أبدأ معك من السؤال البسيط المركّب: أن تكتب أدبًا من قلب غزة، المكان الذي حوّله الواقع إلى أسطورة. في نظرك ككاتب فلسطينيّ خارج-داخل هذا الواقع الأسطوريّ العبثيّ، ما جدوى الكتابة من قلب هذا المكان، أولا؟، وهل تعتقد أنّ الكتابة قادرة على إصلاحه أو إعماره روائيًا أو شعريًا؟
الكتابة فعل جنون، أو بإمكانك اعتبارها فعل انتحار في مكان مثل قطاع غزة، الكتابة فعل جنون، أو بإمكانك اعتبارها فعل انتحار في مكان مثل قطاع غزة، اذ ان الانسان يعيش واقعا مهزوما نتيجة عوامل كثيرة مرتبطة بهذه المدينة، التي لم نختر العيش فيها، ولم يكن لنا في تقرير مصيرنا شيء تجاه هذه الأسطورة التي يصعب الخلاص منها، لذا بات الكاتب محاصرًا بهمومها التي تخلقت بفعل الاحتلال وعوامل أخرى ارتبطت بوجوده.
ولأن المثقف ابن بيئته لم يكن من السهل تجاهل قضايا المجتمع العامة والخاصة، لذا بت مرتبطا بشكل لا إرادي في سيناريو حياة المخيم أنقل هموم العامة إلى العالم من خلال القصة والرواية، ولكن بشكل غير كلاسيكي تقليدي، فأنا لا أكتب القصة التقريرية أو الصحفية، أو المقالة التي تنتهي بانتهاء الحدث، كذلك لا أكتب بلغة المخيم أو المدينة وإنما أسعى أن أكتب باللغة التي يفهمها العالم، وهي عولمة النص من خلال أنسنته والتركيز على قضايا حساسة يهاب الكثير من الأدباء الاقتراب منها، قضايا لا تهتم بالموت كنهاية لحياة الإنسان وإنما بداية لوقائع فنتازية أخرى تناقش المسكوت عنه في الأدب والحياة الفلسطينية. الكتابة هي الجدوى وما دونها بحاجة لمراجعة، لأن الكلمة هي الأسطورة والتاريخ الخالد، الذي لا يمكن أن يتجاوزه الزمن، هي الرسالة القوية في مواجهة كل قوى الظلم، حيث للأديب أن يدافع عن حقوقه في وجه تغول الاستعمار في أي مكان، وكذلك الاحتلال.
العمل الأدبي أو حتى الفني أو السينمائي لا يمكن أن يصلح ما أفسده الساسة على الأرض بهذه السهولة، فنحن نرسم ممالكنا في الخيال بينما يعيش الطغاة في رغد من العيش على الأرض، يستثمرون كل شيء لتحقيق مصالحهم الشخصية والحزبية أو الكولونيالية الاستعمارية في نطاقها الشمولي. إلا أن هذا لا يجب أن يدفعنا إلى الركون أو الانزواء، إنما الكفاح والنضال من أجل تحقيق التنمية المستدامة وتحقيق الحرية والوعي من براثن الاحتلال وأدواته، وكذلك من براثن الجماعات الراديكالية أو زبانيتهم الذين يعيثون فسادا في الأرض العربية باستخدام الدين أداة. التغيير قادم، عاجلا أم آجلا، في مكان يسمى غزة، لأن الجيل الجديد واعد يستثمر العولمة لبناء الوعي تجاه الاختلاف حتى في رؤيته للتحرير.
يسري، أنت من مواليد العام 1980. تواجدك في المكان الفلسطينيّ القاسي والأكثر ايلاما، غزة، كان له أكبر الأثر في تشكيل وعيك الأدبيّ مراحل، تبدو واضحة في تدرّج عناوين أعمالك الأدبيّة وتنوّع مواضيعها وأساليبها في حالة من القلق الواعي داخل المكان المحاصِر والمحاصَر، والسعي نحو فضح المسلّمات وصولا إلى انتصار الذات على هذا المكان. فأي مراحل عشتها في قلب المكان إلى أن وصلت إلى “جون كينيدي يهذي أحيانًا”؟
في مدينة تضيق على ساكنيها، وفي بيت ال يتجاوز 45 متر مربع ولدت، جئت إلى الدنيا بينما كانت أمي تغسل ملابس الأب الذي انطلق بها إلى عيادة وكالة الغوث على أطراف مخيم الشاطئ بغزة، ولأنني جبلت من طين المخيم، المكان الذي لا يمكن اعتباره أسطورة بالنسبة لي أو حتى جنة كما يظن البعض، إنما قطعة من جحيم لا لون فيها غير الأسود، كبرت وترعرعت وصرت شابا يافعا أتمرغ في وحل تناقضاته، فما بين مراحل الحياة الأولى والاندماج مع رفاق المسجد الذي فتح لنا الأبواب لنقرأ القرآن ونتقن العربية، وصولا الى رفاق الفكر اليساري المختلف أثناء المرحلة الثانوية والجامعية لنقرأ ماركس وإنجلز ولينين وهيجل ونيتشه، ثم العلماني الليبرالي الذي جاء مع بداية سفري إلى أوروبا ثم الولايات المتحدة الأمريكية ومنها إلى مؤتمرات وبرامج حول تحالف الحضارات في أذربيجان وماليزيا وغيرهما، أدركت أن المخيم لم يكن سوى سجن يضيق بأهله، وأن غزة قمقم لا يعرف الواحد معنى الحرية إلا إذا طار بعيدا عنه. مجموعة أفكار وتناقضات ومواقف، بصحبة أصدقاء مختلفين فكريًا وانسانيًا، وفي عوالم متباعدة مختلفة تشكلت رؤيتي الجديدة، التي أظن أنها بدأت مع مجموعة الموتى يبعثون في غزة بخلاف المجموعتين القصصيتين السابقتين: على موتها أغني، وقبل الموت بعد الجنون، الصادرتين عن مركز أوغاريت للنشر والترجمة في رام الله في 2007 و2010. ولأنني مؤمن بأن التغيير هو الثابت الوحيد في حياة البشرية، كان لا بد من انتهاج مجموعة مدارس وأفكار سعياً نحو صناعة المدرسة الخاصة بي، لذا ستجدينني أحاول في كل عمل أن أذهب بعيداً عن سابقاته، لغة وأسلوباً وكذلك في طرح الجديد من الأفكار، وصولا إلى جون كينيدي الذي قررت فيه إعادة تغيير المشاهد التي حفظتها البشرية أثناء اغتيال شخصيات مثل كينيدي ونيرودا وإلينيدي وجيفارا ورابين وأبو عمار وأحمد ياسين وغيرهم، ذلك لأن الحقيقة وصلت -بالتأكيد- منقوصة أو غير واضحة، حسبما يريد للسيناريست أو صانع الحدث لها أن تصل؛ فأنا مؤمن أن التاريخ محض كذبة كبيرة، يكتبها جلاوزة الحكام والأقوياء، فكانت لدي رغبة بإعادة صناعة التاريخ بشكل فنتازي مختلف في مقهى داخل الجنة، بجوار نهر الكوثر وشجرة التفاح التي التهمها آدم برفقة حواء.
