار أساسية تناولها الرجل في إنتاجه، وهي “الاختلاف” و”الحياة اليومية”، بجانب “المكان”، لصالح مصفوفته الشهيرة في تحليل المكان.
ولأن الرجل كان منظرًا ماركسيًا قبل كل شيء، وجب علينا التنبه إلى الكيفية التي صيغت بها تلك الأفكار الثلاثة في الفكر الماركسي. وهنا بدأ بزوغ نحم لوفيفر، وهو العازم على التأسيس الثوري لعصره ومساحاته وأمكنته انطلاقًا من الفكر الماركسي، وقد فعل.
كتب لوفيفر ما يزيد عن الستين كتابًا والعديد من المنشورات الأخرى. وقد تناول موضوعات مختلفة، بما في ذلك الفلسفة والنظرية السياسية وعلم الاجتماع والأدب والموسيقى واللغويات والدراسات الحضرية، في أشكال تباينت بين الكتب ذات الطبعات الشعبية عن الماركسية إلى الكتابات الصعبة والمتعرجة التي أفلت بعضها من البروتوكولات الأكاديمية التقليدية، ضيقة الأفق.
بعد أن أسهم لوفيفر في إدخال أعمال هيجل وماركس المبكرة في المناقشات الفرنسية، فقد طوّر ماركسيته غير التقليدية، من خلال سلسلة من الارتباطات النقدية مع الظواهر الفرنسية، والوجودية، والبنيوية، والطليعية السريالية، والدادائية، ما أسس لجعل منتجه الفكري مرتبطًا بالكثير من المجالات، المتقاطعة، وهي التي تبدو وكأنها منفصلة. وهو ما لا تلتفت إليه الخفة في استدعاءات أفكار الرجل، التي تستدعي شذرات من أفكاره بشكل انتقائي ومنفصل، يغلب عليه موضع الأداة المنفصلة أو المنقطعة عن سياقها متقاطع ومتداخل الحقول.
كما لا تأتي الإشارة إلى لوفيفر في السياق العربي لفهم المدينة والدراسات المكانية، مع فهم لازم لتحركات تنظير الرجل المكتوب بالفرنسية بين مجالين: الفرانكوفوني والأنجلوساكسوني (ومنه الأنجلو أمريكي)، والأخير هو الأكثر تأثيرًا في المجال العربي وتحديدًا المشرق العربي، حيث الأمر مختلف في المغرب العربي ذو النزوع الفرانكوفوني. لنا هنا أن نشير إلى دراسات متأخرة عن الرجل قدمها كلٌ من ستيوارت إلدن وآندي ميريفيلد(1)، ساهمت في التعريف بلوفيفر بشكل مختلف، بل نكاد أن نقول أنها أعادت تقديم أفكاره بشكل أكثر اشتباكًا. لكن المشكلة غدت في التعامل مع لوفيفر وأفكاره باعتباره منقطعًا عن هذين المجالين، وهو ما يعمي البصيرة والبصر عن إسهامات الرجل وأطوارها وتحولاتها، ليصبح استدعاء أفكاره يبدأ من الدوام من نفس الموقع، وإلى نفس الإمكانيات.
لفهم مآلات الأمور علينا أن نستوضح مقدماتها. فلوفيفر منظر فرنسي ماركسي، وهو الذي قدم الماركسية بوصفها “معرفة نقدية بالحياة اليومية” في عصر يغلب عليه التسليع، وهو ما يرقى لأن يكون منهجية من منهجيات الكتابة التاريخية. ومع ذلك لا نجد له إلا الذكر العابر في أدبيات الماركسية الغربية، في ما لم يحظ تأثيره في مجال النظرية النقدية بما حظي به آخرون من أمثال ثيودور أدورنو ولويس آلتوسير، بل وحتى والتر بنيامين وإسهاماته المنهجية في الدراسات العمرانية والمدينية عن عمارة الحداثة وغيرها. فمؤلف كتاب “نقد الحياة اليومية” بأجزائه الثلاثة، والذي عدَّ أهم أعماله، واعتبر النص المؤسس لما نسميه بـ”الدراسات الثقافية”، لم يتبق له ولا لميراثه إلا الهندسة المعمارية والدراسات الحضرية والجغرافيا النقدية (في الخمسين عامًا الأخيرة فقط)، مدخلًا أساسيًا للفهم، قدمه كالمشاهير. لكنه استثناه من مجالات أخرى أساسية. لكن مع ذلك لم يتحمس أحد لهذا الموقع إلا مؤخرًا مع ازدياد التوجه متداخل الحقول في الدراسات الاجتماعية والإنسانيات. فلوفيفر الذي استدعي في الدراسات العمرانية والمكانية والمدينية العربية، ضمن إطار يعترف ويقر بأن العمارة والمدينة هي ظواهر اجتماعية، عومل إنتاجه باعتباره شروحات عمرانية وحضرية فقط.
