صدر الكتاب حديثاً عن منشورات النهضة في بيروت.
تتقصّى هذه الدّراسة التي ظاهرة مسرح العبث في الحقل المسرحيّ العربيّ، أشكال استقباله نقدًا، مناهج التّنظير له وتقنيّات الكتابة المسرحيّة لدى خمسة من الكتّاب المسرحيّين العرب وهم: توفيق الحكيم وصلاح عبد الصّبور من مصر، سعد الله ونّوس ووليد إخلاصي من سورية، وفؤاد التكرلّي من العراق. تتناول الدّراسة أسئلةً حول طرائق وآليات وأشكال تناول هذه الظّاهرة بين الرّفض والقبول في الخطاب النّقديّ المسرحيّ، في ظلّ حقبة طَرَحت أسئلة جوهريّة حول مفهوم الهوية والخصوصيّة الثّقافيّة من جهة، وضرورة المثاقفة الواعية من جهة أُخرى، فَجاء استقبال هذه الظاهرة تنظيرًا ونقدًا وممارسةً في سياق السّجال الذي دارَ حول مفهومَي التأصيل والاستنبات.
بدايةً، تتطرّق الدّراسة إلى إشكالية انتقال الظّاهرة المسرحيّة التجريبيّة- الحداثيّة، المسمّاة بتيّار العبث، والقادمة من أوروبّا إلى البلاد العربيّة، وذلك في سياق قراءة ما بعد كولونياليّة ونتيجة المُثاقفة التي “أخصبَت” تجربة المسرحيّين العرب. عرضت الدراسة للمناخ السياسيّ الذي تكوّنت نواته في خمسينات القرن العشرين، ثم تفجُّر الوعي والأحداث السياسيّة من حروب وثورات وطَرح أسئلة الهوية والقوميّة والتدخّل الغربيّ. أثّر كلّ ذلك على سعي الكتّاب المسرحيّين في البحث عن آليات تردع هذا التدخّل من خلال المسرح وذلك عبر خلق أشكال نصيّة-فنيّة مسرحيّة تعبّر عن تطوير هويّة خصوصيّة للمسرح العربيّ وإلغاء النموذج المسرحيّ الجاهز، أي تفريغ الشّكل المسرحيّ القديم وشحنه بالجديد.
منذ منتصف خمسينات القرن العشرين، برَزَ أحد أهمّ السّجالات على مستوى النّقد والتّنظير والممارسة المسرحيّة العربيّة بشأن الحاجة إلى تبنّي أشكال مسرحيّة طليعيّة جديدة في مرحلة افتقَدَت إرساءَ قواعد ونظم جديدة تقوم عليها كتابة دراميّة عربيّة مغايرة تعتمدُ أشكالاً فنيّة جديدة تُبرز الهويّة العربيّة للمسرح. في هذه الحقبة المفصليّة، تأسّست الجهود التنظيريّة في المسرح على مستويين: المستوى التأصيليّ، وهو البحث عن مفهوم محدّد لهويّة المسرح العربيّ ينسجم مع الثقافة العربية، سواءً عبر استلهام التراث العربيّ ومكوّناته وتوظيفه مضمونًا أو قالبًا بما يتلاءم مع الواقع العربيّ ومشكلاته السياسية والاجتماعيّة والنفسيّة. أمّا المستوى الثاني فهو الاستنباتيّ، والذي يتمثّل باستيعاب التجربة المسرحيّة الغربيّة والاستفادة منها سواء كنصّ مكتوب أو كنصٍّ معروض.
من هنا طَرح الكتّاب المسرحيّون مسألة ضرورة تأصيل مسرح عربيّ يقوم على التوازن والموازنة بين الشكل والمضمون. لكنّ تأثّر المسرحيين بالتيارات المسرحيّة والأدبيّة القادمة من الغرب، والرّغبة في تَكوين تجربة تجديديّة على مستوى المَسرح من جهة، والحفاظ على مضامين ذات هويّة محليّة-عربيّة تخاطب الإنسان العربيّ من جهة أخرى، أدخل ظاهرة مسرح العبث، في حيّز “بينيّ”، هو حيّز ثالث، أكسب هذه الظاهرة سمات جديدة على المستوى المَضمونيّ والمورفولوجيّ بصفتها ظاهرة دَخلت في نطاق ما سمّاه الباحث والناقد هومي بابا ب”الهُجنة الثقافيّة”.