أنت أيضًا لاجئ من مخيّم الشاطئ. وللجوء في المخيلة الجمعيّة الفلسطينيّة الراهنة معنى أكثر عمقًا من أي وقت مضى في عشريّة الثورات العربية. معنى يتّخذ سرديّة خاصّة بالفلسطينيّ لكنّه يتماهى مع سرديّة اللجوء العربيّ. ما بين اللجوء الفرديّ، واللجوء الجمعيّ، هل ينجح الأدب العربي، والفلسطينيّ بشكل خاصّ، في خلق وتشكيل أساليب تعبير جديدة تواجه هذا الواقع الجديد؟
لم يعد يقتصر اللجوء على الفلسطيني، ولم يعد مكان اللجوء أو حتى النزوح مقتصرًاعلى البلدان العربية أو الإنسان العربي، فهناك الافريقي الذي يهرب من جحيم الفقر والموت إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية أو إلى دولة الاحتلال الاسرائيلي، كما بات يهرب السوري إلى أماكن أكثر رأفة، وكذلك العراقي والليبي والفلسطيني وغيرهم، لذا فإن ثيمة اللجوء والهروب من الوطن لم تعد خاصة بالفلسطيني المتخم بويلات الحروب، بل بكل شرقي أو إفريقي في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا وأمكنة أخرى غارقة في الوحشة. ويمكن للمتابع للأدب العربي الحديث أن يكتشف كيف تأثرت الأمة بجحيم الأنظمة الشمولية ووعاظ السلاطين والجلاوزة الذين قمعوا الرأي والفكر المختلف، حتى جاءت الثورات التي لم تكن منظمة ولم يكن المجتمع العربي بعمومه مؤهلا لممارسة الديمقراطية كما يجب، لذا فإنها فشلت فشالً ذريعا فنجحت الثورات المضادة وعادت الأنظمة السابقة أكثر قمعا وإقصاء، يدفع المواطن ثمن تلك الطموحات التي تبنتها المعارضة من أجل مصالحها الخاصة بينما كان المواطن العادي يسعى من خاللها تحسين شروط العبودية في الوطن العربي الكبير.
الهجرة باتت سبيلا للخلاص، حتى لو قضى الشخص وأبناؤه في البحر، بدلا من انتظار الموت عبر قذيفة من الاحتلال الاسرائيلي أو رصاصة طائشة بالنسبة للفلسطيني، أو من طائرة روسية تقع على رأسه وعائلته بالنسبة للمواطن السوري، أو طائرة أمريكية بالنسبة للعراقي أو الحرب الأهلية السودانية أو اللبنانية ووو.
لدينا اليوم كتّاب المهجر من العرب مثل سنان أنطون ومحسن الرملي وحسن بلاسم ومازن معروف وأسماء أخرى كبيرة، كما أن لدينا مثل خالد حسيني الأفغاني، وأسماء بمداد البحر عملت على تغيير نمط وأسلوب وعوالم الرواية والقصة العربية والعالمية نتيجة الاندماج مع مجتمعات ذات فكر وأسلوب مختلف، فالهجرة عملت بالفعل على خلق وتشكيل أساليب تعبير جديدة تواجه هذا الواقع المرير، ركزت على الحدث والحبكة أكثر من تركيزها على اللغة التي كانت عقدة العربي المتخم بعلم البلاغة والبيان.
وكنت قد أصدرت قبل عامين رواية مشانق العتمة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، وتدور أحداث الرواية عن شخوص من أماكن مختلفة تهاجر على متن قارب مطاطي ثم تموت في عرض بحر إيجة، ليس بفعل الطبيعة كما ذهب كثيرون لختام أعمالهم الروائية من قبل، وإنما بسبب وجود شخصية مثل هتلر القاتل، المحقق السوري الهارب من صراع الأجهزة الاستخباراتية هناك، فقد أصبح ديلر لتهجير الهاربين من الموت إلى اليونان من خلال تركيا، حيث يطلق النار على ذلك القارب المطاطي لأنه لم يقدر على إقامة علاقة جسدية كاملة مع هاجر الفلسطينية التي تشبه زوجته الغائبة.
أنتقل معك إلى حذافير العمل الأدبيّ. شخوص نصوصك القصصية يموضَعون دائمًا في سؤال الهوية-الهويّات لكنّ نصوصك السرديّة مكتوبة بهالة سرياليّة ديستوبيّة لكنّ النصّ الواحد يهاجر إلى أكثر من أسلوب فتجد فيه الكوميديّ والغاضب والتراجيديّ والقوطيّ إلخ. ضغط من تقنيات سرديّة مدوّخة تحرّك النصّ بسرعة مشهديّة فائقة أحيانا تكون عصيّة على الفهم. أهيَ محاولة ابتداع الممكن الخلاق في المكان المستحيل، أم أنّ مقولةً حول الراهن والمستقبل باتت أسيرة الدستوبيا فعلا؟
سبق وأن تحدثنا عن إشكالية الأدب الفلسطيني حسب وجهة نظري المتواضعة، وهي صناعة البطل في الرواية، ومحاولة إظهار الفلسطيني بثوب المثالي العظيم، السوبر هيرو الذي يتحلى بكل آيات الاخلاق الرفيعة، وهذا ما كنت أصطدم معه في معظم أعمالي وأسأل نفسي: هل الفلسطيني بالفعل يوتوبي مثالي لا شبيه له؟ هل يجب أن نحصل على حريتنا لأننا كذلك؟ وماذا لو كان الفلسطيني ديستوبيًا؟ هل الوطن يستحق الأنبياء فقط؟ لأجل ذلك قررت تشكيل الفلسطيني العادي، العادي جدًا، الذي يخطىء ويرتكب الخطايا ايضًا، ولكنه رغم ذلك يسعى لنيل الحرية، وهو حق كفلته القوانين الإلهية والبشرية.