بالعودة إلى مساهمات إلدن وميريفيلد، نرى ما تلاهما من مساهمات أخرى عن مقولات لوفيفر الأساسية عن “الفضاء Space”، تأسست على مقاربات مابعد حداثية هامة بشأن مقولات لوفيفر الثلاثة: عن المكان والاختلاف والحياة اليومية، وهو الذي لم يتطرق إلى مابعد الحداثة في شروحاته. من تلك الإسهامات كانت إدوارد سوجا (أو سويا) التي أتت لاحقة لأطروحات ديفيد هارفي بشأن “البنية الحضرية السياسية والاقتصادية”، وكلا الأطروحتين بالكاد يمكن التقاط أي مساهمة للوفيفر فيها بشكل خاص، بل نكاد أن نقول أنها غير متوافقة معها تمامًا. وبالتالي يمكننا القول أن لوفيفر كان على الدوام متاحًا للاجترار في الأكاديميا الأنجلو أمريكية بالدرجة الأولى، بشكل يتناسب مع ما لم يكن له وهو روح مابعد الحداثة، ما أدى إلى تضاؤل الفرص الموضوعية لإجراء المزيد من البحث والدرس بشكل موضوعي في أثر اللغة على انتقال أفكار الرجل إلى هذه المنطقة من العالم.
2
قد يكون موقفنا قاسٍ بشأن موقعة لوفيفر في الدراسات المكانية العربية، إلا أن الاهتمام الدولي الحالي بشأن نظريات إنتاج المكان في الدراسات الحضرية، والذي هو في نمو منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين يبدو متناقضًا إلى حد ما في ما يتعلق بالظروف التاريخية التي من خلالها بزغت الحاجة لإعادة قراءة أعمال لوفيفر.
ولهذا الأمر مسبباته في السياق التاريخي؛ ماذا تعني قراءة نظريات لوفيفر الماركسية الجذور، من دون ممارسة نقدية (كتلك لإلدن ومريفيلد وستيفان كبفر وكانيشكا مورينغود، وغيرهم)، في سياق رمزية اشتراكية بدأت تخبو، وبالذات بعد نهاية الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية الأخرى في أوروبا وتطور الصين، وموت الحركات الشيوعية الأممية، لتصبح النتيجة في هذا السياق أن تقولب نظريات الرجل في أداتيّتها فقط؟
يدفعنا هذا التساؤل إلى الحفر في عملية إنتاج المكان بما هي إنتاج للنظرية الماركسية كمعرفة نقدية(2) على المستوى اليومي للحياة، وهو الأمر الذي لا يحدث في استدعاءات لوفيفر الحالية في السياق العربي، مع الإقرار بتأثير المكان والجغرافيا على اليومي المعيش للمواطن العربي، ليبدو الأمر وكأنه مقاربة ليبرالية لنظريات الرجل وأطروحاته. والحال هكذا، فإن هذا الإغفال يغذي روتين فصل أعمال لوفيفر عن تطور الفضاء العام كمفهوم ونظرية وممارسة في الدول ذات التاريخ الاشتراكي، وهو الذي شهد نهاية الدولة الاشتراكية في أوروبا، حتى أنه كان قد أشار إلى أهمية هذا المسار التاريخي إلى عمله، دون أن يكون لديه الوقت الكافي لفحص ذلك الأمر. يُذكر أن الفيلسوف والناقد الماركسي المرموق بيير ماشيري، والذي كان طالبًا سابقًا للويس ألتوسير، وشخصية مركزية في تطور ما بعد البنيوية