بعد أن انتهى قاضي التحقيق من استجوابنا، أحال إضباراتنا إلى المحكمة، وللمصادفة كنا، أنا وتسعة رفاق آخرين، أول دفعة من المدعوين للمثول أمام هيئة المحكمة في جلستها الأولى. لم نكن نعرف شيئاً عن حقوقنا وواجباتنا، ولهذا حمَّلنا الرفاق كل ما خطر في البال والهواجس من أسئلة ينبغي طرحها على رئيس المحكمة المُزمِن فايز النوري.
وللمصادفة أيضاً كان اسمي هو الأول الذى طلب رئيس المحكمة مثوله.
كان يرنّ في أذني صوت صبية أطلَّتْ من أحد أبواب قاعة المحكمة وهي تصرخ: فرج فرج.. وكّلنا لك المحامي سامي ضاحي.
شعرت أني أعرف تلك الصبية، وتألمت وعتبت كثيراً على الزمن وعلى ذاكرتي التي لم تتمكن من معرفة من هي بالضبط.
حين خرجت من القفص ووقفت أمام قوس المحكمة، اقترب مني كهل نحيل أسمر، تنطوي ملامحه على مزيج من الوسامة والرصانة، ليقول: أنا المحامي سامي ضاحي. أهلك وكَّلوني بالدفاع عنك.
نظر إليّ رئيس المحكمة بنوع من التذمر والملل والامتعاض، ثم تحدَّث كما لو أنه روبوت:
– أنا أسألك.. وأنت تجيب باختصار.
نظرت إلى المحامي مستفهماً عما إذا كان لديه رأي ما، فزمّ شفتيه ورفع حاجبيه مع فتح كفيه كدلالة على الحيرة، ففهمت أنه ينبغي عليّ أن أتصرَّف.
= قبل أي سؤال وجواب يا سيادة القاضي، أريد أن أعرف ما هي حقوقي كمتَّهم.
– حقوقك كاملة كما هي في جميع المحاكم.
كان على يسار رئيس المحكمة قاضيان يرتديان البزّة العسكرية، ما يعني أنها لا يمكن أن تكون محكمة عادية.
= طيب في حال صدور حكم، وفي حال اعتقادي أنه جائر، فهل من حقي الطعن والاستئناف؟
– لا.. أحكامنا مُبرَمة.
= إذن ليست محكمتكم كجميع المحاكم كما تقول!
– بل كجيمع المحاكم، ولكن لا طعن ولا استئناف.
= وهل من حقي أن ألتقي بمحامي الدفاع على انفراد بمعزل عن أي رقابة؟
– طبعاً.هذا حقك.
= وهل سيكون متاحاً لوسائل الإعلام المحلية والعربية والعالمية أن تحضر جلسات محاكماتنا؟
– تريدني أن أتصل لك بوسائل الإعلام وأدعوها للحضور؟
= لا.. ولكن في حال حضروا من تلقاء أنفسهم.
– لا مشكلة عندنا في ذلك.
= وهل مسموح للناس أن يحضروا الجلسات كمشاهدين ومستمعين؟
– قاعتنا كما ترى ضيقة، فإيش رأيك يعني.. نعمل الجلسات بساحة المرجة؟
= تتسع القاعة لحوالي أربعين شخصاً، وعندما تمتلئ تستطيعون إغلاق الأبواب.
– أيضاً لا مشكلة.
= هل أستطيع أن أكتب مرافعتي الشخصية إضافة لمرافعة المحامي؟
– ما دام محاميك سيرافع عنك فما لزوم أن ترافع عن نفسك؟
= سؤالي هل ذلك من حقي حسب قوانين محكمتكم أم لا؟
– حقك. حقوقكم جميعاً مضمونة، ولكن وقتنا ضيق ولا يسمح بأن نعطي لكل متهم ساعات من أجل الأسئلة فقط. يمكنكم طرح الأسئلة على الموظفين والمحامين خارج الجلسة. أمّا الآن فأريد منك إجابات مختصرة على أسئلة محددة.
– أنتم تقولون في برنامجكم السياسي، أنكم تريدون إسقاط النظام بالقوة، وأنكم…
= لم يرد هذا أبداً في برنامجنا. شعارنا المركزي يدعو إلى دحر الديكتاتورية، أي تغيير الشكل السياسي للحكم، وليس إسقاط النظام، فإن كنت واثقاً مما تقول فاقرأ لي أين ورد ذلك في برنامجنا.
– أنت نفسك تقول ذلك في ملفات التحقيق معك.
= ليس صحيحاً على الإطلاق. التحقيق الذي وقَّعتُ عليه موجود عندك، وأنا أعرف ما هو مكتوب فيه كلمة كلمة.
– “ما يخالف”..