طرح بابا مفهوم الهُجْنَةِ جرّاء أشكال الاستعمار المختلفة، حيث عادةً ما يؤدي وجود الاستعمار إلى تبادل وتنافر ثقافيّين في نفس الوقت. عندما تفشل السّلطة الاستعماريّة في خلق ثقافة مستَعمَرة مطابقةٍ لثقافتها، في محاولةٍ منها لتأكيد السّلطة الاستعماريّة، فإنّ ما ينتج عمليًا هو هويّة هجنيّة جديدة دامجة لعناصر مشتركة بين الثّقافة المهيمنة والثّقافة الخاضعة. تتموضعُ هذه الهويّة الجديدة في مكان مختلف اصطلح على تسميته بـ “الحيّز الثّالث” (Third Space). يُعتبر الحيّز الثالث منطقة بَيْنِيَّةً ذات سمات خاصّة تجمع بين الثّقافتين نافيةً بذلك سِمَةَ النقاء والأصالة (Essentialism) عن جميع أشكال الثّقافة. يناقض مفهوم الحيّز الثالث المفاهيم السّائدة حول الثّبات في الهويّة الثّقافيّة انطلاقًا من مفهوم الخطاب ما بعد الاستعماريّ الذي ينصّ على أنّ نقاء أيّ ثقافة أو هويّة هما محلّ نزاع وليسا أمرًا مفهومًا ضمنًا. من هنا، يعتمدُ ادّعاء الحيّز الثالث على طرح مفهوم جديد للهويّة الثقافيّة في سياق الكينونات الثقافيّة التي خاضت مراحل استعمار (جغرافيّ وفكريّ وثقافيّ)، فهي من جهة فقدَت صفاتها الأصليّة بتأثير الثقافة المستعمرة (الغربيّة في هذه الحالة)، ومن جهة أخرى رفضت بناء نموذج ثقافيّ لها مطابق للنموذج الثقافيّ للمستعمر، ممّا خلقَ هويّة وسطيّة تنطوي بفعل التهاجن على إشكاليّات ومفارقات وتباينات في طرق تحديد شكلها ومدى استيعابها.
لذلك، نشأت هويّة مسرحيّة عربيّة ذات خصائص وأبعاد متعددة في كتابات وبيانات ونصوص المسرحيين نقدًا وتنظيرًا وتطبيقًا انطوت على إعادة إنتاج لمفهوم الهويّة وخصوصيّتها. من هنا، عرضت الدراسة لأشكال الخصوصيّة التي اتّسمت بها الكتابة المسرحيّة في هذا المجال، تحديدًا فيما يتعلّق بظاهرة مسرح العبث العربيّ في ستينات القرن العشرين، حيث نجد أنّ المسرحيّين حاولوا من خلال تبنّي فكرة “التجريب” و”تلقيح” التربة المسرحيّة العربيّة، بناء هويّة مسرحيّة عربيّة أو شكل دراميّ جديد له رؤية ودلالات حداثية جديدة.
ظهر العبث كاتّجاه مسرحيّ لأوّل مرّة على يد توفيق الحكيم الذي قدّم له وشرحه في مقدّمة مسرحيّته يا طالع الشّجرة التي انطوَت على إشكاليّات وتفاوتات في مجالَي التنظير والممارسة، حيث انسحب ذلك أيضًا على أشكال التناول النقديّ لهذه المسرحيّة فتراوحت تفسيرات الشارحين وتحليلات النقاد للمسرحيّة وللمقدّمة بين مؤيّد ومعارض. شكّلت تجربة الحكيم في مسرح العبث تجربة تأسيسيّة في هذا الاتّجاه ولهذا كانت أكثر المسرحيّات تعرّضًا للتناول النقديّ والبحثيّ في السنوات اللاحقة. حاولتُ أن أوضّح من خلال نموذج مسرح العبث عند الحكيم حتميّة دخول هذا المفهوم في فضاء جدليّ بحكم هجرته إلى بيئة ثقافيّة مختلفة عن بيئة منشئه نتيجة حدث المثاقفة مع الغرب. هذا الأمر أدّى إلى بروز سمات جديدة لهذا الاتّجاه المسرحيّ اختلف عن سماته القديمة بحكم وجود أكثر من مكوّن ثقافيّ صقل بنيته الجديدة.