نحن لسنا سوى شيطالئكيين وليس كما تم تقديمنا في الأدب الفلسطيني إبان الثورة والانتفاضات اللاحقة في مواجهة الاحتلال. لذا كان لا بد من طرق جدران الخزان، وتحديث الرؤية للقارئ العربي والعالمي في شتى أصقاع العالم من كون الفلسطيني ملوث بالخطايا والمصائب كما أنه نقي السريرة وعظيم الكرم والأخلاق، هو الإنسان بكل صفاته وتناقضاته، فقد تجده يمارس القتل والقمع والاستعباد والعلاقات الجسدية غير الشرعية، وقد تجده يستغفر ويحسن الى الآخرين ويموت لأجل كرامة امرأة. هو بشري الصفات والطباع مثل أي فرد في مجتمع متنوع، فالأخيار والأشرار موجودون في كلّ زمان ومكان، وفي كلّ دين ومذهب، وفي كل جنس ولون، لذا فإنّ الهوية بالنسبة لي أسمى وأشمل من حصرها بجنس أو دين أو لون أو حزب سياسي أو حتى انتماء لوطن أو أمة، ورغم ذلك فإن الهدف العام هو المطالبة بالحقوق المدنية للفلسطيني في كل مكان من الوطن والمهجر.
أما على صعيد التقنيات السردية، وبعد هذا العمر بين الكتب، وقراءة المختلف من ثقافات وآداب الآخرين حول العالم، أدركت أنه لا يجب الالتفات إلى النقاد أو أي مدرسة نقدية موجودة، إذ إن هناك ذائقة مختلفة ورؤية جديدة لي شأني شأن كثيرين اليوم، أؤمن أنني قادر من خلالها على صناعة مدرسة جديدة، بدأت ملامحها مع الموتى يبعثون في غزة، وصرت أسعى فيها جاهداً أن أبتدع الأفكار التي يمكن أن تدهش القارئ في ظل استهلاك الأفكار التي لم يعد بد من تحديثها بما يتناسب مع الواقع والأدوات الجديدة في ظل عولمة جعلت من الثقافة هجين وخليط مركب من ثقافات وعادات وتقاليد متنوعة يسعى للاندماج خلالها في عالم هائل التنوع. وهذا هو ما جعلني أتلاعب بالنص كيف أريد دون الاهتمام برأي أحد، لأنني ربّه والمتصرف بأحوال أبطاله وبطريقة العرض التي أشعر أنها تنسجم معي ثم مع قارئي المثقف وغير العادي، وللتاريخ الحكم؛ فهو الكفيل بإبراز وتثبيت الأصلح والأقدر على تجاوز معضلة الزمن، فالبقاء للأٌوى والأقدر على الإبهار وصناعة الدهشة على الدوام.
على الرّغم من ولوجك عالم القصة القصيرة وتركيزك عليها منذ البدايات، إلا أنّك تصدر عام 2021 رواية مشانق العتمة، الرواية التي طرحت بقسوة واقعيّة ثيمة النجاة من الواقع بالهروب الى اللجوء والتماهي مع الواقع بالبقاء فيه وفي كلتا الحالتين هناك ثمن باهظ لا بدّ من دفعه. تجربتك مع كتابة الرواية هنا استثناء بارز في سيرتك الأدبية في الأسلوب وفي اتساع الرؤية. فماذا أضاف التوجه لكتابة الرواية لتحديد عبث هذا المشهد العربي الفلسطيني؟
كاتب القصة يسهل عليه كتابة الرواية، خصوصاً مع تعلم اختزال الكلام، واقتضاب الجمل، والتركيز على الحدث وصولا إلى الحبكة أو الحبكات المطلوبة، فالرواية ذات مساحة أوسع لتقبل الخطأ من القصة التي يظهر عوار الكاتب فيها بسهولة، لأن القصة لا تحتمل الثرثرة. واليوم مع تطور الكتابة بدءاً من رواية الأجيال ذات الحجم الكبير أو األج ازء المتتالية، وصولا إلى الرواية القصيرة التي تهتم بالحدث على حساب اللغة وأدوات أخرى كان لا بد لي من ولوج عالم الرواية، خصوصاً أن العالم للأسف ترك الشعر جانباً ثم تجاهل كتابة القصة القصيرة والمسرح وبات يركز على الرواية ويصنع لأجلها الجوائز العربية والعالمية، ولكن ربما ويأتي زمان نستعيض عن الرواية بنوع جديد من الأدب، وسنضطر أن نصنع قوالب تتماهى مع المانح والممول وما يرضي الناشر.
وبالعودة لسؤالك، فقد سبق ونشرت رواية غزة 87 التي صدرت عن مكتبة سمير منصور في غزة عام 2018، ثم صدرت عن دار ميم بالجزائر لاحقًا في بداية 2021، ورواية مشانق العتمة، التي صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت نهاية 2021، والآن أنتهي من كتابة رواية جديدة أظنّ أنها محاكمة لتاريخ فلسطيني سابق، إذ يجب أن نكون أكثر جرأة في محاكمة أنفسنا تجاه كثير من القضايا المفصلية في تاريخ الوعي الفلسطيني، مثل حرق دور العرض ودور السينما ومكتبة الهلال الأحمر وغيرها، بالإضافة إلى محاكمة الفلسطيني تجاه الانقسام والعمل الوطني بشموليته. وكنت قبل كل هذه الأعمال قد كتبت روايات ثم هجرتها لأسباب عديدة، حيث كنت أشعر بانتمائي للقصة أكثر منها للرواية، خصوصاً أن القصة عالم خلاب، مجنون، جامح في الخيال، بخلاف الرواية التي غالباً ما ترتبط بوقائع تنحو بالكاتب إلى السير في ذات الطريق لأتمام وسبر أغوار الأحداث التي تحاكي واقعاً بعينه.
كل كاتب يمكن له أن يضيف ما يشاء من مكونات اللغة التي يشعر باستحسان الضيف لنكهتها. ولعلي مؤمن بأن الكتابة تحتاج لمجنون يتجاوز القوالب المعتمدة في كتابة الرواية أو القصة ليصنع قالباً جديداً أو مدرسة يلتحق فيها لاحقا الآخرون. وأختم أن الرواية حاولت تسليط الضوء بشكل موسع على قضايا الواقع المحلي والواقع العربي لأجل طرق جدران الخزان من أن القاع قد اكتظ بالحمقى ويجب تدارك المصيبة التي حلت بالعربي قبل أن تتحول المصيبة إلى كارثة ذات حجم أعظم وأكبر لا ينتهي إلا بانهيار الحضارة والانسان. الرواية والقصة والمسرحية هي التي تتنبأ وتستشرف المستقبل لأن الأدباء هم الأقدر على قراءة المشهد بوضوح.
