في اليوم السادس عشر من الإضراب، أعادوا لنا الرفيق نبيل الحمصي، لينقل لنا صورة عن الظروف المزرية في المنفردات، فانطرحت مجدداً النقاشات ووجهات النظر وتعارضاتها بشأن هذا الإضراب وعوامل نجاحه وفشله:
– يا رفاق لم يعد لدينا من هوامش للمناورة. تقتضي العقلانية والواقعية أن نعترف بفشل الإضراب وبالتالي الهزيمة.
– لم يفشل الإضراب ولم ننهزم.. ما زال في إمكاننا المناورة والمساومة.
– استمرارنا في الإضراب جوع مجاني ليس إلا.
– هذا رأيك منذ البداية، فانسجم مع نفسك ودعنا نكمِل إضرابنا.
– وضع رفاق المنفردات الآن أهم من كل الأهداف والنتائج التي تراهنون عليها.
– وما هي الحيثيات التي سننهي الإضراب على أساسها أمام الإدارة؟
– ليس مهماً.. وتستطيع أن تقول الاستسلام.
– بل مهم جداً.. صحيح أنني مقتنع الآن بضرورة إنهاء الإضراب، ولكن لا يجوز أن ننهيه، قبل أن يعيدوا الرفاق من المنفردات.
– أنا أفكر، أن أهم شيء يا رفاق، هو البحث عن تخريجة لإنهاء الإضراب، تحفظ لنا حداً أدنى من ماء الوجه، وإلا فإن حياتنا ستصبح..
– إذا قررتم إنهاء الإضراب، ويبدو لي أن هذا الميل بات واضحاً، فيجب ألا تفرِّطوا في ما راكمناه خلال ستة عشر يوماً، فهذه الأيام يبقى لها شيء من الوزن، حتى لو فشل الإضراب، وبالتالي يجب عدم الاستسلام دفعة واحدة وكيفما اتفق.. يمكنكم مثلاً أن تطلبوا من الإدارة ورقة وقلماً، أو تكتبوا بالحبر الذي صنعناه إن شئتم، وترفعوا إلى مدير السجن بياناً، توضحون فيه أننا إذا كنا سننهي الإضراب، فلكي نبيّن أن لا علاقة لتوقيته بموضوع العراق والكويت والحرب الدائرة. إن لنا حقوقاً، كنا ولا نزال نعتبرها بديهية بالنسبة إلينا كمعتقلين سياسيين، وسنواصل العمل على تحقيقها بكل السبل الممكنة. وينبغي، في خاتمة البيان، التأكيد على أنه إذا كان قرارنا الأولي، هو وقف الإضراب، فإن بدء التنفيذ، لن يكون قبل عودة جميع الرفاق الذين هم في المنفردات الآن.
وهكذا.. أعيد الرفاق وتوقَّفَ الإضراب.
لا بد من الاعتراف أنها كانت هزيمة مؤلمة ومريرة، ولكنها في الحساب الأخير، استطاعت أن تسجل ستة عشر يوماً من الجمر، في مواجهة ذلك الرماد الطاغي. ستة عشر يوماً من أجل انتصار ما يشبه الحياة على ما يشبه الموت.
* * *
صباحاتنا مضفورة بالشوك، ومساءاتنا مسفوحة المعنى.
تنازلات صغيرة ومناورات ومواجهات دامية مع الإدارة، يقابلها حنين وضحك وبكاء وعناقات ومهاترات فيما بيننا.
أعدنا سيرة ابن فضلان وروبنسون كروزو، لكن على أرض الواقع لا في الخيال.
سجن تدمر جزيرة نائية ومعزولة عن العالم، حيث لا بدّ من إعادة اكتشاف الأشياء والأدوات واللعنات الأولى، التي اكتشفها إنسان ما قبل التاريخ. صنعنا الإبر من القش، والسكاكين من العظم، كما اكتشفنا الألوان والحبر والخمر والخلّ والذاكرة، وتآلفنا مع الجوع والخوف والوجع والوهم والنسيان والجنون، ولم نفرِّط بالأمل.
اهترأت ثيابنا فتعلَّمنا كيف يمكن ترقيعها، ومع الزمن بدأنا بترقيع الروح والجسد وحتى الذكريات.
