خلال العدوان على غزة وبالتزامن مع هبة الكرامة في العام 2021، فكرت ثلاث فنانات فلسطينيات؛ دعاء بدران من كابول الجليلية، ويارا محاجنة من أم الفحم، وسمى قعدان من باقة الغربية؛ في ما يستطعن تقديمه من أجل أهالي القطاع، وكيف يمكنهن تجنيد الفن لخدمة قضية وطنية وإنسانية. هكذا ولدت فكرة “شاحنة برتقال”. كانت البداية عبارة عن موقع وصفحة عبر تطبيق “إنستغرام” لبيع أعمال فنيّة فلسطينيّة مختلفة، بعد انتهاء العدوان، وضمن مساعي التعافي النفسي منه، عادت الفنانات الثلاث بفكرة تحويل “شاحنة برتقال” إلى مشروع فنيّ رقمي متكامل، يشمل منصّة لبيع الأعمال الفنيّة، ومنتدى لإقامة الندوات والمحاضرات الفنيّة، وبناء أرشيف للفنانين الفلسطينيين.
بدأت دعاء حديثها عن المشروع بالقول: لا تحتوي البيوت الفلسطينية على فنٍ فلسطينيّ، يعود هذا للكثير من الأسباب. لقد بدأت فكرة “شاحنة برتقال” من السؤال: ماذا يمكن للفنان الفلسطينيّ تقديمه لشعبه، وكيف يمكنه ان يأخذ دورًا في التغيير المجتمعي. خلال العدوان على غزة، وبشكل عفوي، قمنا بالتواصل مع أصدقائنا من الفنانين وجمعنا بعض الأعمال وأطلقنا الموقع،ثم قمنا بتحويل الأموال التي جمعناها لجمعية ومنها إلى القطاع.
خلال أسبوع من إطلاق الموقع بدأ بيع الأعمال، عرضنا أعمالًا بأسعار متفاوتة حتى يتمكن مختلف الناس من الاقتناء، واستغربنا أن الإقبال على الشراء كان من أشخاص عاديين، ولم يكن هناك أثرياء مقبلين على اقتناء الأعمال، هذا أكد لنا أن الجمهور الواسع يريد أن يتعرّف على الفن، لكنه يختار الأعمال التي تناسب مقدرته المالية. وكذلك دلّ على تعطش الناس ورغبتها بالمساعدة.
انتهت الحملة لكن بقيت الفكرة بأن الناس تريد شراء أعمال فنية وتحتاج إلى طريقة تتيح لها الأعمال الفنيّة، لذلك عدنا لإنعاش الفكرة وتحويلها لمشروع مستدام.
والدوافع من وراء اختيار اسم “شاحنة برتقال”؟
“شاحنة برتقال” تشحن الفن الفلسطيني إلى بلادنا والعالم، تمامًا كما كانت يافا تصدّر خيرات البرتقال قبل الاحتلال. وكذلك من منطلق الحضور البارز للبرتقال في الفن البصري الفلسطيني.
وماذا عن الأرشيف؟ هل فعلًا يفتقر الفن الفلسطيني للأرشفة؟
بعد الفحص وجدنا أن عدد الفنانين الفلسطينيين الذين يملكون موقعًا على الانترنت قليل جدًا، وحضور الفن الفلسطيني في ويكيبيديا قليل أيضًا. لذلك نرغب في بناء أرشيف مستدام وقابل للتحديث، يسهّل على الفنان الحضور فيه عوضًا عن بناء موقع خاص به، وهي فرصة للفنانين الشباب للتعريف بأنفسهم وفنّهم وتحديث المعلومات والاعمال بشكل مستقل ومتواصل.
كيف يخدم الفنان النضال طالما لا يستطيع معظم الفنانين أن يعتاشوا من فنّهم؟
نحن واعيات أن عدد الفنانين الفلسطينيين القادرين أن يعتاشوا من فنّهم قليل جدًا جدًا. لكن الشراكة في النضال لها أشكال عديدة وكل شخص قادر. نحن واعيات أيضًا أن بيع الأعمال الفنيّة مرتبط بشكل كبير بالعلاقات في الوسط الفني وبدونها لا يمكن بيع الأعمال، الفنان عمومًا لا يملك مهارة التسويق أو آليات بيع الأعمال. يعني المشهد ضيق وأحيانًا محتكَر. كل هذه العوامل يجعل الفنان إلى تغيير مهنته، أو إلى عدم الاحتراف والتفرّغ، وبالتالي يقل الانتاج ويصبح فتح أبواب المعارض خارج البلاد أكثر صعوبة.
