مع فتح باب الباحة لإدخال الفطور، قلنا للرقيب أن يبلغ الإدارة بأننا مضربون عن الطعام.
على الأرجح أن الإدارة لن تقرر بمفردها ما الذي يتوجَّب عليها فعله، فنحن عندها، كما قال مدير السجن والمساعد في مناسبات عديدة، لسنا أكثر من وديعة لصالح الفرع الذي اعتقلنا.
لم يلجؤوا للعنف والتهديد كما في السابق. وحين طلبوا منا إدخال الطعام إلى المهجع ورفضنا، اكتفوا بإغلاق الباب علينا وترك الطعام في الباحة.
بعد أيام اختلفت نوعية الطعام المحمول بالجاطات التي يأتون بها ويتركونها في الباحة أمام المهجع. كانت الجاطات مقبَّعة بفراريج محمَّرة ومقمَّرة لم نرَ مثلها من قبل.
– يا شباب هذه الفراريخ ليست من مطبخ السجن.
– ومتى كانت تأتينا فراريج من مطبخ السجن، المطبخ معقَّم من الفراريج، وإذا حدث وجاء نصر الله والفتح، ودخل فروج في الطعام فلا شك أنه كان..
– عفواً.. كما لو كان.. قد نجا من مجاعات أفريقيا.
– المدهش كمية الفراريج وليس نوعيتها فقط.
بقصّ إيدي من الباط إذا ما كانوا ميجيبوهن من ميرديان تدمر.
– ليش تدمر فيها فندق ميريديان؟!
– ما حبَّيْت هالسؤال منَّك يا رفيق. يعنى مثقف بلا مؤاخذة وأبتعرف أنّ تدمر فيها ميريديان!
– شو بدكم من الحكي.. هالفراريج بيقنعوا اللي بعمره ما اقتنع.
– بظنّلكم غاندي النباتي بذات نفسه.. إذا بيشوف هالفراريج بينكسر قلبه.
– قلبه يا رفيق، مش إضرابه.
– ماشي الحال.. آبدّي دافع عن غاندي.
عندما تقسو الظروف، يرتفع منسوب المزح والسخرية والتفهُّم والتسامح.
يوماً بعد يوم، وشهراً بعد أخيه، وعاماً بعد أبيه، تتعدّد وجهات نظرنا وتتباين، بدءاً من انهيار المنظومة الاشتراكية وسقوط جدار برلين ورياح الديمقراطية القادمة من الغرب، مروراً باحتمالات استمرار الحزب أو تصفيته، وانتهاءً بإذا ما كان الزيتون هو العيطون، والعجّور هو البطيخ.
* * *
بعد بضعة أيام أخذت صحة الرفيق عدنان خضور تتردّى بصورة ملحوظة.
عدنان يعاني من “الحمّى المالطية” التي كلما جاءته أمضى أياماً مضنية إلى حد الصراخ، وخسارة عدة كيلوغرامات من وزنه.
– عدنان يجب أن تأكل.
– آفيني.. أنا معكِن لآخر نفس.
– إذا بدك تساعدنا بمواصلة الإضراب لازم تفكّ إضرابك.
– آفيني شي. صحتي كيسة. وهه ليكوني.. خَلَص.. بطَّلت صرِّخ.
* * *
من لعنات الزمن في فترات الإضراب أنه يصبح بطيئاً وغبياً وحجرياً.
لا بد من ملء الوقت بالحكايات والغرائب والنكات.
خطر لي أن أطرح موضوعاً إشكالياً يتعلق بمدى احتمال صوابية وخطأ نظرية داروِن عن أصل الإنسان، وبعد سلسلة من النقاشات أعلنتُ انحيازي إلى أن أصل الإنسان قِطّ.
فتحت الفكرة شهية السخرية والمقارنة، فالقط والقرد يبدأان بحرف القاف الذي “تقاقي” به أجهزة السلطة كما لوأنها مالكته الحصرية، و “تقلقله” الجماعات الإسلامية كما لو أن الله اختصّها وحدها بالقلقلة، وهناك من اقترح دمج أو نحت القطّ والقرد بلفظة “القرط”، ولم يلقَ النحت قبولاً لاختلاطه مع القِرط الذي هو نوع من الحليّ التي تُعلَّق في شحمة الأذن.
ولكي تغدو فكرتي ملموسة وقريبة المتناول رحت أصف رؤوس بعض الرفاق مع نوع من المبالغة في التمثيل باليدين وملامح الوجه وحركات الجسد.
– لو تأملنا رأس الرفيق فلان، لرأينا أنه قطّ أكل عشاءه قطّ آخر، بينما رأس الرفيق فلان، فيبدو مقنِعاً أنه قط منزلي مطمئن بعينين زرقاوين وشاربين أشقرين يلمعان كما لو أنهما مبلّلان بالدسم. أمعنوا النظر جيداً وسترون ما أراه. إنه حقاً قطّ منزلي يوحي بأنه يعيش لدى أسرة منعمة تغمره بالدلال، على العكس من القطّ الذي إلى جانبه، إذ يوحي أنه قط برّي شديد السمرة بوجنتين منتفختين وعينين متحفزتين كعيني فهد.