الفرنسية والماركسية، قد تنبه إلى هذا الأمر في نقده للوفيفر في كتابه الأخير بعنوان In a Materialist Way، إذ يقول مستنكرًا بعضًا من جهود لوفيفر التي ترنو إلى فهم وتنظيم الظاهرة ماركسيًا، دون أن تصل إلى توضيح كامل للارتباك الذي أصاب السياسية الماركسية والاشتراكية، مع التركيز على هذا النقص، تتفتح مناطق جديدة من التحليل، “تاركة الحقول مزروعة بشكل غير كامل”.(3)
لذلك نجد أنه من الضروري استجواب القيمة المعرفية المتضمنة في نظريات لوفيفر، بشأن الحالة الحضرية كتمثلات معرفية متعددة الحقول. وهو أمر لا يقتصر على تلك البلدان الواقعة خلف ما يسمى “الستار الحديدي” (بتعبير ماشيري نفسه)، لكن وجب النظر إلى الحالة الذهنية لها كمرحلة انتقال إلى الفوردية (4) (دولة الرفاه الوطنية في النموذج الأمريكي)، وما صاحب ذلك من تحول في أنماط التحضر، وسياسات التنمية، ولعل ديفيد هارفي في كتابه “حالة ما بعد الحداثة” قد تنبه إلى هذا الأمر. وهو ما لم يحدث في السياق العربي حين انتقلت الدولة من منظومة استعمارية إلى دولة قومية ما بعد استعمارية، والآن دولة قطرية، باتت مهددة في كل أركانها، مع الحراكات الشبابية في 2011 وما تلاها.
3
وبينما يرى باحثون من أمثال لوكاس تانك في كتابه Henri Lefebvre on Space: Architecture, Urban Research and the Production of Theory، أن ثمة قصورًا في تنظيرات لوفيفر السياسية والفلسفية، يصبح التساؤل مشروعًا: ما هي التحديات بشأن إعادة قراءة إرث الرجل بشكل معاصر؟
فمع المفاهيم التي صاغها لوفيفر ، مثل “المركزية/Centrality” و “الآثار/Monuments” و”الحضرية اليومية/Urban Everyday” وحتى أكثرهم استدعاءً “الحق في المدينة/The Right to the City”، بعد أن تم دمجها بشكل متزايد في الخطابات المهيمنة للمهندسين المعماريين والمخططين والإداريين والمطورين، ومعهم دارسي المكان والمدينة، يبدو أن أفكار لوفيفر قد تم تقويضها على الأقل بنفس القدر من خلال “نجاحها”. وبهذا تشترك في مصير ما وصفه لوك بولتانسكي وإيف تشيابيلو في الروح الجديدة للرأسمالية (1999) بأنها “نقد فني” تغلب عليه الأداتية، يركز على مطالب الاستقلالية والإبداع والأصالة، التي تم استشكالها بامتدادات الرأسمالية والسياسات الحضرية خلال سبعينيات و ثمانينيات القرن العشرين من خلال استغلال ولبرلة الرأسمالية لمقولات الأصالة والعراقة، في تخطيط المدن وتنميتها، ولنا في مشاريع التنمية في مدن عربية كجدة والدوحة والرياض وعمان نماذج كاشفة.
هنا تصبح استدعاءات لوفيفر وأفكاره لفهم الأمكنة في تلك المدن ومشاريع التطوير فيها، يجب أن ترقى إلى مستوى أعمق من تحليل أداتي مجرد لمقولات تلك الأمكنة ومعانيها وترميزاتها والأهم علاقات القوى التي أنتجتها.
