يعد تعاطي الشعر مع الواقع وخصوصًا القضايا السياسية وجهةً حكمت بالنفي على شعراء كُثر، فعاش مظفر النواب حياة المهربين، وهُرّبت قصائده من القوانين والأنظمة العربية التي عدته خطيرًا عليها؛ حتى عُرف بشاعر القصيدة المهربة، أما أحمد مطر الذي عُرف بشاعر اللافتات، رافق ناجي العلي في منفاه في الكويت ثم لندن، ليتشاركا هم الأمة العربية والقضية الفلسطينية، وعُرف أمل دنقل بأمير شعراء الرفض بقصيدته المشهورة “لا تصالح”، فكان من الشعراء الذين اشتهروا ب”لا” الثورية في القصيدة العربية بصورة تقريرية صريحة.
ولأن قصائد كل من النواب ومطر ودنقل عُرفت ببعدها الاستشرافي للواقع، انطلاقًا من الفهم العميق للواقع السياسي؛ فقد شكل إنتاجهم إرثًا استبق مجريات الواقع العربي في النص الشعري؛ ذلك فيما يتعلق بثورات الربيع العربي التي اندلعت عقب تراكمات القمع السياسي والاجتماعي ، واتخاذ موقف معادٍ ومندد بالتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، وأصبحت فلسطين وعاصمتها القدس البوصلة الأولى في قداسة الرسالة التي حملوها في شعرهم، فحظيت بخصوصية شعرية تخللها استياء من الموقف العربي تجاه ما يحدث في فلسطين، فكيف استبق الشعر عند هؤلاء فداحة ما يجري في الواقع؟ وما هي الحوارية التي خلقوها مع القضايا السياسية؟
بدايات الخروج عن المألوف
انبثقت القصيدة العربية بصورتها الأقرب للواقع من تداعيات الأزمات السياسية والاجتماعية، في فضاء شعري عكس جماليتها باتخاذ موقف بالرفض، والخروج عن النص الملتزم بعدم التعاطي مع الواقع، ما دفع نحو تجديد رحّب باتخاذ موقف سياسي وأكسب الشعر خصوصية حوارية بخروجه عن المألوف؛ فاقترب من الإنسان الممارس عليه صنوف الكبت والقهر الاجتماعي والسياسي، وهو ما أصبغ على القصيدة شعرية خطابية خدمت أدبيتها على صعيد معمارية القصيدة اللغوية وتأويلها.
ويعد الشكل الشعري الذي تحرر من الوزن، الوجهة التي راح إليها الشعراء منذ الستينيات وما بعدها، لما تضمنه الشكل الحر للقصيدة من تحرر في المضمون، وكان للسياقات السياسية والاجتماعية دور في توجه الشعراء الثوري في الموضوعات، ما مهد لكتابة السياسة في القصيدة العربية، وأصبح الشعر أداة المقهورين، فمظفر النواب ابن الطبقة الأرستقراطية فضل الوقوف بصف المقموعين على حياة الترف بكتابة الشعر، وعاش أحمد مطر حياته فقيرًا في وطنه ومنفاه في سبيل كتابة الحقيقة شعرًا.
بشكلٍ سابق على هؤلاء، كان التجديد في الشكل الشعري الذي قدمه كل من نازك الملائكة وبدر شاكر السياب لحظة فارقة في تاريخ دراسة القصيدة العربية، التي انتقلت من الالتزام بالتفعيلة للشكل الحر، وأصبحت الثورة على شكل الشعر الملتزم منطلق التجديد الذي أخذ الشعر من الموضوعات الضيقة نحو اتجاهات، اكتسبت زخم موضوعاتها من تحرير الشكل الشعري، فشهد الشكل الجديد للقصيدة العربية حضورًا محدودًا للقضايا الاجتماعية مع بث القضايا السياسية في مضمونها على يد السياب، إلا أن النقلة التجديدية الأكبر في المضمون جاءت على يد عبد الوهاب البياتي الذي جعل من القصيدة العربية فضاءً لاستيعاب الانتكاسات والهموم العربية بكافة محطاتها الاجتماعية والسياسية والثقافية، وهو ما كان ملهمًا للشعراء من بعده؛ في التجديد برسالة الشعر.
