يعتبر رائد مدرسة الحوليات فرناند بروديل في مقدمة عمله التأسيسي حول تاريخ البحر الأبيض المتوسط، أن هذا البحر يتحدث إلينا بعدة أصوات؛ تشكل في المجموع التواريخ المستقلة التي شهدتها المنطقة (Braudel, 1972)، الأمر الذي قد يرى البعض أنه يحمل في ثناياه قالباً ما بعد حداثي يحيل إلى فهم المختلف والمجزأ والمتشظي. وفي سياق البحث التاريخي، يطرح فوكو (1987) مجادلة مركزية تتمحور حول منظومة العلاقات التاريخية وإمكانية دراسة مجموع الأحداث، مشيراً إلى ما يمكن اعتباره تحولاً في دراسة ظواهر الانفصال والانقطاع التي تدفع التاريخ نحو التحليل والتحرر من من فلسفة المفروض رغماً عنا، مؤكداً على ضرورة البحث في المنظومة الخطابية لما قاله البشر عبر التاريخ وليس في السبب المباشر لما قيل. وبذلك تكون الكتابة التاريخية عملية استعادية تتيح تقصي وإبراز مظاهر الانفصال التي كان تحذف من صفحات التاريخ الكلاسيكي.
ومما لا شك فيه أن تتبع ودراسة الأرشيفات ومجمل التواريخ الشفوية الماثلة في حيوات الناس العاديين تتيح الوقوف على جملة من الجوانب التي عادة ما يغفلها السرد الكلاسيكي، والتي من ضمنها الحضور اليومي للممارسات والعادات والسلوكيات التي يقوم بها الفاعلون في سياق حراكهم “غير المقصود” وتجسيداتها الفنية والأدبية التي قد لا تأخذ حقها سواءً في الصدى التاريخي أو في إدراك مدى أهميتها في تثبيت وجود الفعل وتجلياته التي تشكل جزءاً هامة من بنية التاريخ الكلية التي يصار إلى إنتاجها، وتستمر الإشارة إليها بوصفها فعلا “عاديا”. فالتاريخ يتضمن مجموعة من الحقائق الواضحة التي تمتاز باستمراريتها وتغيراتها الدراماتيكية، وأخرى مغمورة وصامتة وغير متصورة تقريباً لا من قبل من يراقبها ولا من يشارك في صنعها حتى وقد تزول بمرور الزمن. الأمر الذي يلقي بمسؤوليّة رصد وتسجيل “الحقائق” التاريخيّة دون تعمية أو تشويه وتزييف، على عاتق الباحث التاريخيّ، ويترك الباب مفتوحاً أمام الباحثين والمؤرخين والأدباء والمفكرين للمشاركة في إنتاج التاريخ وكتابته بما يحول دون تغييب هوية الأفراد والمجموعات وإعطائهم مساحة لسرد تاريخهم المغيّب والمنسيّ خارج سياق السلطة والهيمنة.
على هامش معرض فلسطين الدولي للكتاب، الذي احتضنته رام الله في صيف العام 2023، التقيت الكاتب زياد خداش الذي أهداني كتاباً قال إنه “الأقرب إلى قلبه”، وعدته أن أقرأه ومضيت…أدرت ظهري له وأنا أفكر كيف أن أنفه لم يكن دقيقاً ولا مستطيلاً مثل “بينوكيو” وهو الذي افتتح مجموعته القصصية بوهم “صادق” يحيل إلى حياة سابقة وخيال يمضي بنا إلى ميتافيزيقيا الوطن لنحضر حفلة لأم كلثوم في حيفا ونلتقي بالجواهري على شاطئ يافا، فينفي بذلك كل وعد يجعل من فلسطين أرضاً بلا شعب لشعب بلا أرض. “أنف ليلى مراد” ليس رواية بقدر كونه أرشيفا حيا للرواية الفلسطينية، وكاتبه لا يعبر فقط عن ذاتيته الفردية المتميزة والمتمردة، بل إن الكتاب يشكل تعبيراً جمعياً وجماعياً عن حالة اجتماعية ونضالية وسياسية يعيشها شعب بأكمله، فقد جعل خداش من الرواية الفلسطينية وحياة الفلسطينيين في النصف الأول من القرن العشرين تاريخا متنقلا يحيل إلى وجود حيوات ونماذج مختلفة من الحضور الأصلاني للفلسطينيين في أرضهم، الأمر الذي حاول البعض اختزاله في جغرافيا نكبة ثابتة ومستمرة.