من يحدد أسعار الأعمال الفنيّة؟ من يقيّمها وكيف؟ هل السعر يحدد جودة العمل الفنيّ؟
هناك عدة عوامل تؤثر في أسعار الأعمال الفنيّة:
-
مقتني الأعمال: المعرفة الشخصية بين المقتني والفنان، والعلاقات ومدى اهتمام مقتني الأعمال بتسويق فنان دون آخر. وهذا جزء من عالم التجارة، أحيانا عمر الفنان الفنيّ، وكم الأعمال التي قد ينتجها لاحقًا نتيجة التقدّم في العمر.
-
أن يكون جاليري معنيًا ببيع أعمال فنان دون غيره.
-
وجود موقع انترنت خاص يعرض فيه الفنان أعماله ويبيعها بنفسه.
-
أحيانا تلعب الفرص دورها عندما يقوم أشخاص بشراء الأعمال خلال عرضها في المعارض.
دعونا نستوضح العلاقة بين المقيّم والمقتني.
يارا: بعض المُقتنين يتعاملون مع الفن كاستثمار، ومحبي الفن ليسوا بالضرورة قادرين على تحديد القيمة المادية للأعمال الفنيّة. المقتني الذي يملك معرفة يختلف عن المقتني الذي يتعامل مع الفن كاستثمار، وأحيانًا يكون الأول قادرًا على جعل الآخر يتخذ القرارات بشأن الأعمال التي سيستثمر فيها. هناك أعمال فنيّة قيّمة لا تباع.
دعاء: معظم الناس تفضّل شراء أعمال فنيّة سهلة الفهم بصريًا، لذلك تبقى الناس بعيدة عن أعمال قيّمة قد تكون صعبة الفهم والتحليل، نحن كمجتمع فلسطيني لدينا نقص في المقيمين والمقتنين.
لكن هناك أعمال فنيّة من نوعيات أو أحجام غير قابلة للاقتناء.
سمى: على كل فنان أن يسأل نفسه هل يعمل في الفن للتجارة أم من أجل الفن؟ هنا جاليريهات هدفها مفاهيمي وأخرى هدفها تجاري.
يارا: علينا أن ننتبه أيضًا للسياق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. هناك محبي الفن الذين ينحصر دعمهم على نوعية معينة من الفن، وهذه رغبات لا يمكن التحكم بها. من ناحية أخرى تقييد الفنان نابع من عدم الاستقرار السياسي، انعدام الدعم والمنح. نحن كمشروع “شاحنة برتقال” نحاول تشجيع الفنان على التحرر من القيود التسويقية والتجارية والعمل بحريّة، وأن يعرض أعماله حتى لو كانت فيديو أرت أو عرض أدائي، لكل فن جمهوره.
ألا تخشيّن من اقتناء الأعمال الفلسطينية من قبل جهات اسرائيلية بسبب كون “شاحنة برتقال” منصة انترنتيّة؟
يارا: لا مهرب من سؤال كهذا، وقد فكرنا في هذه القضية. من جهة نحن نؤمن أن للفنان كيان مستقل وهو صاحب القرار، ونحن في “شاحنة برتقال” نفتح المجال لكل فنان لعرض أعماله. كمنصة بيع؛ يهمنا أن يعرف الفنان من هو المقتني، وهذا معروف وشرعي. نحن سنحاول فهم كيفية بيع الأعمال دون تعريض الفن الفلسطيني للخضوع للملكية الإسرائيلية، نحاول التفكير في كيفية تفادي البيع لمؤسسات اسرائيلية، لكن بالمقابل علينا ألا ننسى أن الكثيرون من الإسرائيليين لديهم جوازات سفر أجنيبة أو أسماء لا تدل على قوميتهم بشكل واضح، أو يمكنهم الاقتناء عن طريق أشخاص آخرين! كل الموضوع شائك لكننا واعيات جدًا له.