= بل “يخالف” كثيراً.. فإما أن تُثبِت ما تتَّهمني به أو تتراجع عن التهمة بوضوح، وتعتذر عن اتهام لا أصل له.
– زين زين.. أنت ما قلت. لكني أسألك.. إذا كان في “الجبهة الوطنية التقدمية” حزب شيوعي، تقدر تفهّمني ليش أنتم كمان حزب شيوعي؟!
= أنتم أيضاً في السلطة.. ألستم حزب بعث؟
والحزب الذي انقلبتم عليه وهو في المعارضة الآن، أليس حزب بعث أيضاً، والحزب الحاكم في العراق أليس حزب بعث أيضاً…
– هذولاك ما هُم بعث.
= لا أريد أن أقول أن الذين هم معكم في “الجبهة” ليسوا شيوعيين، ولكن لو تعطيني فسحة من الوقت، فسأشرح لك الأسباب النظرية والسياسية وحتى الشخصية للانشقاقات.
– لا لا.. لا تشرح لي ولا أشرح لك.. أنتم تحبون الحكي وسِيَركم وقصصكم ما تخلص.
توالت الأسئلة مع الرفاق الآخرين، ولكنها كانت تتناقص تدريجياً إلى أن اقتصرت مع آخر ثلاثة رفاق على نوع من التدقيق في الاسم والكنية ومكان وتاريخ الولادة.
وحين انتهت الجلسة أعطى فايز النوري موافقته على دخول الأهالي للسلام علينا ونحن في قفص المحكمة.
دخلت الصبية التي كانت تصرخ باسمي، وعرفت أنها سميحة أخت صديقي الشاعر وحيد نادر.
تذكرت أنها كانت على علاقة مع أخي إبراهيم وأنهما تزوجا قبل اعتقالي بقليل.
أنا أعرفها منذ كانت طفلة صغيرة، وشعرت أنها ما زالت طفلة رغم أن تفاصيل حديثها وأخبارها وأسئلتها كانت تشي بشخصية واثقة وحاسمة في خياراتها وعلى دراية بما يقتضيه ذلك من حذر أمني.
كانت سميحة طائر السعد والأمل وأول من أراه من أهلي قبل أن توافق السلطات على السماح بزياراتنا.
***
بعد أسابيع جاء مدير انضباط السجن ليبلغني أن لديّ مقابلة مع المحامي غداً في العاشرة صباحاً، وأن عليّ تجهيز أسئلتي بصورة مكتوبة لكيلا أهدر وقت المقابلة بدون جدوى.
حضّرت أسئلة مكتوبة من مثل “هل ستطول محاكماتنا؟” و “هل يمكنك إبلاغ أهلي أن يرسلوا لي بيجاما شتوية” و “أخبر أمي أني أشتهي المكدوس” أو من قبيل “هل المحكمة استثنائية كثيراً أم كثيراً جداً؟”.
في اليوم التالي قال لي مساعد الانضباط أن مدير السجن يريد أن يرى الأسئلة قبل اللقاء بالمحامي. أجبته أن الأسئلة المهمة في رأسي، ثم أعطيته ورقة وأبلغته أني كتبتها خصيصاً لمعلمه.
ذهب مدير الانضباط وعاد ليقول:
– مدير السجن يأمر بأن يحضر المقابلة عسكريان.
– ليذهب العسكريان لمقابلة المحامي بمفردهما فأنا لا أريد مقابلته.
– يا فرج تعرف أني أتمنى لك كل الخير، ولكنها الأوامر.
– لا بأس.. نفّذ للمدير أوامره، ونفّذ لي رجائي في العودة إلى مهجعي.
– طيب ما فيه داعي للعسكريين.. أحضر أنا فقط.. ما قولك؟
– كلامي مع رئيس المحكمة كان واضحاً، ولقائي بالمحامي من دون أي رقابة هو حقّي.
في النهاية التقيت بالمحامي على انفراد في إحدى غرف مكاتب السجن. أشار لي وهو يحرّك سبابته بشكل دائري أن هناك آلة تسجيل.
الغرفة عارية الجدران وليس فيها سوى طاولتين وخزانة حديدية وبضعة كراسيّ. فتحتُ الخزانة وأدراج الطاولتين ودقّقت في الجدران والزوايا ثم قلت أن لا شيء. أخرج سامي دفتراً وقلماً وكتب لي: ما رأيك أن يكون حديثنا عبر الكتابة فقط، فكتبت له أنني سأتحدث براحتي وأنه يمكن أن يجيبني كتابةً. هزّ رأسه وهو يقول: أنا خائف عليك وليس على نفسي، ولكن كما تريد.
كانت تلك أول وآخر مقابلة تجري على انفراد بين محامٍ وموكِّله.