غطّت هذه الدّراسة ثلاث نواحٍ مركزيّة في عمليّة استقبال مسرح العبث داخل الحقل المسرحيّ العربيّ:
-
التنظير، الذي مارسه الكتّاب المسرحيّون الّذين تأثّروا بهذا التيّار.
-
النقد، الذي تميز بوجود نقّاد استقبلوا هذا التيّار بين مؤيّد له ومُعارِض، الأمر الذي أثّر على عمليّة تقبّل هذا التيّار الغربيّ. كان للسلطة الرمزيّة التي يتمتّع بها النقاد والمنظّرون، بصفتهم فاعلين مركزيّين في الخطاب النقديّ، أثر كبير في استقبال تيّار العبث والنصوص المسرحيّة.
-
التطبيق، الذي تمايزت فيها أشكال الكتابة المسرحيّة في سياق تيّار العبث عند الكتّاب المسرحيّين الخمسة، وأفرزت أشكالاً مختلفة هي خليط هجنيّ بين الشّكل والمضمون.
على مستوى التنظير، سعى توفيق الحكيم نحو فكرة تأصيل المسرح العربيّ وإرساء دعائم له من خلال الاعتراف بضرورة التأثّر بالمسرح الأوروبيّ، ثم ضرورة تجاوزه من خلال البحث عن قوالب وأشكال جديدة تنهل من التراث الشعبيّ والدينيّ. من خلال تنظيره لهذا المسرح، وقع الحكيم في لبس حول مسرح العبث والغاية من وراءه، حيث حاول بشكلٍ ما، الفصل بين فلسفة العبث وأسلوبه ومحاولة إحداث التوازن بين الأسلوب العبثيّ والمضمون الواقعيّ. من هنا، أحدثت محاولات الحكيم لصياغة نوع خاصّ من مسرح العبث أو اللامعقول على حدّ تعبيره، انقسامًا على صعيد النّقد بين مبرّر لاستخدام العبث ومعارض له ممّا جعل نقّاد المسرحيّة يطرحونَ أسئلة ومساءلات جوهريّة حول منهج الحكيم في هذا الاتّجاه المسرحيّ.
أمّا صلاح عبد الصّبور، فقد حاوَل أن يقيمَ رؤية تأصيليّة للمسرح العربيّ تجمع بين الشّكل أو القالب المسرحيّ الغربيّ وبين الموروث والمضمون العربيّين. من خلال قراءة رؤية عبد الصّبور المسرحيّة، لاحظنا في تنظيره دعوته لتأصيل المسرح العربيّ بالمزاوجة بين الشكل المسرحيّ الغربيّ وبين المضمون العربيّ الذي يتناسب مع القضايا الآنية الملحّة. لكنّ عبد الصبور لم يقدّم بديلاً عن الشّكل الغربيّ المستورَد، وهو ما اصطلحنا على تسميته في هذه الدراسة بالتأصيل “التحويريّ” الذي يعمل على استلهام التراث والاستعانة بمصادره مع إدخال تعديلات عليه بما يتناسب مع واقع الإنسان العربيّ وبيئته، مع الإبقاء على الشّكل الفنيّ المسرحيّ المستورَد. في سياق مسرح العبث، جاءت تجربة عبد الصبور موغلة في العبث الرّمزيّ مع نزوع نحو التّجريد، دون أن يكتسب المنحى التأصيليّ حضورًا معمّقًا.