وبالإشارة إلى ما يحدث حولنا اليوم في مدننا، لنا أن نتساءل: هل يمكن لأفكار لوفيفر أن تساعدنا على فهم ملامح ودواخل الحياة اليومية في المجتمع ما بعد الفوردي Post Fordist Society غربيًا، والمجتمع العربي المعاصر، بما هي معرفة نقدية ماركسية، يتأثر ويؤثر فيها مكاننا ومدننا وسيروراتها المتعددة؟
إن المجتمع الحديث وبتأثير من العولمة والاقتصاد المفتوح، قد تخطى الفوردية الأمريكية في نموذجها التقليدي، الذي تأثرت به المدينة الغربية، والأمريكية منها تحديدًا. حيث ساعدت التغييرات في الحياة اليومية، وليس فقط الأزمة الاقتصادية، في تقويض نموذج الإنتاج الفوردي، لحساب النضال وتطوير “الذاتية المستقلة”، وهو ما لم يؤد إلى تغيير أساسي في النظام الرأسمالي، ولكنه قام بإعادة تشكيل المجتمع الرأسمالي. بدلاً من ذلك ، تمكنت الرأسمالية من الاستجابة لرغبات ومطالب الحركات الاجتماعية بهويات وأنماط استهلاك جديدة بصبغات ليبرالية ونيوليبرالية، كانت قادرة على استيعاب وتمثل أنماط العنف الاقتصادي والجندري والجسدي وغيره، وتمدينه فيما يعرف بالـGentrification، وغير ذلك.
في التوجه النيوليبرالي تحاول تقنيات السلطة الجديدة، التالية على الدولة الفوردية، إضفاء الطابع الفردي على الديناميات وأشكال الوجود الاجتماعي، وتفكيك الحقوق الاجتماعية السابقة وإخضاع الناس للتنظيم الذاتي. وردًا على المطالب المتزايدة بمزيد من الفردية، فإن النيوليبرالية تدعو الأفراد والمنظمات إلى المشاركة بشكل أكثر نشاطًا في قضايا اجتماعية بعينها، كانت حتى ذلك الحين مسؤولية المتخصصين ومؤسسات الدولة المعتمدة.
في حين حل شكل جديد من “الهيمنة الموضوعية” محل النظام الاستبدادي الأبوي في بداية القرن الماضي، وما يعنيه هذا من أشكال اجتماعية جديدة تنبثق من هذا الموقع. يشير عالما الاجتماع الفرنسيين لوك بولتانسكي وإيف تشيابيلو، إلى أنظمة معينة للتطور الرأسمالي تتشكل من خلال أشكال النقد التي تتطور ضدها. فيشيران إلى خيطين أساسيين للنقد قد ظهرا منذ منتصف القرن العشرين: الأول موجه ضد الاستغلال وعدم المساواة (النقد الاجتماعي)، والثاني يتصدر جوانب الاستقلالية وتحقيق الذات (نقد الفنان)، ومن ثم فقد تطور “النقد الفني ذو التوجه الرأسمالي” لأول مرة في دوائر فكرية صغيرة، وصولًا إلى مقولات نقدية تحافظ على مواريث الرجل الأبيض والرأسمالية الغربية في التعاطي مع مفاهيم كالجمال والعدل والمعرفة وغيرها. ولعل الأمر يتضح جليًا في نماذج مؤسساتية فنية وثقافية معاصرة في العالم العربي، تتوسم النقد بدون أي فاعلية تفكك منظومة القوى والعلاقات الاقتصادية والسلطوية، حتى أنها ترفض النقد المنفك عن الكولونيالية Decolonial أو المضاد للكولونيالية Anti-Colonial. وهو ما حول الكثير من المساحات العامة في مدننا العربية إلى مساحات ممارسة نقدية فنية، وإن استندت على تنظيرات لوفيفر، وغيره، إلا أنها لم تتوجه بالنقد إلى مباني السلطة الفعلية، بل استعارت أشكال القمع لشرعنة مساحات تمنح للفاعلين من خلال السلطات. ونموذج الغرافيتي في عمّان هو واحد من عديد النماذج، يصاحبه تخوف مؤسسات ثقافية من فعاليات عامة ذات مقولات مفتكة عن الكولونيالية أو مضادة لها. الأمر ذاته يحدث بشكل موازٍ في الإنتاج المعرفي بشأن المدينة العربية والدراسات المكانية.
