وسط هذا الكم الهائل من الدمار والموت والتشريد والتجويع والإجرام الذي لم تعرف البشرية له مثيلًا، نحاول أن نفهم ما يحصل في هذا العالم الذي بات بؤرة للموت والتعذيب اليومي. ووسط هذه الغوغاء التي تحيط بنا في رحلة تيهنا وضياعنا إزاء أبشع جريمة ترتكبها الصهيونية في فلسطين وفي غزة تحديدًا على مرأى من العالم ومسمع منه، علينا أن نصغي إلى صوتٍ عاقلٍ ينير إلينا الطّريق لنفهم، فلعلّ المصيبة إذا فُهمت خفّ وقعها على الأقل في انتظار أن نجد منها مخرجًا. وليس أفضل من الفلاسفة في اللحظة قدرةً على تعقّل اللّحظة وفهمها وتفكيكها. لذلك كان هذا الحوار تدريبًا على الاستماع إلى فيلسوف معاصر ينوء بحمل الراهن المثقل بالهموم، ولكنّه يحتفظ بعقله نابضًا رغم حجم الكارثة وعمق المأساة: فتحي المسكيني، الفيلسوف التونسي الّذي لم يتردّد يومًا في نصرة القضايا العادلة في العالم، القضيّة الفلسطينيّة تحديدًا. هو الفيلسوف والشاعر والمترجم وأستاذنا الجامعي المتميّز، صاحب عشرات المؤلفات، ومنها تمثيلاً لا حصراً: «الهُوِية والزمان»، و«نقد العقل التأويلي»، و«هيجل ونهاية الميتافيزيقا»، و«الثورات العربية»، و«الهجرة إلى الإنسانية»، و«الدين والإمبراطورية»، و«الفيلسوف والإمبراطورية». أمَّا عن ترجماته فنذكر منها: «في جينالوجيا الأخلاق»، و«المثالية الألمانية»، و«قلق الجندر»، و«الدين في حدود مجرد العقل»، و«بيان ثانٍ من أجل الفلسفة»، هذا فضلًا عن مقالاته المتعددة ودراساته التي نشرها في المجلات والصحف التونسية والعربية والأجنبية، وكتَبها باللغات العربية والألمانية والفرنسية.
في هذه المقابلة يفكّك المسكيني موقف الفيلسوف الألماني يورغن هبرماس ممّا يحصل في غزة وفلسطين عمومًا، تفكيكًا قد يساعدنا أيضًا في فهم قطاع واسع من الرأي العام الغربي.
بعد العدوان الإسرائيلي الوحشي على غزة والضفة الغربية انحاز فلاسفة ومفكرون غربيون انحيازًا مطلقًا لإسرائيل وكرروا مقولة “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، ومن أبرز هؤلاء الفلاسفة يورغن هبرماس، بم تفسر موقفه؟
في الحقيقة لا معنى للحديث عن “انحياز” فيلسوف إلى طرف سياسي ضدّ طرف آخر: ما فعله هبرماس مثلًا ليس انحيازًا، بل هو “اتّخاذ موقف”(Stellungnahme)، في صراع دائر، هكذا كان عنوان الورقة التي أمضى عليها مع زملائه في نوفمبر 2023 تحت عنوان له دلالة: “المبادئ الأساسية للتضامن. اتّخاذ موقف”. من يتّخذ موقفاً، لا يفكّر، نعني لا يبحث في التبرير “النظري” لخطابه، بل يحدّد “موقفه” من “الوضع الراهن” (die derzeitige Situation)، وعبارة “الوضع الراهن” كانت هي الكلمة الأولى من البيان. “الموقف” يخاطب “الراهن” وليس أيّ نوع من “الحقيقة”. هو تعبير غير نظري، بل تحديد رأي سياسي: تصريح، إعلان، بيان، إخبار، في الفضاء العمومي. ومن ثمّ يجب التعامل معه على هذا الأساس: نعني أنّ “الموقف” لا يملك في حدّ ذاته أيّ “ادّعاء صلاحية” إزاء “العلاقة بالحقيقة”. هو حكم قيمة على ما “يحدث”، وليس تأسيسًا فلسفيًّا له. ورغم ذلك، من المزعج حقًّا للمتفلسفة أنّ هبرماس قد رضي بأن يكون عنوانُ هذا “الموقف” (أي هذا الانخراط اليومي في تقويم صراع دائر) كلامًا ثقيلًا من نوع: “المبادئ الأساسية للتضامن”. وهذا كلام كبير إذْ يصدر عن فيلسوف ادّعى دومًا أنّه يفضّل الكتابة “النسقية” وليس “الشعرية” أو “البلاغية” كما يفعل خصومه مثل هيدغر أو ديريدا.