أمّا الكاتب السّوريّ وليد إخلاصي فقد وقعت تجربته التنظيرية المسرحيّة في خانة الحداثة والتّجريب ونادى فيها بممازجة السّمات الشّكليّة والمضمونيّة لمسرح العبث الغربيّ، مع أشكال وتقنيات فنيّة حداثيّة أخرى كَسَرت الشّكل المألوف للنصّ المسرحيّ وبنائه الدراميّ.
بالنسبة لسعد الله ونّوس، فقد سَعى منذ بداية مشواره إلى تأسيس مسرح عربي لا تتعارض فيه الأصالة مع المعاصرة، بحيث تتماهى أشكال الحداثة مع هويّة المسرح العربيّ دون أن تفقده خصوصيّته. ارتبطت مرحلة الكتابة الأولى عنده بمَسرح العبث، وامتاز فيها بكَونه “ذاتًا حداثيّة” رَبَطَت بين شكل تجريبيّ حداثيّ وبين الهموم المحليّة مع المحافظة قدر الإمكان على خصوصيّة الطّرح. جاء الجانب العبثيّ في مسرحيّات ونّوس الأولى “غلافًا” للواقع وقضاياه ومتنفّسًا أظهر معاناة الفرد والجماعة وأزمتهما في إحداث التّغيير الحقيقيّ على الصعيد الواقعيّ.
أخيرًا، جاءت تجربة الكاتب العراقيّ فؤاد التكرلّي المسرحيّة تجربة حداثيّة تجريبيّة أبرزت مسرحًا عبثيًا بمقاييس أسلوبيّة غربيّة بحتة، مع التّوفيق في إبراز إشكاليّات وأزمات المجتمع الذي عاصره التكرلي.
إلى جانب ذلك، حاولت الدراسة استقصاء مفهوم الحقل، وفق نظريّة عالم الاجتماع الفرنسيّ بيير بورديو، في المسرح العربيّ وخطابه التنظيريّ والنقديّ. يعود السبب في ذلك إلى حقيقة الجدل الذي أثارته ظاهرة مسرح العبث (أو دراما اللامعقول) والتنظير لها بين مؤيّدين ومعارضين داخل الحقل المسرحيّ العربيّ في ستينات القرن العشرين. ولِكَي نفهم الدّور المركزيّ الذي لعبه المسرحيّون العرب الّذين تناولتهم هذه الدراسة، في عمليّة التّعريف بمسرح العبث من خلال بياناتهم ونصوصهم المسرحيّة، كان لا بدّ من تقديم تحليل للفضاء الاجتماعيّ (التنشئة الاجتماعيّة) والتراكمات الثقافيّة (رأس المال الثقافيّ) التي ميّزت كلاً من هؤلاء الكتّاب المسرحيّين، وهو الأمر الذي حدّد مراكزهم وثرواتهم الثقافيّة داخل الحقل المسرحيّ، كلاعبين مركزيّين معترف بهم في سياق الحقل المسرحيّ عمومًا وفي سياق مسرح العبث خصوصًا. تتيح لنا هذه النظريّة الوافدة، فهم العلاقات والتفاعلات التي تمّت في سياق خطاب التنظير والنقد، والاستراتيجيّات المتّبعة من قبل الفاعلين (الأعوان) داخل هذا الحقل، كلّ وفق حدود منصبه ونفوذه ومُجمل ثروته الرمزيّة داخل الحقل، لقوننة هذا المفهوم الجديد، أو لعرقلته. يشكّل الحقل المسرحيّ صراعًا حول الوافد الجديد في محاولته اختراق الثابت والتقليديّ داخل الحقل المسرحيّ وانتزاع مكانة له عبر الأعوان واللاعبين داخله. من هنا، كان لا بدّ أن نكشف عن علاقات القوّة بين الأعوان داخل الحقل في لحظة تاريخيّة محددة، هي السنوات التي ظهر فيها مسرح العبث أو اللامعقول، ومحاولة تحديد الديناميكيّة التي حصلت بين أصحاب السّلطة والنفوذ داخل الحقل المسرحيّ وذلك من خلال فحص علاقات القوة والثروات الاجتماعيّة والثقافيّة لكلّ طرف منهم. اتّضح لنا أنّ للسّلطة الرمزيّة ورأس المال الرمزيّ (الثقافيّ بأنواعه والاجتماعيّ بأنواعه) دورًا مركزيًّا في تحديد مكانة الفاعل وفاعليّة خطابه في التأثير على المتلقّي. إلى جانب ذلك، كان هناك دور خاصّ للكفاءة اللغويّة في تحديد وتوسيع دائرة تأثير خطاب الفاعل في الحقل على المتلقّي. في سياق بروز ظاهرة تيّار العبث في الحقل المسرحيّ العربيّ، يلعب هذان العنصران: السلطة الرمزيّة وكفاءة اللغة، دورًا رئيسيًا في قبول الظّاهرة نقديًا أو دحضها.