وأعلن بذلك الثالوث العراقي (الملائكة، السياب، البياتي) عن ولادة الحداثة في القصيدة العربية، وهي حداثة استمدت تشعبها من عواقب ما آلت إليه الحربان العالميتان على الواقع العربي وضياع فلسطين، وتراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية كقضية من المفترض أنها جامعة للأمة العربية على الوحدة، وتردي الواقع الاجتماعي في ظل السلطات، ما انعكس على الأدب بما في ذلك الشعر، بصورة أحدثت شرخًا بشّر بولادة واقع ثوري جديد للقصيدة العربية.
الموقف من التطبيع العربي
لم تنحسر انتكاسات الواقع العربي؛ ما كان له أثر جلي على القصيدة العربية، فتعددت انتفاضاتها بتعدد انتكاسات الأمة العربية، فكانت نكسة حزيران 1967 خيبة رمت بظلالها على الأدباء والشعراء، وما تلاها من تهميش الشعوب العربية وموقفها من رفض إسرائيل، انعكس في تكريس الشعر للتعبير عن الجماعة بلسان الشاعر والأديب، فكتب دنقل قصيدته المعروفة “لا تصالح”؛ ليندد بالسلام مع العدو الإسرائيلي، وليأخذ موقف باسم الشعوب الرافضة لسياسة التفاوض مع الاحتلال، فخاطب فيها أنوار السادات وطالبه باستعادة ما راح من سيناء، وعدم التخلي عن فلسطين، وتجازو ذلك ليخاطب كل من له سلطة في الحكم، معاتبًا التخلف عن الانتفاضة ضد الاحتلال الإسرائيلي لأجل الأرض المقدسة:
لا تصالحْ!
..ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى..:
ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك،
حسُّكما فجأةً بالرجولةِ،
هذا الحياء الذي يكبت الشوق.. حين تعانقُهُ،
الصمتُ مبتسمين لتأنيب أمكما.. وكأنكما
ما تزالان طفلين!
تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء..
تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!
أما في قصيدته “أقوال اليمامة” أخذ منحى دعوة الشعوب واستنهاضها لعدم التخلي عن فلسطين مقابل إحلال السلام الكاذب مع المحتل الإسرائيلي، كما فعل السادات باتفاقية كامب ديفيد، فعمد إلى التراث باستحضار حرب البسوس والثأر ليجعل من الثأر لفلسطين والتنديد بالسلام مع العدو موضوعًا للقصيدة:
أبى .. لا مزيد !!
أريد أبى .. عند بوابة القصر
فوق حصان الحقيقة
منتصبًا من جديد …
ولا أطلب المستحيل ، ولكنه العدل :
هل يرث الأرض إلا بنوها .. ؟
ولا تناسى البساتين من سكنوها .. ؟
وهل تتنكر أغصانها للجذور ..
لأن الجذور تهاجر فى الاتجاه المعاكس ؟
لهذا؛ عُدّت قصائد دنقل وخصوصًا قصيدته “لا تصالح”، بمثابة شعارات خطابية تبنتها الشعوب في وجه السياسات التعسفية التي مارسها الاحتلال على الشعب الفلسطيني ؛ بما في ذلك الحروب التي شنها الاحتلال على قطاع غزة وسياسة التعنيف الممارسة في الضفة الغربية والأراضي الفلسطينية المحتلة، ورفض سياسة التطبيع مع العدو الإسرائيلي وخصوصًا التي تصاعدت في السنوات الأخيرة، والتي لا زال يدفع الفلسطيني ثمنها من دمائه وأبنائه وأرضه، إذ لم تحقق أي من اتفاقيات التطبيع أي حقوق للفلسطينيين ولم تسترد ما سلب منهم؛ فعدت قصائد دنقل بمثابة خطابات راهنة وجسر بين الماضي والحاضر بالموقف الرافض للتطبيع العربي، ولتكون “لا دنقل” بمثابة “لا” جماعية شرعت الرفض القاطع والمقاومة.