يعني “الوضع الراهن” بالنسبة إلى هبرماس أو كاتب البيان ما يلي: هو “القسوة التي لا مثيل لها لهجوم حماس وردّ فعل إسرائيل”. “القسوة” (Grausamkeit) و”الهجوم” (Angriff). ليس لحماس أيّ وصف آخر. أمّا ما فعلته إسرائيل بالفلسطينيين فهو “ردّ فعل” (Reaktion).
إذن كيف يمكننا الآن أن ننزّل دعوى “المبادئ الأساسية للتضامن” التي تصدّرت العنوان؟
إنّ “المبادئ الأساسية” مثلها مثل مفهوم “التضامن” هي سوف توجد على صعيد آخر لا علاقة له بما هو “راهن”، لأنّها تلك التي “لا يجب أن تكون موضع جدال”. ولكن من أين أتى هذا “الواجب”؟ وما الذي يجعلها خارج النقاش؟ “لأنّها توجد في أساس (liegen…zugrunde) التضامن المفهوم بشكل صحيح مع إسرائيل واليهوديات واليهود في ألمانيا”.
علينا أن ننتبه إلى أنّ سبب المشكل هو حماس، هو سبب غريب وأجنبي وخارجي، لكنّ مبادئ التضامن أملتها علاقة الألمان الخاصة والداخلية والمحلّية باليهود نساء ورجالًا. من المفيد أن نحدّد طبيعة هذا التضامن: لماذا يصفه هبرماس بأنّه تضامن “مفهوم بشكل صحيح”؟ كيف يجمع بين “الصحيح” (recht)، أي النابع من “حقّ” (Recht) ما، وبين “المفهوم” أو ما يجب علينا أن “نفهمه” بشكل صحيح، أي في “أفق الفهم” الخاص بالألمان من جهة علاقتهم باليهود رجالًا ونساء؟ علينا أن نلاحظ أنّ هبرماس يفضّل هنا مصطلحًا تأويليًّا هيمن على الفكر الألماني من شلايرماخر إلى غادمير، ألا وهو مصطلح “الفهم”. الفهم مشكل هرمينوطيقي وليس مشكلًا تحليليًّا: نحن لا “نفهم” إلاّ ما ينتمي إلينا، ما يكون جزءًا من قصتّنا الخاصة، من تاريخ شعبنا. لذلك فإنّ “التضامن” ليس أيّ تضامن، بل التضامن الذي “نفهمه جيّدًا” أو “بشكل صحيح” بفضل “حقّ” أصلي أو قومي في الفهم. نحن لا نفهم خارج ما ننتمي إليه. ولذلك هو تضامن مفهوم جيّدًا في أفق الانتماء الألماني نفسه بوصفه في علاقة متميّزة باليهود رجالًا ونساءً.