يتمتّع النّاقد المسرحيّ بسلطة رمزيّة كبيرة تلعبُ دورًا كبيرًا في عمليّة الاعتراف وقوننة كاتب مسرحيّ أو عملٍ مسرحيّ أو بروز اتّجاه مسرحيّ. تتحدّد استراتيجيّات العمل النقديّ للناقد المسرحيّ عبر هذه السّلطة، ووفقًا لكفاءات خطابهِ النقديّ وحجم السّلطة التي يتمتّع بها داخل الحقل النقديّ المسرحيّ. في هذه الدراسة، وبهدف إبراز أهميّة السلطة الرمزيّة، استعرضتُ نماذج بارزة لنقّاد غربيّين ساهموا إلى حدّ كبير في مَركزة أعمال مسرحيّة غربيّة إشكاليّة من حيث التّصنيف، ومن حيث الاستقبال النقديّ الجمعيّ لها. لعبت مساهمة النّقاد والفاعلين في الحقل المسرحيّ من ذوي السلطة الرمزيّة الكبيرة، دورًا في نجاح أعمال مسرحيّة أحيانًا، وفي فشلها في أحيان أخرى، وهو ما يُشيرُ إلى نفوذ النّاقد أو الفاعل الذي يمتلك سلطةً وكفاءاتٍ في حقلِ الخطاب النقديّ المسرحيّ، وإلى قدرته على نقل عمل مسرحيّ من الهامش إلى المركز، وبالعكس. من أمثلة ذلك، نموذج مسرحيّة الأديب الإيرلنديّ جيمس جويس (1882-1941) الموسومة ب “المنافي Exiles” والتي لم تلقَ رواجًا حتى عام 1970 حين أقدم المسرحيّ البريطانيّ هارولد بينتر Harold Pinter على عرضها على مسرح ميرميد Mermaid Theatre ليتمّ الاعتراف بها رسميًا على المستوى النقديّ والجماهيريّ. كما واستعرضتُ عمليّة الاستقبال النقديّ لأشهر مسرحيّات الكاتب المسرحيّ البريطانيّ هارولد بينتر: حفلة عيد الميلاد The Birthday Party وتحوّلها بفعل النّقاد الوسطاء وأشهرهم الناقد هارولد هوبسون، إلى حالة نجاح منقطع النّظير بعد أن وقوبِلت المسرحيّة باستقبال نقديّ هجوميّ حادّ حيث تراوحت الادّعاءات في مجملها على أنّها مسرحيّة تتميّز بعدم الوضوح في لغتها وحبكتها مما أدّى إلى وقف العرض بعد أسبوع واحد فقط.