في سياق سؤال الحريّة والكتابة داخل المكان الضيّق-الواسع في نفس الوقت، وداخل معيقات ثقافيّة-اسلاميّة- حداثويّة-أعرافيّة-اجتماعيّة. كيفَ ترى إلى صراعكَ ككاتب من غزّة مع قلق الكتابة الحرّة في هذا السياق وما هي تحدياتك على المستوى الشخصيّ مقابل تحديات المشهد الأدبي الثقافيّ ككلّ في ذات المكان؟
ليس من السهولة بمكان الحديث عن الظروف السيئة التي يعيشها الكاتب الفلسطيني في قطاع غزة أو حتى الضفة الغربية، الفلسطيني أو حتى العربي المحاط به أدوات الأنظمة الشمولية التي تضرب بيد من حديد كل من يخالف الزعيم أو جلاوزة القائد المفدى. وربما أكثر ما يبهج الكاتب أن الاجهزة الأمنية لا تقرأ غالبا ، والزعماء لا يفعلون ذلك أيضاً، فالقراءة ليست ذات جدوى فيمن امتلك الأرض ومن عليها. الصراع لا يتوقف، الصراع داخلي نتيجة عوامل مرتبطة بالخوف من الرقيب وأزلامه، ومن المجتمع المدجن بتأثيرات راديكالية، وجيش من الحاقدين الذين يعتقدون صوابيتهم في كل شيء، وما دونهم الخطأ الكامل.
الكاتب الفلسطيني مسكون بالرهبة والخوف من خسارة نفسه أو راتبه أو سمعته لأن الناس لديها مشكلة مع إدراك أن الكاتب لا يكتب نفسه وإنما ينقل صوت الآخر، فالناس حتى المثقف منهم يسعى لإسقاط شخصيات أي عمل أدبي على الكاتب كجزء من التأويل البيوغرافي، فكيف يمكن لكاتب حينها أن يتحدث بحرية عن المثلية أو العلاقات الجسدية أو حتى الخيانة أو الغدر.
البطل في السرد الفلسطيني التقليدي هو بطل نموذجي مكرر ويتحرك ضمن صراعات وأطر واضحة ومحددة مسبقا. بطل عضوي منخرط في قضيته الكبرى. أما أبطالك فهم انسلاليون إلى حد التحول، في كل فقرة تقريبا تجدهم كائنات جديدة وكأنهم في حالة رفض للثابت، ورغبة متواصلة في التكيف مع واقع متغير. ما الذي تحفر فيه ويختلف عن مجايليك ومن سبقوك في المشهد الأدبي الفلسطيني من خلال هذه النماذج الانسلالية المتحولة؟
الثابت الوحيد في هذه الحياة هو مبدأ التغيير، فالإنسان قد يغير دينه أو مذهبه كما نسمع من اعتناق مسيحي للإسلام أو بوذي للمسيحية أو سني إلى الشيعية أو أي اتجاه آخر. وهذا شيء يفوق الخيال، فما بالك بقضايا أخرى أكثر ليونة، كأن يحب الطفل شيئا ثم يعزف عنه حين يكبر، ويحب المراهق شيئا ثم يكرهه حين يكبر، والراشد البالغ حين ينضوي تحت لواء فكر أو حزب أو جماعة، فلا مسلمات باختصار في هذه الحياة إلا ما تسعى إليه النفس، ومهما حاولت الأديان أو المذاهب، أو الجماعات والدول، أو الأحزاب والفرق من تدجين الإنسان نحو رؤية بعينها، إلا إنه في لحظة سيتمرد على ذلك الشيء ولو في الخفاء. وهذا ما دفعني لرفض فكرة الفلسطيني البطل، المثالي الخارق الذي لا ند له، فهو بشري الطباع، يخطئ ويصيب ويرتكب الأخطاء، يحب ويكره، يصلي ويكفر، يصوم ويفطر، يضحك ويبكي، خليط من المتناقضات الطبيعية في إنسان مجبول على ذلك.
لذلك يمكن للفلسطيني الفدائي أن يرتكب حماقة وينتصر لذاته في مصلحة شخصية، أو يقتل رفيقا لأجل زوجة أو ينتقم من جار لأنه يرغب بالاستيلاء على بيته، ويمكن له فعل الكثير. لكن هذا لا يعني أن الفلسطيني ملوث بالخطايا وحده، بل كل بشري جاء إلى الدنيا أصابه شيء من أدرانها، بدءا من قابيل وصولا إلى آخر رجل على هذه البسيطة، اللهم إلا من عصمهم الله.
ولكن رغم كل هذا العبث، هل يجب على الفلسطيني أن يتوقف عن النضال؟ وهل يجب على العالم أن يدعم الاحتلال الإسرائيلي الذي يوغل قتلا في الفلسطينيين لأن الفلسطيني غير مؤهل لممارسة الحرية والديموقراطية؟ بالتأكيد لا، لذا كان لا بد من أن أقول إن الفلسطيني العادي جدا يسعى لنيل الحرية شأن أي إنسان في هذا العالم وسينتصر إن امتلك الوعي الحقيقي بأهمية النضال السياسي والدبلوماسي والفكري والثقافي والعلمي أيضا.
ونماذجي لن تكون من نسل الأنبياء، فهم شيطلائكيون، لكنهم في النهاية لديهم رؤاهم ومواقفهم وقضاياهم التي تشغلهم ويبحثون من خلال حروفي وأعمالي الأدبية عن إيصال صوتهم المقموع إلى العالم، سعيا نحو الحرية والاستقلال، ومطالبة الاحرار بالتحرك لإيقاف الدم الذي يسهل على الإسرائيلي إهراقه لأن الفلسطيني رخيص الثمن عند الحكومات والمنظمات العالمية، ولأن العربي منشغل بقضاياه عن قضية فلسطين المركزية.
الرغبة والغريزة والفردوس المفقود. قصص في مجموعتك القصصية نساء الدانتيل تخترق عوالم المقهورين والمقموعين والمكبوتين، وتوهَب فيه الأنوثة الموءودة صوتًا مركزيًا ومعها أيضًا تنكشف الحساسيّات والتعقيدات الدقيقة لحرب الذات مع نفسها بصفتها آخر قبل ذاك الآخر المفترض مسبقًا. المكان لا يزال في قماطه لم يتحرر من حصاراته ولا من ثقافته البدائيّة. المكان يحتلّ نفسه ويعنف نفسه.