احتدم النقاش بشأن الفهد وإن كان ينتمي لفصيلة السنّوريات أم لا، وسرعان ما رست القناعة على أن الفهد من السنوريات، فأكملت الوصف التشريحي لرأس رفيق ثالث يوحي بأنه قط مسالم يميل إلى الهدوء ولا يكاد يموء، لا بل إنه يغمض عينيه مع كل سحبة مواء، على عكس القط الرابع الذي يبدو دائماً يقظاً ومتحفزاً تلتمع عيناه حين ترمشان تحت جفنيه المبطَّنين كما لو أنه من إحدى السلالات القوقازية. أما القط الخامس فيبدو كسولاً إلى حد أنه يمضي معظم نهاره نائماً حتى لكأنه قط شيرازي.
أدعوكم إلى أن تدقِّقوا النظر بحياد. لا تدعوا القناعات المسبَقة تشوِّش تركيزكم. نحن الحلقة الأخيرة في مراحل تطور القطط. صحيح أن هناك عشرات السلالات، ولكنها تتشابه في تكوينها الأساسي. دعوني يا رفاق أتحدث عن قط آخر في مجموعتنا. أنظروا إلى فلان جيداً، فهو قطّ شديد القطّيّة. ترون كيف تتهدّل شعرات شاربية في الوسط وتشرئبان عند طرفيهما يميناً ويساراً، ثم أسنانه وأنيابه.. ستقولون أنه يشبه القط، وأقول بل هو قط حقيقي.
كان محمد الصمودي يواكبني مؤمِّناً على كل ما أقول بإغماضات عينيه وهزَّات رأسه، وحركاته القاطعة أو الطاردة لأي تشكيك محتمل.
* * *
وطأة الوقت تشتد يوماً إثر يوم، وإضرابنا مكفهرّ الآفاق والتوقّعات.
استنفدنا مخزوننا من الطرائف والحزازير والسير الشعبية ومسابقات معرفة الأمثال من خلال تمثيلها إيمائياً.
وانتهت الأفلام التي رواها أكرم، وكذلك الأفلام التي ألّفتُها أنا والصمودي، فانتقلنا إلى سرد الروايات التي بدأها يوسف برواية “آنّا كارنينا” لتولستوي.
ذات ليلة تذكّرت قصيدة توفيق زياد “سرحان والماسورة” التي غنتها فرقة أغاني العاشقين، فحوّلتُها إلى حكاية شحنتُها بما استطعت من التداعيات والاستطرادات والشروح وما يشبه الموسيقى التصويرية. كنت أتوقّف بين مقطع وآخر لاستجماع أنفاسي التي أنهكها الجوع. المهم أن يكون الرفاق مشدودين إلى الحكاية. تخفّ وطأة الإحساس بالجوع بمقدار ما تستثيره المرويات من خيال، على عكس الوهن الذي تتراكم طبقاته كغبار ثم كرماد ثم كرمل.
رغم مضاضة الجوع والوهن، ما زال عباس أبو ديمة قادراً على غسل أرواحنا بعذوبة صوته المموسق وهو يطوِّع مقامات الأسى والفرح والحكايات، وما زال راشد قادراً على هدهدتنا بدفء صوته وهو يغني عراقيات الحب والحزن والحنين.
ولكن يوماً بعد آخر بدأت الأصوات تميل إلى الذبول، وأوقفت الحُمّى صوت عدنان الذي يحتاج إلى جبال يردحها بصوته والعتابا إلى المدى الأقصى، لتتكسر أصداؤه على السفوح وفي الوديان.
* * *
حين تنطبق جدران المعدة على نفسها لا يعود الجوع حالة بيولوجية ناهشة، بل يغدو جوعاً مريضاً تترامى ظلاله كما لو أنها قادمة من ذاكرة بعيدة.
في اليوم الثالث عشر حضر مدير السجن مع شخص قدّم نفسه على أنه عقيد من شعبة المخابرات العسكرية، ومكلَّف من أعلى السلطات، ليس للتفاوض معنا، بل من أجل إفهامنا أن لا جدوى من إضرابنا الذي نحاول من خلاله استغلال انشغال الدولة بمشاكل احتلال العراق للكويت والحرب الناجمة عنها.. وبالتالي يتوجب علينا فكّ الإضراب، وإلا فسنرى جهنم على أصولها.
عقيد أخرق، من الواضح أنه يعاني من نقص شديد في البداهة، حتى لكأنه حفظ بصعوبة بعض الجمل، التي يتوجّب عليه إيصالها إلينا.
كان يحرك يديه وكتفيه ورقبته الغليظة، لتعويض ما يقصِّر عنه لسانه المصاب بحُبسة ثقيلة الوطء.
حين يئس العقيد من إحراز أي تقدم في مهمته، ترك لنا تهديدات عالية الرعود وكثيفة الزبد، ومضى.
في المساء عاد المساعد، ليأخذ عدداً من الرفاق الذين ما زالوا قادرين على المشي. وهكذا أمضينا الليل، ونحن نتبادل الرأي حول الخطوات اللاحقة.
* * *