تبيّن من خلال فحص التحليل النقديّ الذي قدّمه أبرز النّقاد لمسرحيات العبث، أنّ النّقاد يلعبون دورًا مركزيًا في عمليّة التّرويج للكاتب ولأدبه المسرحيّ، وذلك يعود إلى طبيعة رأس المال الرمزيّ الذي يتمتّع به النقاد داخل الحقل النقديّ المسرحيّ ودرجات تفاوتهم في مناصبهم ورأسمالهم الثقافيّ. ما يمكن ملاحظته من خلال قراءات النّقاد للمسرحيين المتناولين في هذه الدراسة ونصوصهم المسرحيّة، أنّ هناك خلطًا في المناهج والمقاربات النقديّة والبحثيّة التي يتبنّاها النّاقد في نفس المقالة، أو النّقاد عمومًا، حيث رأينا منهج التحليل والتفسير والتأويل والمنهج الفنيّ الجماليّ، والمنهج الإيديولوجيّ والإنطباعيّ-الذاتيّ والنفسيّ والنصّي والافتعاليّ وغيرها. يعود هذا إلى طبيعة الخلط بين عدد من الاتجاهات النقديّة عند النّقاد أو الناقد الواحد، ممّا يسبّب في كثير من الأحيان التباسًا في فهم المراجعة النقديّة، أو يُحدث اضطرابا في عملية تلقّيها. بالإضافة إلى ذلك، نرى إجماعًا من قبل النّقاد على تأثير المسرح الغربيّ عمومًا على المسرح العربيّ الذي نشأ في ستينات القرن العشرين. شكّلت عمليّة البحث عن الآخر داخل نصوص هؤلاء المسرحيّين سمة مركزيّة وسائدة في هذه المقالات، لكنّ إحالة المسرحيّات إلى مسرح العبث أو اللامعقول بشكل مباشر كانت ضئيلة، أو تمّ التلميح إليها من خلال التطرّق إلى أثر كلّ من يونيسكو وبيكيت تحديدًا على المسرحيّين العرب. لقد تطرّق العديد من هؤلاء النّقاد إلى الواقع العربي الذي لا يتطابق مع المنطق العبثيّ لمسرح العبث أو اللامعقول، وإلى سعي المسرحيّين إلى تقديم حلول لمآزق مجتمعاتهم سياسيًا واجتماعيًا، في نطاق المعقول.
من هنا، ساهَم النّقاد في تشويش فكرة استقبال وقوننة هذه النّصوص المسرحيّة كنصوص تنتمي إلى تيّار العبث، رغم اعترافهم بأثر المسرح الغربيّ الجديد على المسرح العربي في ستينات القرن العشرين، وهذا يعود، إلى طبيعة واقع المجتمع العربيّ وذهنيّته في استقبال النصّ المسرحيّ المعروض وفكرته، إلى جانب محاولات التوفيق من قبل الكتّاب المسرحيّين بين الجانب الفنيّ لهذا المسرح والجانب المضمونيّ الذي يخاطب المجتمع ومعالجة مشكلاته. هذا الانشطار الحاصل في تيّار العبث، في عمليّة استقباله وتطبيقه ونقده في الحقل المسرحيّ العربيّ، ولّد مفهومًا جديدًا لمسرح العبث يقع في منطقة بينيّة لها سمات وخصائص تتفاوت وتتباين من كاتب إلى آخر.
أما على المستوى التطبيقي، فقد تطرقت الدراسة في الفصل الثالث بالتحليل إلى الشكل والمضمون في مسرحيات الكتّاب المسرحيين الخمسة، وأظهرت وجود أشكال متعددة لمسرح العبث نتجت بحُكم السمة الهجنية التي تمتّعت بها النصوص المسرحيّة. تراوح نصّ مسرحيّة توفيق الحكيم يا طالع الشجرة بين الواقعيّة والعبثيّة، أو ما يمكن تسميته بالعبثيّة الواقعية، والأحداث فيه عبارة عن صراع بين المعقول واللامعقول، بين الواقعيّ والعبثيّ. هذا “التنقل” بين عالمَين، هو الحلّ الوسطيّ الذي يمكن أن نقول إنّه يميّز المساحة البينيّة للنصّ الهجنيّ نتيجة الرؤية الاستنباتيّة للحكيم وسعيه إلى التوفيق بين الموروث الشعبيّ والمضمون المحلّي، وبين القالب الغربيّ التجريبيّ الحداثيّ. تتجلّى المزاوجة بين الواقعيّ والعبثيّ في سلوك الشخصيّات، وطريقة تناول الأحداث والزمان والمكان. كذلك تتجلّى هذه المزاوجة في طبيعة الحوار واللجوء إلى الرمز.