سؤالك يجعلني أقف وأتمعن في الكلمات والجمل مرات ومرات، خصوصاً وأنك شخص يقرأ ويكتب ويترجم، صاحب تجربة كبيرة، ولكن باختصار فإن نساء الدانتيل كانت تمثل لي تجربة جريئة في مجتمع يرفض البوح بكثير من المصائب التي تحدث نتيجة الاحتلال والحصار والفقر والجوع والحرمان، ونتيجة توجه المجتمع نحو الفكر المتشدد في كثير من القضايا الدينية والمجتمعية، الأمر الذي يتناقض مع العولمة التي اخترقت كل بيت في قطاع غزة وباتت تؤثر فيه. اذ كيف يمكن لامرأة مطلقة أو أرملة أو فتاة في مقتبل العمر تنتظر زوجا لا يأتي، وترغب في الاستقلال عن عائلة تعيش تحت خط الفقر ثم يصبح بين يديها هاتف محمول، ثم كمبيوتر ثم انترنت ثم مواقع تواصل ثم متابعة لشبان لا يستطيعون الزواج نتيجة البطالة القاهرة والفقر الشديد وضيق الأمكنة، لكنهم رغم ذلك لا يتوقفون عن إظهار مفاتنهم عبر منصات العالم االجتماعي المختلفة، وكذلك فتيات ونساء ضمن ثقافة متنورة محدودة تمنح الأخريات الجرأة للانقلاب على الواقع، وسعياً نحو صناعة واقع يشبه المسلسلات التركية أو الكورية أو حتى أفلام هوليود أو بوليود التي كانت ملاذ المحاصرين والمحاصرات في قطاع غزة. نحن في واقع تراجي- كوميدي، إذ أصبح الحليم حيران، فادعاء المثالية أمام ما نسمع ونرى ضرب من الخيانة، وهو ما يحتم على كل كاتب حقيقي أن يكتب بجرأة ولا يخاف الرقيب، أياً كان مكانه أو قوته، لأن علاج أي مشكلة يبدأ بمعرفة مكان وسبب المشكلة، أما المهدئات لعلاج العرض الناتج عن المرض لن تحل مشكلة المرض نفسه. صدقيني نحن بحاجة لسنوات كي نشفى من مصيبة الاحتلال الذي تسبب بكل هذه المصائب بصورة أو أخرى، إذ يمكن لأي شخص في هذا العالم التنقل بحرية في أي وقت للمشاركة في مؤتمر أو حضور مباراه أو سياحة أو غيره، لكن في غزة لا مطار أو ميناء، ولا متنزه أو مساحات شاسعة خضراء، إنما بيوت متلاصقة وشوارع مليئة بالقاذورات والزحمة التي لا يمكن التخلص منها الا بمنح الفلسطيني في قطاع غزة مساحات أخرى للعيش الكريم، حيث ان قطاع غزة لا تتجاوز مساحته 365 كيلومتر مربع، ويقطنه أكثر من 2350000 نسمة، وهي أكبر نسبة تكدس سكاني في العالم يعيشون في بقعة بهذا الضيق.
جل ما أكتبه يمثل انقلابا على الواقع ورفضا للسائد، لأن السمك الميت وحده من يجري مع التيار، ولم أستطع يوماً أن ألهث خلف أحد، إذ تركت الأجسام السياسية والفكرية خلفي وآمنت أنني صاحب مذهب وفكر ورؤية مختلفة تسعى لتحقيق مساحة من الوعي للفلسطيني الجديد المتخم بأدوات التواصل االجتماعي، وفي هذا السياق أتذكر ما قاله علي بن أبي طالب صاحب نهج البلاغة، أن علموا أولادكم لزمانهم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم. نحن كذلك خلقنا لنكتب بشكل مختلف، أكثر جرأة وطموحاً نحو التغيير، التغيير الذي يأتي بكشف زيف المثالية والاختباء خلف عباءة التدين، وسيأتون من بعدنا ليكتبوا ما لم نستطع التعبير عنه أو إدراكه، فلكل همومه العامة والخاصة.
كان المفكر المصري نصر حامد أبو زيد يرى أن معنى الثقافة الحقيقي يكمن في تحوّل الكائن من مجرد الوجود الطبيعي إلى الوعي بالوجود. من الوجود إلى الوعي بالوجود، أيّ رؤية وتحديات يحملها فعل الكتابة الراهن من غزة في هذه اللحظات؟
ربما يعاني معظم كتاب غزة من عقدة المكان، المكان الذي أصبح سجناً كبيرًا، بلا مقومات عيش كريم، إذ لا يوجد ميناء أو مطار للتنقل واكتشاف ثقافات وحضارات يمكن أن تسهم بعولمة النص لدى كثير من الجيل الذي نشأ في مساحة قطاع غزة الضيقة، والتي أثرت بشكل سلبي جداً تجاه رؤيتهم للحياة والثقافة والتنوع. فكم من فنان أو أديب أو سينمائي أو مسرحي استطاع أن يسافر للمشاركة بمؤتمر أو لعمل إقامة فنية أو أدبية؟ كم عدد الذين يخرجون للتعلم في جامعات غير فلسطينية؟ ألا تعتقدين أن ضيق الأمكنة والحصار داخل مساحات ضيقة سيعمل على تعطيل الانفتاح والانغلاق والحقد على الآخر.
أظن وإن بعض الظن إثم أن كتاب غزة يحاولون تسليط الضوء نحو قضاياهم الخاصة، ما بين الطالب الجامعي الذي لا يجد رسوماً للدراسة كما فعل الروائي الشاب نور حجاج، ومسيرات العودة كما كتبها الشاب محمود جودة في حديقة السيقان وبين أزمة المعبر كما فعل الروائي عبد الله تايه في روايته الأخيرة وجع لا بد منه، وأزمة الفقر والتشرد كما أشار إليها صديقي أحمد عيسى، والانقسام كما كتبه الروائي والسياسي شفيق التلولي في زمن الشيطنة، وأزمة الموت التي انتشرت بفعل الاحتلال كما كتبها وزير الثقافة عاطف أبو سيف في روايته حياة معلقة، أعمال متنوعة لكنها تركز على ثيمة القهر والحصار الذي يعانيه الغزي وما نتج عنه من تداعيات عميقة أحدثت شرخاً في الوعي الفلسطيني تجاه قضيته الأساس، وهي التحرر من براثن الاحتلال.