خصوصية القدس
كان لاحتلال القدس بين حربي النكبة 1948 والنكسة 1967 أثرًا مريرًا في ذاكرة الفلسطينيين والعرب، ولم ينساها الشعراء في قصائدهم، إذ شكلت ضرورة وجودية في الشعر كما في الواقع، فحملت قصائدهم في ثناياها اعتذارات لسيدة المدائن وتنديدات بالموقف العربي والظلم الواقع على الأرض المباركة، فمنهم من كتب عن القدس وفلسطين كمطر حتى ظنه القراء فلسطينيًا، إلا أنه كتب باسم العربي الذي لا فرق بينه وبين الفلسطيني في شعوره بالقهر على وطنه:
يا قدس معذرة ومثلي ليس يعتذرُ
مالي يد فيما جرى فالأمر ما أمروا
وأنا ضعيف ليس لي أثرُ
عار علي السمع والبصرُ
وأنا بسيف الحرف أنتحرُ
وأنا اللهيب وقادتي المطرُ
فمتى سأستعرُ؟
عاش اللهيبُ وليسقطِ المطرُ
سنُفهمُ الصخرَ إن لم يفهمِ البشرُ
أنّ الشعوبَ إذا هبّت ستنتصرُ
مهما صنعتم من النيران نخمدها
الا ترون أنّا من لفحها سمرُ
ولو قضيتم على الثوارِ كلهمُ
تمرد الشيخُ والعكازُ والحجرُ
أما النواب وبعد خروجه من السجن عام 1969 بعفو عن المتمردين، خص القدس بقصيدة “القدس عروس عروبتكم”، والتي أثارت جدلًا واسعًا في الأوساط العربية، واختزلت من قبل السلطات باعتبارها قصيدة شتائم؛ حتى منع من دخول العديد من الدول العربية بسببها، إلا أن ما تم تجاهله فعلا هو أن القصيدة حملت أبعادًا تاريخية بالتطرق لتاريخ الإسلام والمعارك وصولًا للمقطع الذي أجج مشاعر الغضب عند السلطات واعتبرتها على إثره قصيدة تحريضية:
القدس عروس عروبتكم
فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها
ووقفتم تسترقون السمع وراء الأبواب لصرخات بكارتها
وسحبتم كل خناجركم وتنافختم شرفا
وصرختم فيها أن تسكت صونا للعرض
فما أشرفكم أولاد الكذا هل تسكت مغتصَبة
لست خجولا حين أصارحكم بحقيقتكم..
إن حظيرة خنزير هي أطهر من أطهركم
واعتبر ذلك ظلمًا لوعي الشاعر، واستدراكه لمراحل تاريخية مهمة والتشديد على مكانة القدس، حتى حكم عليه بالنفي بسبب ما كتب.
إذ تعد هذه القصيدة من أكثر القصائد التي اتسمت بقوة الخطاب؛ لحدة اللغة التي شكلت معمارية القصيدة، فعلى الرغم من الثورة على النواب الذي أخذ عليه إفراطه بالمفردات الخارجة عن المألوف في عالم الشعر، إلا أنه منح القصيدة خصوصية لغوية جعلت منه رائدًا في شعر الثورة، وحسبت من إرثه الشعري كأكثر القصائد التي عبرت عن مشاعر الغضب لانتهاك حرمة القدس من قبل الاحتلال الإسرائيلي.
على الرغم من أن بداية التجديد في موضوعات القصيدة العربية بدأت من بنية الشعر الحر، إلا أن شعر التفعيلة نحى منحى التجديد أيضًا، وأخذ يرتبط بالقضايا السياسية والاجتماعية، وخصت العديد من القصائد الموزونة القدس بمضمونها، فكان لسقوط الجزء الشرقي من القدس عام 1967 تحت الاحتلال الإسرائيلي أثر بالغ في نفوس الشعراء حتى كتبوها في الشعر الموزون الذي يصعب اختزاله في مقالة لكثرته، ولعل أشهرها ما كتبه علي محمود طه:
أخي، جاوز الظالمون الــمـدى فحــــقَّ الجهـــادُ، وحقَّ الفـِدا
أنتركهُمْ يغصبونَ العُــــروبــــةَ مجـــد الأبــــوَّةِ والـســـــؤددا؟
أخي، إنّ في القدسِ أختًا لنـا أعــــدَّ لها الذابحون الـــمُــــدى
عندما أنذر الشعر بربيعٍ عربي
تعد القصيدة العربية عند النواب ومطر ودنقل إرث فريد في موقف الشعر من الواقع العربي كله، وليس فقط من الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، فاتسمت قصائدهم باللغة الحوارية التي جعلتها مفهومة للسلطات والشعوب على السواء، ما أدى للحكم بالنفي والعزلة على كتابها بتهم التحريض والتمرد ضد الأنظمة، ومنعت أشعارهم بدلًا من أن يُتصالح معها، فمظفر النواب انتقد القمم العربية بقصيدة المشهورة “قمم”، أما قصيدته “تل الزعتر” فأخذت اسمها من مخيم تل الزعتر الذي تأسس في عام 1949 على إثر النكبة، وانتقد فيها النظام السوري الذي كان سببًا في حدوث مجزرة تل الزعتر في عام 1976،والتي راح ضحيتها آلاف الفلسطينيين، ما أدى إلى تهجيره بحرًا هروبًا إلى ليبيا بجواز سفر يمني تجنبًا لأن تهدر حياته:
وضعوا المذبحة الآن هنالك..