ولكن لماذا هذه الإشارة الجندرية عند الحديث عن اليهود؟
هم نساء “يهوديات” ورجال “يهوديون”. تبرز دلالة هذه “الجندرة” عندما نقابلها بطريقة الحديث عن الفلسطينيين: في البداية، لم يكن ثمّة حديث إلاّ عن “حماس”- هكذا بشكل مجرّد، مثل اسم غريب، لا هو أنثوي ولا هو ذكوري، اسم منظّمة غريبة، خارجية، تقف في “اللاّمكان”، تقبع خارج أفق “المبادئ الأساسية للتضامن” الألماني، لأنّها تعتمد “القسوة التي لا مثيل لها” و”الهجوم” على إسرائيل التي تكتفي هنا بمجرّد “ردّ الفعل”. إنّ هبرماس قد بدأ باتّخاذ موقفه منذ أوّل جملة: إنّ كلامه هنا ليس “فلسفيًّا” بل خصومي- نعني لا يخلو من حسّ “هجومي” وبالتالي من “قسوة” خطابية صريحة. إنّ بيانه هجومي ويكشف منذ أوّل وهلة عن “موقفه”: هو لا “ينحاز” إلى طرف دون آخر، بناءً على تبريرات وحجج نظرية وتاريخية؛ بل يبدأ بتبرئة إسرائيل أخلاقيّاً وفق معجم أوروبي كلاسيكي في الحديث عنها، هو معجم “الضحية”. لكنّ الأمر يزداد دلالة عندما يعلن أنّ: “مجزرة حماس بنيّة واضحة إلى تقويض الحياة اليهودية بعامة، قد دفعت إسرائيل إلى الردّ”.
لم يعد هبرماس يتحدّث عن “اليهود” رجالًا ونساء بل عن “إعدام الحياة اليهودية بعامة”: يتّهم حماس بأنّها تمتلك “نيّة واضحة” تدعوها إلى “تقويض الحياة اليهودية”، واللفظة بالألمانية أكثر حدّة: هو يقول ” vernichten” أي “إعدام” الحياة اليهودية بعامة. كذا هو لا يرى في حماس أيّ معنى من معاني “المقاومة” لأنّه لا يرى في إسرائيل أيّ معنى من معاني “الاحتلال”. تبدو حماس اسمًا بلا انتماء، ولا جندر ولا شعب: هي عنوان “مجزرة” في مقابل إسرائيل التي “تردّ” الاعتداء فقط.
من أين أتى هبرماس بكلّ هذا السخط على أناس يدافعون عن أرضهم ضد الاحتلال، بكلّ هذا التجاهل لمعاناتهم؟
يقول: “على الرغم من كلّ القلق على مصير السكّان الفلسطينيين فإنّ مقاييس التقويم تختلّ تمامًا عندما ننسب إلى التصرّف الإسرائيلي نوايا بالإبادة”. لأوّل مرة يُشار إلى طرف آخر غير حماس: لكنّ “الفلسطينيين” هنا هم بالنسبة إلى هبرماس هم “سكّان” (Bevölkerung) وليسوا “شعبًا” يمكن الانتماء إليه. وبما أن “هم” مجرّد سكّان فهم في تقدير هبرماس لا علاقة لهم بما فعلته حماس إلاّ كضحايا. هم “يسكنون” ذلك المكان المجرّد الذي لا يشير إلى أيّ “أرض” بعينها، هم سكّان دون أيّ تحديد آخر. ولذلك فإنّ “القلق” على “مصيرهم” ليس اعترافًا سياسيًّا بوجودهم هناك؛ بل فقط تعبير أخلاقي عن “تضامن إنساني” معهم لا ينطوي على أيّ “حقّ” في مقاومة “التصرّف الإسرائيلي”. مجرّد مساحة بشرية لا تملك الحق في الدفاع عن نفسها، لأنّ إسرائيل هي التي وقع عليها “الهجوم” ومن ثمّ إنّ تصرّفها هو “ردّ مبرّر من حيث المبدأ” (prinzipiell gerechtfertigter Gegenschlag). هنا يأخذ التضامن محتوى محدّدًا: لم يعد نابعًا من المشترك الذي يجمع اليهود مع الألمان (منذ الهولوكوست) بل من “حق” إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد هجوم قاس من منظمة تُدعى حماس، تقف في اللاّمكان، وتتسبّب في تعرّض “السكّان الفلسطينيين” إلى ما يدعو إلى “القلق”.