الفلسطيني المتخم بويلات الحروب لا يمكن أن يتجاهل الدم، رغم أنني كنت أرفض التركيز على الحرب بمعناها المادي، بل أخذت نحو الحديث عن قضايا إنسانية بحتة لأن الآلالم متعددة والإنسانية واحدة، وهذا ما يجيب عن سؤالك، قول علي بن أبي طالب: إن لم نكن أخوة في الدين؛ فنحن أخوة في الخلق، شمولية الانسانية وتنوعها والبحث عن الاندماج في هذا التنوع، لذا لم يكن الدم ما أطمح بالحديث عنه، بل أفكار عادية لكنها لا تهم الكاتب، كفكرة ترك المكان والذكريات كما في قصة رسالة إلى صديقي اللدود، وفكرة محاولة إنشاء علاقة جسدية زمن الحرب، فكرة الحصول على حمام ساخن والماء، أزمة الكهرباء، السفر، التعليم ولكن بشكل فنطازي غير تقليدي يمكن لك رؤيته في جون كينيدي يهذي أحياناً بشكل جلي.
تكتب الأدب في ظل الاحتلال والدمار، وهذا واضح تقريبا في معظم نصوصك، الآخر حاضر بقوة في شكله المألوف، المغيب، المتوحش والمجازي. لكن عينك على الذات والحفر في أنفاقها. في تأسيس أو إعادة تأسيس العلاقة بين الذات والأخر تحدث انشطارات داخل الذات الذاتية والذات الآخرية. بين تفوق وتَدنّ لكلتا الذاتين، أي سلطة حقيقية يلعب الأدب في غزة تحديدا في إعادة النظر في هتين الذاتين، وما هي حدود ومعيقات هذه النظرة؟
شكرا على هذا السؤال الذي يفتح آفاقا واسعة لإيصال صوت الفلسطيني إلى العالم من خلال الحديث عن مدى تأثر أي كائن بالظروف التي يعيش. وهذا ما كنت أكتبه في قصصي من خلال المونولوج، الحوار الذاتي الذي يأتي نتيجة ظروف نفسية قاهرة، فمحاولتي دفع الأبطال للحديث عن أنفسهم واستخدام ضمير المتكلم لرغبة منه في الحفر عميقا في الذات الفلسطينية داخل النص.
ويمكن لك من خلال رواية غزة 87 قراءة ذات الآخر وأحلامه وطموحاته مقابل رؤية ابن المخيم العامل في الداخل المحتل لأجل لقمة العيش، الفارق بين عالمين، مخملي إسرائيلي وآخر متخم في البروليتارية الفلسطينية؛ لتسليط الضوء على القضية بشكلها الواضح وليس كما أراد لها البعض أن تكون؛ إذ إن مشكلة الفلسطيني مع اليهودي الذي جاء إلى فلسطين ليست مشكلة دينية، بل مشكلة احتلال جاء مغتصبا للأرض، ولم يقبل حتى بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية التي جاءت بعد الهجرة والإعلان عن تأسيس دولة الاحتلال الإسرائيلي. فهل يعتقد أحد أن المحتل لو كان مسلما سيسلم من نضال الشعب المسلم الآخر؟ وهذا ما يجري الآن بين روسيا وأوكرانيا.. مشكلة احتلالات موجودة في أماكن كثيرة من هذه البسيطة.
وبالعودة مجددا لسؤالك المتخم في الفلسفة، فإن الفلسطيني كما الإسرائيلي، ما بين يمين ويسار ووسط، كل تلك الهويات تعيش تناقضات أحيانا، فهناك من يريد كامل تراب فلسطين، وآخر يقول نكتفي بقرار 194 أو القرارات اللاحقة، وآخر يقول نريد أي شيء مقابل العيش بسلام، خصوصا بعد كل الدمار الحاصل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهذه الفرق كما الإسرائيلية التي تعيش تطرفا كبيرا اليوم. لذا فإن الذات الفلسطينية لم تتحطم رغم حالة التيه والتخبط، بعضها في أوج قوته، وآخر يعيش على التنفس الاصطناعي، لكنه لن يذوي أو يموت. وأظن أن الاحتلال لديه جيل لا يهتم كثيرا بالدولة بقدر ما يهتم بتحقيق رغباته وطموحاته، ثم الجلوس مع حبيبته تحت ظل شجرة في يافا، يرسم قلبا ويكتب أول حرف من اسمها واسمه كذكرى أبدية.
في غزة 87 الذات الفلسطينية المنشطرة نصفين في شخصية عادل الذي يعيش الخوف والتيه أثناء إقامة علاقة جسدية مع سارة الأشكنازية ويسأل نفسه كمونولوج داخل النص: هل خان وطنه أم انتصر له؟ هل وضع رأسه في التراب أم رأس الوطن؟ وكذلك ديفيد الإسرائيلي الذي يغادر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لأنه يعيش حالة تمرد داخلي ورفض للمجتمع الإسرائيلي بكل مكوناته من الداخل.
بين ديالكتيك حب الآخر وكراهيته، تكتب غزة 87، وقصصا أخرى تتناول الآخر في شكل المحتل. هذا العمل يعرض أمامنا ديالكتيك الجسد الفلسطيني المضحّى به خارج إطار المقاومة المألوف. الجسد الذكوري منزوع الإرادة الزاحف صوب محتله. العنف هذه المرة هو عنف ناعم رقيق والضحية تقدم نفسها قربانا كي تنجو. كيف واجه المجتمع الفلسطيني المحلي هذه الفكرة؟
للأسف، لم يتقبل المجتمع تلك الرواية، لأنها كانت تتحدث عن جانب إنساني بحت، كيف يمكن للإنسان الفلسطيني أن يعيش علاقة جسدية كاملة مع فتاة من تل أبيب، فكلا الشخصيتين في النهاية بشر، من لحم ودم، وكذلك الشخصيات الأخرى، لها من المشاعر ما يمكن أن يعمد إلى إلغاء فكرة دين أو مذهب الآخر أو حتى سبب وجوده، والإبقاء على حالة الرغبة والإعجاب الذي قد يصل في النهاية إلى علاقة جسدية بطريقة أو بأخرى، وكنت من خلال ذلك أسعى لإيصال رسالة للمتلقي الإسرائيلي قبل الفلسطيني، والعالمي قبل العربي: ألا يمكن للفلسطيني أن يندمج مع مواطني دولة الاحتلال؟ وسؤال أكثر أهمية: هل سيقبل الآخر، وأقصد بذلك الاحتلال بهذه العلاقة؟ هل يمكن للزمن أن يغفر خطيئة الدم؟ ألم يحدث وأن تمت ممارسة العديد من العلاقات الجسدية بين العمال الفلسطينيين وفتيات إسرائيليات داخل تل أبيب كما كنا نسمع في طفولتنا؟ هل يوجد من جنود دولة الاحتلال من جاء من ظهر رجل عربي فلسطيني؟ والسؤال الأكثر أهمية: هل يمكن اختلاط الأنساب حتى يصبح المجتمع قادرا على قبول الاندماج كحل لدولة ثنائية القومية بدلا من حل الدولتين الذي ترفضه دولة الاحتلال حتى اللحظة.