4
في مشروعه غير المكتمل Rhythmanalysis، والوثيق الصلة بكتابه عن نقد الحياة اليومية، والذي نشر بعد وفاة لوفيفر، قسم بعنوان Elements of Rhythmanalysis، ضم سبعة فصول ترابطت بشكل فضفاض، ضمت دراسة عن وتيرة/إيقاعات الحياة في مدن البحر المتوسط. بينما في المجلد الثالث من كتابه “نقد الحياة اليومية”، يصف لوفيفر تحليل الإيقاع/ الوتيرة بأنه علم ناشئ يبحث في التفاعلات المعقدة للإيقاعات الدورية والإيقاعات الخطية. لكن لوفيفر لم يكن الوحيد الذي تنبه إلى هذا الأمر في الحياة المعاصرة، فقد سبقه الفيلسوف البرازيلي لوشيو آلبرتو بينهيرو دوس سانتوس إلى صياغة مصطلح Rhythmanalysis، وذلك في العام 1931، حتى أن غاستون باشلار مؤلف كتاب The Poetic of Space، والذي يعتبر أيضًا من المراجع الهامة لدارسي العمارة والمدينة والأمكنة، لطالما تحدث عن بينهيرو سانتوس بعبارات ملؤها الإعجاب والتقدير.
يربط لوفيفر بين الجسد وتحليل الإيقاع/الوتيرة في الحياة اليومية، من خلال المفارقة بين المرئي والمسموع، فمن يقوم بتحليل الإيقاعات ووتيرة الحياة اليومية عليه ألا يقتصر المدينة والمكان في العناصر البصرية المرئية والمادية فقط، بل عليه أن ينصت إلى ضوضائها وصوتها، وكذلك إلى صمتها، وتلك تجربة لا تمر إلا من خلال الجسد، فالجسد عتبة تقنيات المكان والمدينة، ومعبر التجربة ومحتواها. وبينما تجاهلت الفلسفة الجسد، لفترة من الزمن، أو لنقل لم تتنبه إلى مركزيته، تحت دعاوٍ وتأثيرات مختلفة، أتى لوفيفر ليؤسس مقاربة مدينية له، وهو ما سقط في استدعاءات ومقاربات البحاثة العرب في المدينة والمكان.
ولأن الإيقاع كمادة صوتية حادث في الزمن، (بمعنى أن بداية إيقاع ما زمنيًا هي نهايته فعليًا، وبشكلٍ غير مستعاد إنما متكرر) علينا أن نتأمل مفهوم الوقت والزمن في الحداثة، حيث يتجلى الثاني في الأول من خلال الساعة كاختراع بشري حداثي يكمل ثنائية الهيمنة الحداثية: الزمان والمكان.
أتت الساعة كاختراع ضبط، أخضعت الحياة اليومية المعاصرة وأشكال الوجود فيها، فحولتها معيارًا كميًا للزمن. أدت الساعة دورًا هامًا في تجريد الوقت من رمزيته ومعانيه، وكان دورها حاسمًا في ضبط الفصل بين مفهومي العام والخاص، والدولة والمجتمع، والأهم دورها الكولونيالي، الذي كان أساسيًا في السيطرة المكانية، وإنتاج الإقليم الكولونيالي. حيث أن فرض الدولة الرأسمالية كشكل نهائي للتنظيم الاجتماعي يخلق مرجعية زمنية قياسية (حداثية) تتمثل وظائفها الرئيسية في تطبيع نفي أي زمن اجتماعي آخر وفرض سيطرة الدولة على أي هيكل اجتماعي مختلف، حيث لعبت الساعة ومفهوم الزمن الحداثي دور الحدود.