تشكل هذه المجموعة مقاربة عفوية للمجتنب والمجتزأ واللامنطوق واستحضاراً لأسطر وفصول لم تكتب بعد حول تاريخ فلسطين الاجتماعي والاقتصادي ومشهدها الثقافي، وهي سرد بالحرف والصورة -يأخذ مسارا استيعاديا يضارع بروعته وبراعته البحث الأرشيفي مكتمل الأركان. لقد اتسم وصف خداش للأحداث بوعي صادق وشعور معقد رغم بساطته، وشكل تعبيرا جليا لوضوح رؤيته وتصويرا مجازيا بليغا لذلك الصنف من الوعي والحضور الثابت المتصل بحقيقة أن على هذه الأرض شعب عمرها واستقر على أرضها وبحرها قبل تكالب الأمم والممالك عليها وتهافتهم على استعمارها واستلاب خيراتها. لقد دفعه الوعي الثوري الموجود لدى “كاتب المخيم” الذي بلغ إيمانه بقضيته ذروته، فكان “أنف ليلى مراد” نصا أدبيا رائعا ومزيجا من حيوات الفلسطينيين وتجليات حضورها اليومية ومفرداتها المختلفة التي يبعث زياد خداش من خلالها الحياة في أرشيفات واقعية، ولعل أكثر ما يميز هذه الأرشيفات هو صدق حضورها في حيوات الناس دون توثيقها بين دفتي كتاب أو على صفحات جريدة.
ينطوي “أنف ليلى مراد” على تجربة معرفيّة وجماليّة نوعيّة جديدة في سرد الرواية التاريخيّة الفلسطينيّة، إذ يشكل لبِنة أدبية وفنية تقدم مساهمة هامّة في ردم الفجوة المعرفيّة المحيطة بفلسطين، شعبًا وثقافةً وتاريخًا، ويتيح قراءة بانوراميّة تطلق العنان لإعادة استكشاف تاريخ المنسيين والمهمشين بطريقة تفاعلية تحول دون متحفة النضال واختزال الذاكرة في لوحة أو منحوتة تجد لها مقراً على حائط بيت أو في زاوية مؤسسة. وقد أجاد الكاتب إعادة ترتيب فصوله في سياق الزمان والمكان بطريقة تحاكي واقع التحدي والتصدي، الذي يعيشه ويعايشه الفلسطيني أو يتعايش معه يوميا، وأطلق عنان الحلم والأمل ليلامس سقف الطموح رغم الجراح ورغم الألم وضيق المساحة، بل يمكن القول إنه ساهم في تمثيل المستضعفين والمغيّبين خارج نطاق سلطة الهيمنة الاجتماعيّة والإنتاج المعرفيّ النخبويّ.
يتنقل الكاتب في هذه المجموعة بين ست عشرة لوحة في الفصل الأول، وخمس آخر في الفصل الثاني، فيخط بذلك مساراً ومسيرة تظهر قدرته الفريدة على المزاوجة بين ما قد يبدو سرداً قصصيا وبين ما يمكن اعتباره استنطاقاً لأرشيفات واقعية “متخيلة” ماثلة وحاضرة في نماذج حيوات مختلفة لأشخاص “حقيقيين”، حيث استطاع الكاتب بحنكة أن يخترع قصصاً متصلة بهؤلاء الأشخاص وأن يضعنا أمام خليط متناغم من الأحداث والمواقف الشخصيّة الّتي تتبلور كلّما تنقّل بين سطور الكتاب الذي يقدم تجربة شخصيّة، وتجربة فلسطينيّة عامّة طالت شعبًا بأكمله -ليشكل، بمساراته وموضوعاته واضطراباته، أساساً لفهم المكان ومعالمه بالتوازي مع تطوّر أشكال الاستعمار ونماذج الحياة في فلسطين، ويكرس مثالاً حياً لرفض كل مسعى متصل بمحو القضية الفلسطينية.
لقد استطاع خداش أن ينزع معطف الزمن والواقعية ليستعير ثوباً يستلهم فيه خيالاً يمضي بنا في تجربة أفق-رأسية تلغي القيود وتخترق الحدود. ويبدو أنه قد تمكن من تهريب هذه الأرشيفات خارج إطارها الزمكاني ليعيد إنتاجها وكتابتها في “مخيم الجلزون” بعد نحو خمسة وسبعين عاماً على نكبة الفلسطينيين الأولى وإحداث قطيعة بينهم وبين البحر، فيراوح بذلك بين كونه مثقفا أو كاتباً تقليديا يختص بالأدب وبالرواية وبين حضوره المناظر-ضمن حدود المجال المتاح للفعل- للمثقف العضوي بمفهوم غرامشي الرافض للهيمنة الثقافية وممارساتها القمعية. ومن خلال مشاكسة الواقع بقليل من الخيال، يبدو أن الكتاب يقدم استراتيجية ذات بعد غير مرئي تحفزنا على رفض عقيدة الدمى وأيديولوجيا الوعي الزائف، فقد انتهى “بينوكيو” من أن يكون دمية خشبية وجعلنا نتسلل في رحلة عبر الذاكرة، كما استطاع أن ينقلنا “خارج المكان” دون مغادرة “المكان” فعدنا إلى البحر “رمزيا” ليحتوينا ولنعلن انتماءنا إليه.
إحالات