تصادف هذا الأسبوع الذكرى الخامسة والسبعون لاحتلال بلدتي ترشيحا على أيدي القوات الصهيونية في ٣٠ تشرين الأول عام ١٩٤٨. فقد أبدى أهالي ترشيحا، التي بلغ عددهم حوالي خمسة آلاف نسمة، وغيرها من القرى الفلسطينية المجاورة في الجليل الغربي، مقاومة باسلة استمرت حوالي ثمانية أشهر. فقد اجتاحت القوات الصهيونية الجليل واحتلت مدينتي حيفا وعكا من الغرب ومدينتي طبريا وصفد من الشرق في نيسان وأيار عام ١٩٤٨، وقامت بتهجير قسري لسكانها. وعلى أثر ذلك أصبحت ترشيحا أحد المعاقل الرئيسية الأخيرة للمقاومة في الجليل. وقد شكل الأهالي سرية، أو ميليشيا شعبية، للدفاع عن البلدة ولمقاومة توغل القوات الصهيونية. وقد انضم والدي كامل محمود هواري (٢٢ عاما حينذاك) إلى السرية، مثله مثل مئات شباب البلدة. وكان سلاحه عبارة عن بندقية “إنكليزية” اشترتها له جدتي عائشة بعد أن باعت صيغتها الذهبية، كما فعلت العديد من نساء البلدة. وبمساعدة فرقة من جيش الإنقاذ العربي، الذي قدم إلى فلسطين في أيار ١٩٤٨، والمكون من مقاتلين متطوعين من سورية والأردن والعراق واليمن، نجحت السرية في صد هجمات القوات الصهيونية المتكررة الآتية من منطقة الساحل.
وبعد أن فشلت في إختراق دفاعات البلدة مرات عديدة، لجأت القوات الصهيونية إلى قصف جوي مكثف للبلدة وقرى مجاورة أخرى في ٢٨ و٢٩ تشرين الأول عام ١٩٤٨. وبحسب مصادر إسرائيلية، تم استخدام طائرات أمريكية الصنع من طراز “بي-١٧”. وتم التعرّف لاحقاً على أحد الطيارين الصهاينة الذي قصف ترشيحا وهو إيبي ناثان، واشتهر فيما بعد بكونه “ناشطاً للسلام”. وأسفر القصف الذي استهدف البيوت السكنية إلى قتل العشرات من أهالي البلدة، معظمهم من النساء والأطفال والعجزة، فيما كان معظم الرجال على الجبهة، وعلق العديد منهم تحت ركام البيوت المهدمة رغم محاولات الأهالي إخراجهم بأياديهم بوسائل بسيطة. وأصيب بيت عائلتي إصابة مباشرة بقنبلة ضخمة أدت إلى قتل أحد عشر فرداً، من ضمنهم زوجة والدي الأولى الحامل سعاد (٢٠ عام)، وابنها محمد (سنتين)، وعمتي فوزية (١٧ عام)، وزوجة عم والدي خديجة هواري (٣٨ عام) وطفليها، إضافة إلى جدة والدي مريم قدورة (٦٥ عام)، وابنتها هدى خليل قدورة (٢٦ عام) وأطفالها الثلاثة الذين لجأوا من صفد بعد احتلالها. كما وأصيبت عمتي فاطمة (١٨ عام) بجروح بليغة، حيث أخرجت من تحت الأنقاض، وقضت معظم حياتها مقعدة وتتعافى من العمليات الجراحية حتى وفاتها. ونجت عمتي فتحية (٨ سنوات) بأعجوبة من هذه الكارثة بعد سحبها من الركام دون أية إصابة.
وأعقب القصف الجوي هجوم بري للقوات الصهيونية نتج عنهما تهجير قسري لغالبية سكان البلدة شمالاً إلى لبنان وسورية. ولجأ غالبية السكان بداية إلى عدد من القرى في جنوب لبنان، ومن ثم تمّ نقلهم إلى مخيمات مخصصة للاجئين ترعاها الأمم المتحدة في لبنان، ولا سيما إلى برج البراجنة بالقرب من بيروت. كما وتم نقل أعداد كبيرة منهم بواسطة القطارات من مدينة صور إلى مخيمات في أنحاء مختلفة من سورية، ولا سيما مخيم النيرب بالقرب من حلب، الذي شغل معسكراً للجيش الفرنسي، وما زالوا يعيشون فيه حتى الآن. وقد لاقت أكثر من خمسمائة مدينة وقرية فلسطينية مصيراً مشابهاً خلال النكبة عام ١٩٤٨، في إطار إحدى أكبر عمليات التطهير العرقي والاستيطان الاستعماري التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية.