في المدينة نجد الحياة اليومية منضبطة بإيقاع زمني كوقت متجانس ودنيوي، فقد وفر مقياس الوقت للعمل، وأخضع مجالاً تلو الآخر من الحياة. وفقًا للوفيفر، كان لدى الماركسيين وجهة نظر محدودة للإيقاعات منذ البداية . لقد درسوها باعتبارها آلية ضبط للإنتاج وأنماطه فقط. في وقت سابق، كانت العمليات الجماعية أو الفردية مصحوبة بإيقاعات لديها مهمة ضبط الوقت. وفي أغلب الأحيان كانت عبارة عن أغانٍ. كانت هناك أغاني المجاذيف والحصادين والرعاة والبحارة والصيادين والحياكين وغيرهم. ومع ذلك، لم يلاحظ المؤرخون الاجتماعيون السابقون أن هناك إيقاعات في الحياة الجماعية للمجتمع أقدم بكثير من إيقاعات العمل المنظم جماعيًا، وهنا تبدأ العتبة الفريدة لأطروحات لوفيفر بشأن تحليل الإيقاع والوتيرة في المكان/المدينة.
“من أجل فهم وتحليل الإيقاعات، من الضروري الخروج منها، ولكن ليس تمامًا: سواء كان ذلك من خلال العطب الجسدي أو التقنية”(5). المراقب/الباحث متورط في ما يحدث في الشارع، وعليه فإنه جزء من حالة الدراسة ومادتها. “لفهم الإيقاع، من الضروري أن يبتلعك”(6).
“تُسمع المدينة بقدر ما تُسمع الموسيقا، وتُقرأ بقدر ما تقرأ كنص خطابي مكتوب”(7) شارك لوفيفر وزوجته كاثرين ريجولييه في تأليف أطروحة طويلة نسبيًا بعنوان “محاولات تحليل إيقاع مدن البحر الأبيض المتوسط”. حاولا فيها تقديم التحليل بشكل متقاطع مع شوارع مدينة متوسطية كبيرة برشلونة أو بيروت أو نابولي أو مرسيليا أو تونس، على سبيل المثال. هذه الموقعية Positionality لمحلل الإيقاع المديني تجعله أكثر تقبلًا للزمان من المكان، وتنبهًا للتداخلات بين الوقت الدوري والخطي. يدرك محلل الإيقاع الذي يتجول أجواء المدينة أكثر من الصورة التي تغري العين، كمفارقة متوازية بين العين والأذن كحواس ثقافية.
وهو أمر لا نجده في أي محاولة بحثية أو كتابية أو أكاديمية عربية لفهم شروحات لوفيفر عن المدينة والمكان، وأشكال الحياة فيهما.
5
بوضوح نقول أن أكبر مشاكل عالمنا اليوم لا تكمن فقط في الصراعات الجيوسياسية والصراعات الاقتصادية. إن تلك المشاكل بمختلف طبقاتها المتراكبة، من رأسمالية واستعمار وحداثة وعنف وغيره، في أغلبها تختمر في المراكز الحضرية، كما رأينا مؤخرًا وبوضوح في انتفاضة الضواحي “الفرنسية”، والتي هي الآن (2023) ليست منفصلة عن تلك التي كانت في 2005، والتي كان من وجوهها الرئيسية مواطنو الدولة الفرنسية ممن يسمون رسميًا “رعايا ما بعد الاستعمار”، في علاقاتهم المختلفة مع المدينة والمكان.
ومع ذلك، فإن ما حدث في فرنسا لا يزال بحاجة إلى فهم تأملي وتحليلي، وخاصة من قبل طلاب العلوم السياسة المنخرطين في النظرية النقدية، على قلتهم (العلوم السياسية تكاد أن تكون التخصص الأقل بصرًا وبصيرة في فهم الظواهر الاجتماعية والإنسانية). وإذا مددنا الخيط على استقامته، في باريس، من منطق حضري مديني، من أحداث 1848 و 1871 و 1968، يمكننا فهم التقاطعية بين المديني والسياسي والفكري والإجرائي، من مساهمة آلان باديو ودعمه لحركة “بدون أوراق ثبويتة”(8) sans-papiers، وبيير بورديو الذي هاجم ونقد النيوليبرالية، وإتيان باليبار من ناحية جادل من أجل “الحق في المدينة” ضد العنصرية الجديدة، واستخدم ذلك في دراساته بشأن الحدود. حتى جاك دريدا في كتابه Rogues، وغيرهم. حيث يصل بنا ذلك الخيط الممتد -بقليل من الخيال- إلى القوى الهائلة التي تضغط في جسد المكان والزمان الحداثيين في فرنسا، على رعايا ما بعد الاستعمار، الذين يعيشون الآن في ضواحي باريس، بينما يتعرضون لأسوأ أشكال الحرمان. لكن السرد الكافي لفهم دور المكان والمدينة والنسيج الحضري يجب أن يتجاوز عمل أي من هؤلاء المفكرين النقديين. إنه يتطلب منظورًا تاريخيًا قادرًا على التعبير عن الأشكال المكانية مع العلاقات الاجتماعية على مستويات مختلفة من واقعنا العالمي الجديد، من اليومي، من خلال الحضري، إلى العالمي، والذي نجد تقاطعات له في أماكن أخرى من عالمنا العربي، ولكن بسياقات مختلفة، وجب أن يرتقي الفكر النقدي والمعرفة إلى مستوى الحدث.