نحن أمام عمى بلاغي ينصب خطاباً تضامنيًّا مع كيان محتلّ لأرض شعب آخر؛ وذلك عبر إسقاط منهجي لمبدأ التضامن مع اليهودي واليهودية الألمان بعد 1945 على مبدأ التضامن مع إسرائيل بعد هجوم حماس. إنّ هبرماس على بيّنة من أنّه يطمس الفرق الأخلاقي والسياسي بين يهود ألمانيا ويهود إسرائيل.
هل هذا مجرّد انزلاق أم هو “موقف” مفهوم جيّدًا؟
علينا أن ننزّل “موقف” هبرماس -متى أردنا فهمه وليس محاكمته- في السياق العميق لتجربته الفلسفية: “تجربته” وليس “نظريته”. كيف تحمّل مسؤولية تفكيره، وليس: هل كان ما قاله مطابقًا للحقيقة؟ مثلًا: إنّ هبرماس لا يعرف من “الاستعمار” إلاّ “الاستعمار الداخلي” أي سيطرة التقنية على الحياة اليومية في الأزمنة “الحديثة”. مثلًا: هو لا يتردد في المحاكمة الأخلاقية لموقف هيدغر مع النازية، قائلًا: “هذا الموقف الصارم من الوحدة بين الأثر والشخص يبدو لي غير منصف وغير متفق مع استقلالية الفكرة، وقبل كل شيء مع تاريخ تأثيره”. هو يدعونا إذن إلى الفصل بين المؤلف وأثره؟ إذن: أين يجدر بنا أن نضع مسؤولية الكاتب عمّا يقوله بشأن “موقف” من حدث خارج عن تفكيره الخاص؟
قال مستدركًا:”أنا لا أنكر مقدار المسؤولية التي يحملها المؤلف الذي لا يستطيع أن يستجيب أثناء حياته للنتائج غير المقصودة لتعبيراته؟”
إنّ “تحمّل المسؤولية” مشكل لا علاقة له بالتفكير: هو “موقف”، ولو بالغياب، بعد موت المؤلف. كل كاتب هو مسؤول عمّا ينتج عن أقواله. ما معنى ذلك؟ هو “أن يستجيب أثناء حياته للنتائج غير المقصودة لتعبيراته”. “الموقف” هو استجابة – أثناء حياة المؤلف- للنتائج غير المقصودة لتعبيراته. هذا في حالة هيدغر. ولكن لو طرحنا الأمر الآن في حالة هبرماس، و”الموقف” الذي سجّله دفاعًا عن “إسرائيل”؟
طبعًا، لم يعد يمكننا تبرئة ساحة هبرماس أخذًا بتوصيته بشأن هيدغر: أنّه “بين الأثر والشخص لا يجوز أن يُقام ارتباط متسرّع وقصير الرؤية”. وذلك بعد أن تبيّن لنا وجه المسافة الفاصلة بين “التفكير” و”الموقف”. نحن نملك حقًّا أخلاقيًّا في محاسبة “الموقف”، وإنْ كنّا لا نملك حقًّا معرفيًّا للخلط بين الأثر والشخص. بهذا المعنى لم يتردد هبرماس في محاسبة هيدغر متسائلًا بشكل إنكاري وعلى نحو لا يخلو من التهكّم:
“هل يمكن أن نفهم القتل المنهجي للملايين الذي أصبح لدينا كلنا علم به بوصفه ضلالًا قدَريًّا منبثقًا من تاريخ الوجود؟ أليس هو الإجرام الفعلي لأولئك الذين اقترفوه عن سابق تصميم- ويمثّل الضمير السيّئ لشعب بأكلمه؟”
يفصل هبرماس هنا بشكل صارم بين “التفكير” الفلسفي (الذي له استقلاليته) وبين “الموقف” الذي يتعلق بحدث “مجرم” ويقع على مستوى “الشعب” وليس على مستوى “المفهوم”. ومن ثمّة صار من واجبنا أن نسأل هبرماس: ما هو “موقفك” من أحداث غزّة؟ وعليه أن يجيب بمعزل عن “نظريته”. لكنّ هبرماس قد سلك المسلك الذي سلكه هيدغر إزاء النازية، إذْ يقول عنه: “هايدغر في الحقيقة لم يعط جوابًا لا سابقًا ولا لاحقًا عن التساؤل حول موقفه من القتل بالجملة الذي قام به الحزب النازي” ( !)