لقد ذهبت لقراءة العديد من الأعمال الأدبية والسياسية والبرامج لأتعرف على طبيعة المجتمع الإسرائيلي قبل أن أجيب عن أسئلتي التي جاءت من خلال علاقة جنسية كاملة بين سارة الإسرائيلية الأشكنازية وعادل ابن مخيم الشاطئ. قرأت آخر الحصون المنهارة لمشهور البطران ووجع أيوب لمحمد نصار وأعمال أخرى لا أذكرها، ووصلت إلى رسالة مفادها أن لا أحد يستطيع الفكاك من بيئته وأيديولوجيته، رغم أن الاحتلال كان أكثر وطأة وتشددا في هذه القضية، فعمد إلى طمس الفلسطيني وعدم منحه أي مساحة من الحرية أو القرار.
بعض الأدباء والقراء والمهتمين طالبوا بسحب الرواية من السوق، لأنني رسمت العلاقة الجسدية بوضوح وليس كما جرت العادة عند أدباء قطاع غزة من الإشارة لذلك بكلمات مقتضبة بسبب العيب والحرام، فعلت ذلك لأنني مؤمن أن المشهد يجب أن يصل كاملا للقارئ، بكل المشاعر الجياشة المجنونة التي قد تكون جنسية أحيانا، لأنني لا أكتب مقالا أو دراسة نقدية.
الأمر الآخر، نظرًا لعدم وجود نقد حقيقي في فلسطين وعدم دعم للمثقف أو حتى اهتمام بما يكتب، غابت الرواية عن المشهد، إذ ليس من الممكن أن يقوم طالب بعمل دراسة أكاديمية عنها أو باحث بعمل دراسة نقدية أو نصية عن تلك الرواية التي أعتز بها كثيرا.
تتوارى في كتابتك السردية شبكة عميقة من الاستعارات الشعريّة. الكتابة القصصية عندك لا تنجو من اللغة المجازية التي تتوازن فيها لغة القصّة وأجواؤها لتخلقَ وهمًا عريضًا ينضاف الى واقع محدد وقاسٍ. كأنها لعبة مراوغة بين قلق التعبير عن الدنيويّ الفظّ بضرورة رفعه شعريًا. أم أنّها عفويّة لا تكتيكيّة؟
بدأت حياتي مع الكتابة إبان انتهائي من الجامعة، إذ كان كل ما سبق مجرد محاولات، يغلب عليها القراءة والبحث، حيث وجدت ملاذي بين الكتب، رغم أنني نشرت بعض القصص التي لم يحدث وطبعتها في أي عمل لاحق، وظلت مغمورة في صحف ومدلات محلية. مذ كنت طفلا عشقت القراءة، حيث كنت أستعير بمصروفي قصصاً يعيرها جارنا المقعد، بعد أن فتح كشكاً صغيرًا في المخيم، وصرت مأخوذاً بعوالم ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة ثم قصص عبد الحميد جودة السحار وعقلة الإصبع، وكبرت لأصيرَ عضواً في مكتبة الهلال الأحمر، ألتهم القصص وأعود إلى البيت بقصص أخرى، حتى وصلت إلى المرحلة الجامعية.
في تلك الفترة، خرج الى النور مشروع كتاب في جريدة الذي انطلق بدعم من اليونيسكو ووزارة الثقافة اللبنانية ومؤسسة العويس ألجل النهوض بالعقل العربي، وخالل كتاب في جريدة تعرفت على أدباء لم يسبق وسمعت عنهم، كنت أشتري صحيفة الأيام أول أربعاء من كل شهر، وهو الوقت المحدد ، لصدور العدد الجديد من كتاب في جريدة، الذي يصدر عن صحيفة واحدة في كل قطر عربي، وكانت صحيفة الأيام في فلسطين جزء من هذا المشروع ، فأتعرف من خلال الكتاب الجرائدي على شعراء وأدباء ومفكرين عرب وأجانب من أمريكا اللاتينية وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرهم. يعجبني أسلوب هذا الكاتب وعوالمه فأذهب إلى مكتبة الهلال الأحمر لأستعير كل أعماله كي أشبع رغبتي باكتشاف المؤلف بشكل أعمق، فعشقت يوسف إدريس و بهاء طاهر ومحمد البساطي ومحمد خضير وغائب طعمة فرمان وزيد مطيع دماج وعبد الرحمن منيف وإبراهيم الكوني وجبرا جبرا وغيرهم الكثيرين.
شاعرية اللغة جاءت من خلال القرآن الكريم الذي كنت أقرأه كل يوم ثم من خلال دواوين الشعر التي كنت أتلذذ عليها قبل النوم ثم قراءة القصص والروايات لأدباء مختلفي الفكرة والأسلوب. لهذا يمكنك القول إنّ اللغة الشاعرية ليست عفوية تماما أو رواية وانّما يتم توظيفها تبعًا لظروف كل قصّة، وحالة كل شخصية داخل متن النصوص والطريقة التي تلائم السرد.
“الهوية ال تعطى مرة واحدة نهائية، بل هي تبنى وتتحول طوال الحياة”. أظن سبق وتحدثنا في هذا الامر من خلال ثيمة التغيير، التي أعتبرها الثابت الوحيد في حياة الإنسان، لذا فهوية الشخص تختلف كما صورته في جواز السفر أو بطاقة التعريف، تتقلب الحياة على جمر المواقف والخبرات، فما نؤمن به اليوم قد نصبح أعداءه في الغد، وما نرفضه اليوم قد يصير منهاج حياة لاحقا فالمواقف والظروف والتجارب والخبرات تمنح الانسان فرصة لتغيير هويته نحو الأفضل، وربما نحو الأسوأ، لكنه في النهاية لن يكون كالحجر الأصم.
فلسطين، في المستوى الأدبي، اليوم، لا تقدّم نفسها بالكتابة إلا عبر هذا البناء المتحوّل الذي يتمّ إعماره بنقله من مستوى الهوية الواحدة إلى مستوى الهويّات المتعدّدة. غزّة، الضفّة الغربيّة، الداخل الفلسطينيّ، والشتات. أربعة أقطاب تتحوّل فيها بنية الهوية الفلسطينية من مستوى الهوية الواحدة-الخالصة إلى الهوية المتعددة التي سكنتها هويّات برانية وبنت عليها. ما هو الخطر الذي تعيشه هذه الهويّات الفلسطينيّة الفلسطينية وما هي الإنجازات الحقيقية التي سجلها هذا الاختلاف بينها؟
لا أعرف إن كان من الصواب الحديث عن هويات فلسطينية مختلفة، ذلك لأن الإنسان صاحب هويات مختلفة تبعا للتغيرات العمرية والأحداث والمواقف التي تنشأ بفعل الظروف المحلية أو السياسية العالمية أو غيرها.