الهوامش:
-
يُنظر:
Stuart Elden, Understanding Henri Lefebvre: Theory and the Possible (London: Continuum, 2004) and Andy Merrifield, Henri Lefebvre: A Critical Introduction, (New York: Routledge, 2006). -
يُنظر: لو فيفر، هنري، معرفة الحياة اليومية الماركسية بوصفها معرفةً نقديةً بالحياة اليومية، مجلة أسطور، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قسم ترجمات، تر. ثائر ذيب، العدد الخامس، الدوحة، قطر، 2015.
-
ينظر: Macherey, Pierre, In a Materialist Way: Essays, London, Verso, 1998, 278..
-
الفوردية هي مرحلة ما معينة من التطور الاقتصادي في القرن العشرين. والفوردية مصطلح درج لتوصيف منظومة الإنتاج الكمي Mass Production التي انطلقت في القرن العشرين من خلال شركة فورد لصناعة السيارات. كما تصف الفوردية أنماط النمو الاقتصادي ما بعد الحرب العالمية الثانية والتي ارتبطت بالمنظومات السياسية والاقتصادية في الرأسمالية المتأخرة.
-
Lefebvre, Rhythmanalysis: Space, Time and Everyday Life, trans. S. Elden and G. Moore, New York, Continuum, 2004, 27.
-
المصدر نفسه.
-
Henri Lefebve, “The Right to the City,” in Writings on Cities, ed., trans. and introduction E. Kofman and E. Lebas (Cambridge, MA: Blackwell, 1996 [1968]), 109.
-
تعتبر حركة “بدون أوراق ثبوتية” إحدى السمات الرئيسية للنقاش السياسي المعاصر حول الهجرة في فرنسا، حيث سلطت الضوء على الوضع المحدد لأولئك الذين يقيمون “بشكل غير قانوني” في فرنسا. وهي حركة منظمة لمقاومة محاولات الحكومات المتعاقبة لطرد المقيمين “غير الشرعيين” من أراضيها. تم لفت انتباه وسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم إلى وضع عمال بلا ورق في عام 1996 عندما أمرت الحكومة قوات الشرطة الخاصة بتحطيم أبواب كنيسة في باريس لطرد أولئك الذين كانوا ينظمون إضرابًا عن الطعام فيها. أدى هذا الطرد والتغطية الإعلامية التي صاحبت الحدث، إلى تعبئة كل من المهاجرين الآخرين الذين وجدوا أنفسهم في وضع غير قانوني، وأجزاء من السكان الفرنسيين الذين احتشدوا لدعم الحركة، مع سلسلة من المظاهرات والعرائض العامة التي تلت ذلك. هذه اللحظة الرئيسية في التاريخ الحديث للهجرة في فرنسا ترمز إلى تصميم الدولة الفرنسية على رفض منح الحقوق لأولئك الذين يعتقد أنهم يقيمون بشكل غير قانوني على أراضيها وأيضا لطرد هؤلاء المهاجرين غير الشرعيين، وفي الوقت نفسه التعبئة السياسية لكل من السكان المهاجرين ومؤيديهم الفرنسيين لمقاومة هذا التصنيف من عدم الشرعية. فقد بنيت سياسات الهجرة الحالية التي تشجع الشرطة على الوصول إلى مواقع ومساحات المهاجرين غير الشرعيين لطردهم من فرنسا.