علينا إذن أن نعثر عن هذا الجواب بوصفه “مشكلًا صامتًا” (حسب تعبير نيتشه) يجب أن نجرّه إلى الخطاب. وهو يتمثّل لنا في أربعة مواضع: 1. “الدّيْن” الفلسفي الألماني تجاه اليهود؛ 2. الشعور بالذنب إزاء “المحرقة”؛ 3. أنّ القوانين الأخلاقية لا تكون “كونية” إلاّ إذا منعت وقوع “الإبادة” مرة أخرى؛ 4. التأكيد على الطابع السلمي لأيّ “عصيان مدني”.
ما فتئ هبرماس “المتفلسف” يؤكّد على “الدَّين” تجاه المفكّرين اليهود (وخاصة أدورنو) ولكن هو دَين رسم له خطًّا يمتدّ من هيغل إلى مفكّر مدرسة فرنكفورت عبر زيمل وآخرين. يبدو هبرماس “الفيلسوف” – بعبارة هيدغر- “كائنًا مدينًا”، وبهذا التوصيف هو “يقف” دومًا من “اليهود” (رجالًا ونساءً) موقفًا مدينًا لما تعلّمه الألمان بعد 1945 من المفكّرين اليهود “العائدين من الهجرة” أو “الذين هاجروا من جديد” إلى ألمانيا ما بعد النازية. قال عن الجذر اليهودي للفلسفة الألمانية: “نعدّ فلسفة هيغل نتاج تجربة عظيمة معيّنة مركزيًّا للتاريخ الأوروبي للروح يفترض أنّها أبدعت تركيبًا بين الإيمان اليهودي وبين الروح الإغريقية”. ويقول عن الفلاسفة اليهود العائدين من الهجرة: “نحن الأصغر سنًّا استطعنا أن نمشي على الطرقات التي شقّها المهاجرون (…) لقد كان لهم موقع أخلاقي لم يتعرّض لأذى وعلّمونا من جديد أن نجد صلة وصل مع التقاليد المحطّمة”. منذ 1961، عمل هبرماس على توعية الألمان بالإرث اليهودي في الفلسفة الألمانية؛ إرث يحمل توقيعات: مندلزون، كوهان، رزنزفايغ، بنيامين، زيمل، أدورنو، هوركهايمر…
لكنّ هذا “الدين” قد اقترن بظاهرة ألمانية أخرى هي “مسألة الشعور بالذنب”(die Schuldfrage) تجاه “المحرقة” التي أصابت يهود ألمانيا نفسها، وهو وعي حاد بالجريمة الألمانية يتقاسمه بقوة مع كارل ياسبرس. وما يراهن عليه هبرماس اقتبسه على لسان أحد اللاهوتيين الألمان الذين يشاركونه هذا الشعور هو غليبه موللر- قال:” يجب أن نحوّل شعورنا بالذنب إلى شيء إيجابي، شيء ما يدفعنا لكي نحارب ضد الشروط التي أنتجت الذنب. وهذا يمكن أن يحدث عندما نمضي سريعًا نحو تضامننا مع أولئك الذين عانوا جميعًا وماتوا الآن وقبل ذلك. هذا التضامن أو الصداقة تحتوي بنفسها على قوة مسيانية من شأنها أن تحوّل كل شعور سلبي بالذنب إلى صراع إيجابي ضد الشروط المنتجة للذنب”.