الأعمال في “شاحنة برتقال” بصيغتها الاولى كانت متفاوتة جدًا من ناحية أسعار الأعمال. من قرر الأسعار؟ ولماذا هذا التفاوت؟ وهل ممكن أن تزيد الأسعار من الفجوة بين الجمهور والأعمال الفنية؟
يارا: نحن كمبادرة كانت عبارة عن رد فعل سريع للمشاركة في دعم أهالي القطاع تركنا عملية تجميع الأعمال وتسعيرها تتم بسرعة. من ناحية أخرى، من البديهي أن يكون تفاوت بسبب تنوّع الأعمال فالستيكرات، والكرافت، والتصميم الجرافيكي، والبلوزات المطبوعة لن توازي المنحوتات أو اللوحات. نضيف إلى كل هذا اسم الفنان وعمره الفني وخبرته وعدد النسخ من العمل وغيرها من العوامل.
سمى: هدفنا دعم الفنانين الناشئين لعبور سيرورة تدفع نحو زيادة الانكشاف وخوض تجربة تجعلهم يفهمون أكثر كيفية تقييم أعمالهم مع الأخذ بعين الاعتبار البيئة التي ستعرض فيها الأعمال للبيع.
هل كان هناك حوار مع الفنانين المشاركين عن إتاحة الفن أكثر للناس بعد هذه التجربة؟
يارا: العدوان كان صعبًا جدًا نفسيًا على الجميع. بعد الحملة الأولى كنا بحاجة للراحة والتعافي. حاولنا دراسة النتائج بعد ذلك.
دعاء: توصلنا للنتيجة بأن الناس تريد اقتناء الفن، لكن معظم الشعب الفلسطيني من ذوي الدخل المحدود الذي يجعل الاقتناء محصورًا في نوعية أعمال معيّنة، ولا زلنا نفكر في كيفية الإتاحة.
سمى: التوجه في الحملة الأولى كان يهدف للوصول لاي شخص بدون تحديد. كل فنان شاركنا التجربة قدّم عمله لهدف إنساني بدون التفكير في جمهور هدف، لم يفكر أحد منا بأن الأعمال ستعرض للنخب، من ناحية أخرى فالفنان الذي يضع سعرًا عاليًا لأعماله يعرف تمامًا أن هناك جمهور محدد لفنه ولم يكن اختياره مجرد مغامرة.
هل ستعمل “شاحنة برتقال” بحلتها الجديدة على تطوير مفهوم التقييم المادي للأعمال الفنيّة؟
فكرنا كثيرًا في من يستطيع تقييم العمل الفني ماديًا. نحن لا نريد فرض تقييدات على الفنانين حول عرض أعمالهم وتسعريها على المنصة. لكن من جهة أخرى هناك تخطيط لحملات خيرية سنوية ستكون فيها ستكون مساحة أوسع للنقاش حول تحديد أسعار الأعمال الفنية كي نشجع بيعها لأنها ستخدم هدفًا إنسانيًا.
ما هي أبرز التحديات التي يواجهها مشروع يقدّم لأول مرّة في الداخل الفلسطيني؟
يارا: نحن نعرف أنها مبادرة فريدة من نوعها، لكنها نابعة من حاجة الفنانين لكسر أنماط معينة والعمل بمساحات حرة. نتأمل أن تتطور المساحة من ناحية أرشفة الفن الفلسطيني أولًا، نريد تثبيت وجود الفن لغرض تاريخي إنساني وليس مادي فقط، وهذا تحدٍ كبير.
سمى: التحدي الآخر هو رغبتنا في وجود فن مستدام في كل بيت وهذا مهم سنعمل عليه في المنتدى من خلال ندوات ومحاضرات وحواريات مفتوحة للجمهور وليست محصورة بالفنانين فقط.. نريد أن نأخذ دورنا في التثقيف وتذويت الثقافة الفنية.
دعاء: وجود فن فلسطيني في كل بيت يعني أن ينتج الفنان وأن يتمكن من بيع أعماله وأن يعتاش من فنه. “شاحنة برتقال” هي فرصة لتطوير الفن والفنانين رغم كل المعيقات والصعوبات السياسيّة والماديّة والمجتمعيّة، هي فرصة أن يتمتع الجمهور بمشاهدة الأعمال الفنيّة والتعرّف عليها ليبقى الأمل موجودًا بأننا شعب حيّ ومُنتج يستمتع بخيراته ويصدّرها للعالم.