في الواقع تتناوب صورة سجن تدمر ما بين كونه جزيرة معزولة وما بين كونه مجتلداً رومانياً مخضَّباً بزئير الوحوش الكاسرة والدم وصرخات الأسرى.
من السهل علي وعلى غيري تصوير مدى البؤس الذي نحن فيه، غير أني أشك في إمكانية مقاربة ما يتعرض له المعتقلون بتهمة الإخوان المسلمين و “بعث العراق”. أولئك مهدورة دماؤهم ومستباحة حياتهم إلى حدود لم ينذر بها من قبلُ نبيّ ولا كتاب.
* * *
في السنوات الأولى كنَّا كلما سمعنا في الليل صوت فتح أحد الأبواب، حتى لو كان في الباحة الأولى، تزاحمت أحلامنا وتوقعاتنا عند ردهة واحدة وحيدة: النقل إلى سجن صيدنايا.
وقد خابت أحلامنا عشرات، بل مئات المرات.
في التاسعة من مساء 4/ 5/1992 صلصلت الجنازير، وقعقعت المفاتيح والمزاليج في باب الباحة.
– ألله يعطينا خير هالفتحة يا شباب!
– على الأرجح مثل المرَّة الماضية.. بدهم يسألوا إذا كان عندنا حالات تسمُّم.
– مانكم ملاحظين أن التسممات الجماعية كترانة بالسنة الأخيرة؟
– عادي عادي.. دائماً هيك. تسمّمات وجرب وسلّ.
– يمكن جايبين رمل وإسمنت لإصلاح الباحة، بعد ما لعنوا دينها بإصلاح المجارير.
– لا.. واضح أنهم جايين لعندنا.. مانك سامع خشخشة المفاتيح؟
– هذا صوت الرقيب “آسفين”.. بظنّ رح يفتحوا باب مهجعنا.
* * *
دخل المساعد محاطاً بفصيلة من العساكر، وقد ارتدوا لباسهم النظامي كاملاً بما في ذلك البيريهات الحمراء:
– ضبُّوا أغراضكم، وسلِّموا الكتب، وكونوا جاهزين بأسرع ما يمكن.
– نضبّ العوازل والبطانيات كمان؟
– لا.. أتركوا كل شي بمكانه.
– لوين سيادة المساعد؟
– يعني داخل السجن ولّا خارجه؟
– بلا كثرة حكي.. ضبُّوا أغراضكم، وكفى.
لمحنا في وجه المساعد ظلال ابتسامة غامضة، كان يحاول تغطيتها بنبرات آمرة مفتعلة.
ما إن أُغلق الباب، حتى أشرقت ملامح الحب والغفران ورغبة تبادل الأحاديث والأمنيات والتعليقات المازحة الودودة. بات المهجع حديقة، تتشاهق فيها الملائكة والنجوم والأجنحة وروائح الأهل والأصدقاء.
– صار النقل أكيد يا شباب.
– نعم، النقل من المهجع أكيد، أمّا لوين فعلمها عند علّام الغيوب.
– لوين يعني رح يكون.. إما لسجن “صيدنايا” وإما لسجن “المزّة”.
– وإما إلى المنفردات في الباحة الخامسة.
– طول عمرك متشائم.
– ما بيطلعلك تحكي يا متفائل تاريخيّاً.
– هلَّق صار التفاؤل التاريخي شتيمة عندك؟!
– الوقائع عم تشتمه من بداية حبستنا المباركة إلى هاللحظة الفضيلة.
– كلها ساعات حتى يدوب التلج ويظهر المرج.
– شو صارلكم يا شباب.. تفاءلوا بالخير تجدوه.
– أنت في الأصل كان لازم تكون مع الأخوان المسلمين، بس ألله غضب عليك دنيا وآخرة وخلاك تصير شيوعي.
– يبلوكم أيكم أحسن عملا.
– بركاتك يا شيخ..
الضحك لا يتوقف.. جميع الآراء والتعليقات تؤخذ على محمل النوايا الحليبية الصافية.
لم ننم.. كنَّا جميعاً لا تأخذنا سِنةٌ ولا نوم.