هذا يدفعنا إلى الافتراض التالي: أنّ مفهوم “التضامن” الذي استعمله هبرماس هنا كما في البيان حول “طوفان الأقصى”- الذي تعامل معه كحدث نكرة أخلاقيًّا ولاهوتيًّا وسياسيًّا وقوميًّا-، هو مفهوم مستعار من المعجم اللاهوتي. والأغلب عندنا أنّه مفهوم مستعار بشكل مضاعف: من اللاهوتيين، ولكن أيضًا من فلاسفة مثل هوركهايمر الذي استعاره هو بدوره من شوبنهاور.
إذن، ماذا يعني “التضامن” بوصفه “موقفًا” فلسفيًّا؟
في هذا المقام الذي تحرّك فيه هبرماس، كما استقاه من هوركهايمر، يجري التضامن “مع المخلوقات القابلة للأذى والمتروكة والتي تجري إثارتها للنهوض ضد الظلم المحيق بها”. إنّ هبرماس يتحدّث عن التضامن “خارج” معجمه: لأنّ معجمه الخاص الصارم هو معجم كانطي: حيث على الفيلسوف أن يطالب فقط بشيء من “الاحترام المماثل لكل إنسان”.
لكنّ هبرماس لا يعوّل كثيرًا على موقف لا يمكن حمايته قانونيًّا. ولذلك فإنّ “موقفه” قد جاء في نطاق مسلّمة قانونية يعتبرها “كونية”- قال:” القوانين الأخلاقية (…) يجب عليها، عندما تزداد الأمور سوءًا، أن تكون قادرة على منع شيء مثل المحرقة (Shoah) من الحدوث مرة أخرى. وإلا كانت بلا قيمة وليس لوجودها مسوّغ.” هذا “الموقف” كان يتمتّع بمصداقية كبيرة عندما التزم به هبرماس إبّان العدوان الأمريكي على ليبيا سنة 1986.
قال: “الإجراء الذي اتُّخذ ضد ليبيا، أنا أعدّه كارثيًّا لدرجة جعلتني أشارك، وللمرة الأولى منذ سنوات، في مظاهرة. فهذا الإجراء قد انتهك القانون الدولي (…) وقد تعمّد، على سبيل المثال، تعريض حياة الأبرياء للخطر وبصورة غير مسؤولة، وهذا أمر لا يمكن تسويغه تحت أي ظرف من الظروف”. وهو يبلغ حدًّا من السخط بحيث يصف السياسة الأمريكية عندئذ بأنّها “لا تعدو أن تكون فلسفة راعي بقر”.
وهو موقف تكرّر مع حرب أمريكا على العراق: حيث يقول هبرماس إنّ إدارة بوش قد دفنت مشروع كانط عن السلم الدائمة.
نأتي الآن إلى الموقف من غزّة. أليس من “حقّ” المظلومين أن يدافعوا عن أنفسهم؟
يحرص هبرماس على تحديد الطريقة المستساغة من الدفاع عن النفس، ولذلك هو نفسه قد دعا في أوروبا الديمقراطية إلى نوع من “العصيان المدني” للدفاع عن الحقوق. ومن المفيد أن نورد تعريفه للعصيان حتى نناقشه.
قال: “أوّلًا لا يمكن تأسيس العصيان المدني على رؤية للعالم اعتباطية وخاصة، بل على مبادئ ترتكز على الدستور نفسه فقط. ثانيًا: يتميّز العصيان عن العمل الثوري، أو عن التمرّد، تحديدًا بنبذه الصريح للعنف (…) ثالثًا: إنّ وضعًا (…) حيث يصبح التمسّك بالقانون ليس هو الأساس الأسمى فقط، بل والوحيد لإضفاء الشرعية على النظام القانوني، يبدو لي وضعًا إشكاليًّا للغاية”.
الآن: ليس “كيف نفسّر صمت هبرماس حول الإبادة في غزة؟”، فهذا ممكن حجاجيًّا- بل: ماذا يمكن أن “يعني بالنسبة إلينا” هذا السكوت؟