قدّام نيافات رصيد المال الديني
رصيد الدين المالي.. رصيد القتل
آباءَ الغرب المحترمين سلامًا
ابتعدوا خطوات أخرى.. خلّوا الأضواء
وخلّوا تل الزعتر يعتاد الظلمة
لم يحن الوقت.. عاصمة الفقراء لقد سقطت
لن أبكي أبدا من قاتل.. لن أبكي إطلاقًا
أبكي من يبحث في القمة عن دولته
فعُرف شعر النواب بقوة خطابه واستخدامه للمفردات التي اعتبرها الكثير جريئة ومواجهة للسلطة، وهو ما اتضح أيضًا في إرث مطر الشعري، وإن كان النواب الشاعر الأكثر جرأة في مفرداته التي اعتبرها البعض نابية، ليعرف تاريخ القصيدة العربية شاعرين عراقيين من أكثر الشعراء مقاومةً ورفضًا في شعرهم.
وألهبت مجزرة تل الزعتر مشاعر الأسى عند الشاعر دنقل، فكتب قصيدة “بكائية إلى تل الزعتر”، أما مطر فقد عكفت قصائده على انتقاد الأنظمة العربية ككل وندد بلافتاته الشعرية انحسار الحرية وتكميم الأفواه، والتي كانت سببا في اندلاع الثورات ضد بعض أنظمة الحكم العربية منذ عام 2010 إلى الآن.
يقول مطر:
أُريدُ الصَمتَ كَي أحيا
ولكنّ الذي ألقاهُ يُنطِقُني
ولا ألقى سِوى حُزنٍ
عَلى حُزنٍ، عَلى حُزن
أأكتبُ أنّني حَيٌ على كَفَني؟
أأكتبُ أنَني حُرٌ
وحتّى الحَرفُ يَرسِفُ بالعُبودية؟
وبذلك أنذرت القصيدة العربية عند كل من النواب ومطر بشكل أساسي بربيع عربي سابق لما بات مشهودًا في الواقع الراهن في ظل بعض الأنظمة العربية، وهو ربيع عربي شقه شعراء فضلوا النفي والموت والعزلة لأجل الثورة على الظلم، فمضى على ما قدموه عقودًا طويلة، لكن إرثهم المكتوب أصبح بفعل مرارة الواقع حاضر، وأصبح العالم يشهد ورثة للرفض، حتى شُيدت الثورات في عديد من الدول العربية مرددةً ما رددوه في بياناتهم الشعرية، إلا أن شعرية الثورة في القصيدة العربية لم تغفل عن فلسطين على عكس ما تم السعي إلى تغييبه في الوعي العربي كله.
إن معانقة القصيدة العربية للواقع جعل من الشعر فضاءً عكس تجربة إنسانية، كان لها أثر في معاودة قراءة الإرث الشعري في سياقات ربطت بين لحظة الكتابة واللحظة المعيشة، ولعل ما كتبه النواب ودنقل ومطر يعد من أهم ما كتب في تاريخ القصيدة العربية فيما يتعلق بقدرة الشعر على اتخاذ موقف مناهض للسلطة المفروضة على الكلمة، ليكشف المحظور والمسكوت عنه، ولذلك فإن أقل ما يمكن قوله أن هؤلاء الشعراء حملوا نظرة استشرافية للواقع في شعرهم، ما صور موقف الشعر من القضايا السياسية بصورة ثورية، وبشكل سابق على أحداث شهدتها المنطقة العربية كثورات الربيع العربي، وانضمام الدول العربية لاتفاقيات أبراهام التطبيعية مع الاحتلال الإسرائيلي.
المراجع:
– أمحمد العماري، “مفهوم الشعرية واتجاهاتها”، مجلة الحكمة للدراسات الأدبية واللغوية 4(2013):19.
– أبو الحسن أمين مقدسي، “دراسة تأثير البياتي على شعراء جيل الستينيات (أمل دنقل نموذجًا)”(ورقة بحثية، طهران، كانون الأول 2020).