فإن كان الانسان يتغير بفعل حوادث كثيرة، ماذا يمكن القول عن مجموعة بشر داخل محيط واحد؟ وماذا عن آخرين في أماكن وبيئات وظروف مختلفة؟ أليس من الممكن أن يذهب كل فريق للحديث عن ظروفه وأحالمه وآماله. ورغم ذلك، لا يمكن إغفال الانقسام على الواقع الفلسطيني، سواء على الأرض وكذلك على الورق، لأن الفلسطيني يعاني حالة اغتراب عن وطنه الكامل بفعل وجود الاحتلال في مفاصل حساسة، إذ بات لكل منطقة همومها الكبيرة التي تشغلها عن غيرها، فظروف الفلسطيني في مخيمات الشتات وتحديدا لبنان تختلف عن ظروف ابن مخيم الشاطئ في غزة، وكذلك عن ابن الضفة الغربية أو وتحديدا عن الفلسطيني المغترب في أي قارة غير عربية. بالنسبة لي كفلسطيني، أعتقد أنه لا يوجد مزايا في تعدد الهويات المناطقية نتيجة الحيد عن القضية الأساس، وهي وجود احتلال كولونيالي يسيطر على كل مقومات الدولة الفلسطينية، بينما بات الفلسطيني يناقش قضايا هامشية وليست ذات أساس، كالانقسام وما نشأ عنه. لذا فإننا بحاجة لعدم نسيان الهوية المركزية للإنسان الفلسطيني الذي يدفع ثمن التهاوي والسقوط الأخلاقي للعالم الظالم أمام أطول احتلال في العصر الحديث.
في عصر الذكاء الاصطناعي الذي يوازيه صعود وأفول حكومات وديكتاتوريات في الشرق الأوسط عموما، حروب وحصار على الإنسان الفلسطيني والعربي، وانفجار الهويات الصغيرة في أرض الشتات، تكون واقع جديد: شذري. ماذا الذي يهدد الرواية الفلسطينية في رأيك اليوم، في عصر التحولات؟
أكثر ما يهدد الرواية الفلسطينية هو ما سبق ذكره، انشغال الفلسطيني بقضايا حياته اليومية على حساب قضيته الأساس، وهي الدفاع عن حقوقه السليبة، وطرق جدران الخزان من أن الإنسان يدفع ثمن وجود احتلال يمارس التطهير العرقي بشكل غير مسبوق.
والأكثر قهرا، أن الرواية الفلسطينية في ظل وجود حكومات عربية تسعى، بل تستميت للتطبيع مع الاحتلال، تحاول منع انتشار تلك الأعمال الأدبية، وترفض تأهلها للفوز بأي جائزة كنوع من كي الوعي للكاتب الفلسطيني من أن يشغل نفسه بأي شيء بعيدا عن المطالبة بحقوقه. فنحن اليوم لم نعد نقرأ الأدب الجيد فقط، بل نقرأ الأدب المُسوّق جيدا، وهو ما تقوم به الأنظمة والسلطة الرابعة لأجل إلغاء فكرة مركزية القضية الفلسطينية.. لكنني رغم ذلك أقول لك إن أي حدث بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي سيعيد العربي إلى قوميته وعروبته وسيعود للاشتباك بالحروف والكلمات والصوت العالي.
في ثالوث الكاتب والناقد والقارئ في الأدب الفلسطينيّ، يمكن أن نلاحظ عنفًا ما مبطّنا يسكن هذه العلاقة. عنف الرؤية النمطية السابقة للناقد والقارئ حول ما يجب للفلسطيني أن يقدمه وهي رؤية مجحفة لجرأة الكاتب الفلسطيني في فضح الذات وتفكيكها اجتماعيًا ونفسيًا وسلطويًا، وصراعاتها الباطنية مع ذاتها قبل صراعها مع أي آخر خارج ذاتها. وقد يواجه عمل أدبيّ أو كاتب يجرؤ على القيام بهذا الفعل بعملية إقصاء متعددة الجوانب. ما العمل؟
أتمنى لو كان لدينا ناقد حقيقي، فما هو موجود حالة من المجاملات لا يمكن وضعها ضمن فئة النقد، اللهم إلا عددا شحيحا من النقاد. أما بخصوص القارئ، فهو يهتم بالتسويق الجيد، وليس العمل الجيد، مأخوذا بعقدة الغربي والمترجَم، فهو يريد العيش في بيئات جديدة بين طيات الكتب، خصوصا وأنه محروم من السفر والتنقل بحرية بسبب عدم وجود المطارات والموانئ.
بالنسبة للأدباء في الأراضي الفلسطينية، فإنهم يعيشون انقسامات حادة نتيجة اصطفافات قد تنشأ بسبب تعارض المصالح وليس بسبب الهم الجمعي الفلسطيني، حتى داخل الحزب الواحد أو الجماعة الواحدة فإنهم لا يفكرون بالبناء على نقاط الالتقاء، بل يتنازعون في السر والعلن. ربما يصلح في حالتنا الفلسطينية فكرة الشللية الثقافية، إذ إن لكل كاتب جماعته وأصدقاءه الذين يأخذون دور الناقد بالكتابة عن أي عمل جديد كنوع من المجاملة فقط. وأظن أننا بحاجة ماسة لناظم حقيقي لأي عمل أدبي، وذلك يأتي بإعادة الاعتبار لوزارة الثقافة الفلسطينية واتحاد الكتاب من خلال تمويل جاد وكبير يساهم بإعادة بناء دار الكتب الوطنية، وتبني دور النشر التي باتت تبحث عن المال لأجل توفير لقمة العيش للعمال الموجودين لديها، إذ لم يعد يهمها كثيرًا جودة العمل من عدمه.
أختم بأنه من الضروري تبني الرأي والرأي الآخر لدى فئة المثقفين أولا، لتعزيز ذلك لدى جمهور العامة، وتقبل المختلف وتبنيه والدفاع عنه كما قالها فولتير: إنني على استعداد أن أدفع عمري ثمنا ليبوح من يخالفني الرأي برأيه. فهل المثقف الفلسطيني قادر على ذلك؟