في مسرحيّته مسافر ليل حاول عبد الصّبور أن يستلهم التاريخ ويستخرج منه شخصيّات معروفة لدى المتلقّي من زعماء وقادة وملوك (الاسكندر، تيمورلنك، هتلر، الحجاج، النعمان بن المنذر وغيرهم)، وشعراء (كَذِكره المتنبي) وشخصيّات أخرى حديثة (الرئيس الأمريكيّ لندون جونسون، النازيّ مؤسس الجستابو الألماني هيرمان جورينج) مقتبسًا أقوالَهم. لكنّ هذا الاستلهام يظلّ هامشيًا في نصّ المسرحيّة ولا يعملُ كقاعدة تأصيليّة محرّكة للأحداث. من هنا، يمكن القول إنّه على الرّغم من وجود بعض السّمات التأصيليّة المتجلية في استلهامه التراث التاريخيّ والأدبيّ، إلاّ أنّ عبد الصبور لا يتّخذ من التراث قاعدة لهذه المسرحيّة، بقدر ما يتّخذ من الفلسفة العبثيّة وتقنيّات الجروتيسك ومسرح العبث والأسلوب الحداثيّ التجريبيّ عمادًا لها. من هنا، يمكن القَول أيضًا أنّ عبد الصّبور “استعار” عناصر وقوالب وأساليب مختلفة ودمجها بطريقة الكولاج الأدبيّ جاعلاً منها شكلاً هجنيًا في المسرح العربيّ، وهي رؤية مسرحيّة يغلب فيها العنصر الاستنباتيّ على التأصيليّ الذي يطرح مفهوم العَودة إلى جذور التراث والنهل منه كقاعدة للنهوض بمسرح عربيّ جديد.
أما وليد إخلاصي، فقد انتمت مسرحيّتاه طبول الإعدام العشرة والمتعة 21 إلى التيّار التجريبيّ في المسرح. استعار إخلاصي فيهما ثيمات وأساليب وتقنيّات من أكثر من تيّار: السورياليّ، العبثيّ، الواقعيّ والرّمزيّ، لتكوّن بذلك شكلاً مسرحيًا هجنيًا لا تعتمدُ حمولته على تبنّي تيّار بعينه دون الآخر. هذا الحشد الهائل للأساليب أضفى على المسرحيّتين الإبهام والغموض وأحالهما إلى الأسلوب الحداثيّ في الكتابة خصوصًا ميل الكاتب نحو التكثيف والاقتصاد وبناء التراكيب اللغويّة والمفردات غير المألوفة والتي تعمل على إدهاش القارىء ومَوضعته في أجواء كابوسيّة.
يمكن القول إنّ سعد الله ونّوس تأثّر بالفلسفة العبثيّة ومسرح العبث الذي جاء به بيكيت ويونسكو، لكنّه تأثّر يأتي في سياق القمع السياسيّ والفكريّ والسلطويّ في حقبة الستينات. وجدنا “المناخ العبثيّ” يسيطر على أجواء المسرحيّات، ويسود الجانب الرّمزيّ في تأويل الأحداث، حيثُ مازج ونّوس في لغة الحوار والإشارات بين اللغة المُباشرة التي أفصحت عن نقد تهكّمي لاذع للسّلطة والقانون، وبين اللغة المجازية المشفّرة التي خلقَت إحساسًا بالغموض إلى درجة الإحساس بالتّهديد والخَوف. إلى جانب ذلك، لَمَسنا الحوار الذي اختلط فيه النفس السرديّ بالتكثيف الشِّعريّ، والشخصيّات التي تأرجحت بين الواقعيّ والغرائبيّ، وبين القدرة على الحركة والوقوع في فخ الانتظار والتراجع والعجز عن اتّخاذ فعل ايجابيّ محرّك. لكنّ هذه الأجواء العبثيّة، والكابوسيّة، لا يمكن قراءتها كجزء من تيّار مسرح العبث العالميّ بشكل مطلق، وإنّما يجب تأويلها ضمن المناخ الذي ولّدها وضبطها في إطار الواقع السياسيّ والفرديّ والجماعيّ الذي تناسَب معها. عرض ونّوس من خلال مسرحيّتّي جثّة على الرّصيف و مأساة بائع الدبّس الفقير نماذج لشخصيّات مأساويّة عالجَ من خلالها ما أفرزه الواقع من طبقيّة واستبداد وفساد سياسيّ، ووقوع المواطن البسيط في شِباك أنظمة الحكم المستبدّة والقامعة ونظام دولة العسس والجواسيس. هذا الواقع الذي شهده ونّوس في حقبة الستينات جاء في هيئة نّقد اختلط فيه الواقعيّ بالكابوسيّ، والمعقول باللامعقول، دون السّعي المتعمّد إلى تعميق الفكر العبثيّ لكتّاب مسرح اللامعقول، أو تطوير آليّات الكتابة ضمن هذا التيّار.