هذا وقد لجأت عائلتي المصغرة إلى قرية مجاورة، أسوةً بعدد من العائلات. وأدرك جدي محمود في حينه أنه لو غادروا خارج حدود فلسطين فلن يستطيعوا العودة بتاتاً. واستطاعت العائلة البقاء حيث حصل أفرادها على بطاقات من الحكم العسكري الاسرائيلي تثبت مشاركتهم في إحصاء السكان بعد الاحتلال. وبعد سنة من المحاولات المتكررة نجحت عائلتي وغيرها من العائلات بالعودة تدريجياً إلى ترشيحا. وسمح لغالبية العائلات المسيحية بالعودة إلى البلدة بعد تدخل الفاتيكان وبطرك الكنيسة الكاثوليكية. كما وتمكن عدد من الأفراد والعائلات من العودة عبر الحدود التي ما زالت مفتوحة بين فلسطين ولبنان رغم مخاطر التعرض للقتل أو للإبعاد والتهجير مرة أخرى. وقد جلبت السلطات الإسرائيلية مستوطنين يهود من رومانيا وبلدان المغرب العربي للاستيطان في ترشيحا، وسكنوا في بيوت سكانها المهجرين إلى أن تم نقلهم إلى مستوطنات أقيمت على أراضي البلدة، أهمها معالوت. كما واستقر في البلدة عدد من عائلات اللاجئين القادمين من قرى مجاورة تم تفريغها من سكانها وبناء مستوطنات يهودية مكانها. وقد منحت القلة الباقية من سكان البلدة المواطَنة الإسمية في الدولة اليهودية الجديدة، وفرض عليهم وسواهم من الفلسطينيين الباقين في وطنهم حكم عسكري قمعي لمدة عقدين من الزمن إلى أن ألغي عام ١٩٦٦، ليتم فرضه على الضفة الغربية وقطاع غزة بعد احتلالهما عام ١٩٦٧.
ويحيي أهالي ترشيحا في الوطن والشتات ذكرى “يوم ترشيحا” كل عام منذ عقدين، بكونها ذكرى للمقاومة والاحتلال والتهجير القسري. وجرت العادة خلال هذه المناسبة تنظيم مسيرة شعبية حاشدة تجوب شوارع وأحياء البلدة، ووضع الأكاليل في المواقع التي سقط فيها الشهداء، وتنظيم عروض فنية وموسيقية من تراث ترشيحا ومحاضرات عن تاريخها. كما وتلقى الكلمات التي يجدد فيها المتحدثون العهد على انتمائهم للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، والتأكيد على الحق القانوني والإنساني لأهالينا المهجرين في مخيمات اللجوء وبلدان الشتات بالعودة إلى بلدتهم ووطنهم، والحفاظ على ذاكرتنا الجماعية من الضياع من خلال تعريف الأجيال الشابة على تاريخ بلدتنا وروايتنا، وتحميلهم رسالتنا العادلة: أننا أهل هذه البلاد الأصليين، وجذورنا فيها عميقة تعود إلى آلاف السنين، وأننا باقون فيها.
وتحِلّ ذكرى احتلال ترشيحا الخامسة والسبعون هذه السنة في ظروف أليمة وعصيبة أكثر من أي وقت مضى نشهد فيه مرحلة وحشية غير مسبوقة من التطهير العرقي في فلسطين. وحتى كتابة هذا المقال، فقد أسقطت قوات النظام الإسرائيلي قنابل على قطاع غزة خلال أربعة أسابيع أكثر مما أسقطته القوات الأمريكية الغازية على أفغانستان خلال سنة كاملة. ومدى الدمار والقتل فظيع للغاية. إذ يستهدف القصف الجوي العشوائي والمبرمج لآلة الحرب الإسرائيلية البيوت والعمارات السكنية والمستشفيات والمدارس والبنية التحتية. وقد أسفر ذلك حتى الآن إلى قتل أكثر من تسعة آلاف من المدنيين الأبرياء، من بينهم حوالي أربعة آلاف من الأطفال، وبضعة آلاف من السكان ما زالوا تحت ركام بيوتهم، وإجبار السكان إلى النزوح عن بيوتهم في شمال القطاع إلى مناطق أخرى في جنوبه ليتعرضوا مرات أخرى للقصف والقتل. وقد صنّفت الأمم المتحدة ومنظمات أممية لحقوق الإنسان هذه الممارسات على أنها إبادة جماعية وارتكاب جرائم حرب متعددة ضد المدنيين الأبرياء، من ضمنها قطع المياه والكهرباء والوقود والطعام وغيرها من مستلزمات الحياة عن أكثر من مليوني نسمة. ويتعين علينا أيضاً أن ندرك أنّ ما نشهده اليوم من ممارسات يندرج في المخطط الصهيوني الذي يهدف إلى تطهير عرقي لفلسطين التاريخية من سكانها الأصليين. إن قصف ترشيحا عام ١٩٤٨ والقصف العشوائي المتواصل لغزة عام ٢٠٢٣ ما هو إلا استمرار لمسلسل التطهير العرقي الذي بدأ قبل خمس وسبعون عاماً.