أمّا التكرلّي، فقد حاوَل الرّبط في أدبه بشكل عامّ، وفي مسرحه بشكل خاصّ بين أزمة الفرد الروحيّة وبين صراعه مع مجتمع فقد قيمة التواصل وتورّط في التفسّخ والتشظّي القيميّ الجماعيّ. يعمّق التكرلّي هجومه على هذا المجتمع المحلّي من خلال اختيار المناخ العبثيّ وتقنيّات مسرح العبث كوسيلة مثلى للتعبير عن هذا الموقف. قدّمتُ في هذه الدراسة نموذجَين لهذه الكتابة- مضمونًا وأسلوبًا- وهما الصّخرة و زوج السيّدة م، حيث قدّم التكرلّي شكلاً آخر من مسرح العبث كمَسرح مستَورَد من الغَرب ومزروع في تربة عربيّة واجه تحدّيات كثيرة من أهمّها مدى اقترابه من خصوصيّة الهويّة العربيّة ومناخاتها ومدى مخاطبته لمشاكل وإشكاليّات هذه الهويّة. بيّن التكرلّي مدى قربه من الاتجاه المسرحيّ العبثيّ بمقاييسه الغربيّة الحداثيّة ومدى توفيقه في الرّبط بين هذه المقاييس وبين نقده الاجتماعيّ للمجتمع الذي عاصره.
حاوَلَت هذه الدراسة أن تبيّن في ثناياها أسباب انقطاع تجربة مسرح العبث وعدم تبنّيها كخطّ ثابت عند الكتّاب المسرحيّين، الأمر الذي ينبع من تضافر ثلاثة عناصر رئيسيّه: الأوّل هو دور النّقاد الذينَ لم يتفاعلوا تمامًا في دعمهم لهذه الظاهرة، وغياب الإجماع حول مدى أهميّة هذه التّجربة ومساهمتها في تطوّر شكل ومضمون المسرح العربيّ. يعود السّبب في ذلك، كما افترضت الدّراسة، إلى غياب التّراكمات المعرفيّة بسياقها التّاريخيّ والاجتماعيّ لمسرح العبث في الخطاب المسرحيّ العربيّ. العنصر الثاني هو دور المسرحيّين المنظّرين للمسرح وخُفُوت درجة التّناغم بين ما طرحوه في تنظيرهم لمسرح العبث وبين الممارسة الإبداعيّة له، حيث اعتبر هؤلاء المسرحيّون تجربة مسرح العبث تجربة مرحليّة وانتقاليّة سرعان ما مارسوا بعدها أشكالاً أُخرى مغايرة أدّت إلى انقطاع هذه التّجربة. أمّا العنصر الثالث فهو غياب تجربة الجمهور كعامل فاعل ومتلقّي رئيسيّ لهذا النّوع من الكتابة المسرحيّة الذي لم ينجح تمامًا في مخاطبة قضاياه، وذلك بحكم كونه مسرحًا تجريبيًا تجريديًا، وبحكم قلّة الإنتاجات المسرحيّة والإخراج المسرحيّ لهذا النّوع من المسرحيّات.