تعد الأعمال الفنية للفنان الفلسطيني وديع خالد، والتي عرضها في معرضه الشخصي بجاليري باب الدير في مدينة رام الله أيار 2024، نموذجاً متجذراً مع المكان حيث نشأ، وحاضنة كالبئر بخطوط دائرية تتسلل من الذاكرة والطفولة إلى الإدراك والمعنى. إنه المكان الذي انفصل عنه كحبل سرة الأم لكنه ظل يستمد منها الحب والتكوين. المخيم ذلك العدو الحبيب، بين أزمة التحول في تاريخ القضية الفلسطينية منذ النكبة 1948 وخسارة البيت والحاكورة والجُرن وساحة البلدة التي تجمع كل مجانين القرية وحكمائها، إلى أن يصبح المخيم رمزاً للعودة والنضال والوجود، وخسارته بكل تناقضاته وزقاقه الضيقة، ونوافذ الجيران التي تطل على ساحة أو غرفة نوم الجار الآخر، والصوت الذي يخترق الجدار فلا خصوصية ولا سر يختبئ… كمن يخسر حياته، فلا معنى للذات دون ذاكرة الشوارع وحرب الحارات بين فتيان المخيم. إنه الحي الذي يكرهه وما أن يغيب عنه يصبح مركز الكون ونفَس الحياة.
التكوين الثقافي والاجتماعي للعائلة
يفتح لنا الفنان وديع فضاءه البصري لنعيد استكشافه من خلال تجربته كراوٍ يستخدم الفن لبنية سردية تعبّر عن قصص تتجاوز اللحظة الراهنة، وتتجاوز المفهوم التوثيقي لحياة المخيم، عبر بناء الصورة والذاكرة والمكان معاً في لوحاته، التي تداخل فيها الواقعي بالرمزي، بما يمكن رؤيته للعائلة الفلسطينية كوحدة أساسية للنضال، ولكن بطرق متعددة ومتنوعة، واستخدام الألوان (العائلية) والخطوط والرموز كأدوات لتفسير مفهوم الحميمية؛ فالتزمت ألوانه بعداً درامياً في الدرجات والضوء ومنحنيات الخطوط وهندستها خاصة في الأعمال الزيتية.
في رواية غسان كنفاني “أم سعد”، نشهد تحول اللاجئين من ضحايا إلى مقاومين فاعلين في نضالهم من أجل حقوقهم، والتي تم استعادتها في أعمال وديع عبر شخصياته، مثل أم سعد التي انتقلت من حياة الشقاء واليأس إلى الفخر بصناعتها وصناعة الثورة، إذ يعكس كنفاني كيفية تحول المخيمات من أماكن للفقر والبؤس إلى مراكز للثورة والنضال، حينما نرى أم سعد وهي تعكس حالة التغيير التي تظهر عند الجيل الجديد من اللاجئين “أم سعد التي تقيم في مخيم اللاجئين الفلسطينيين، كانت تذهب إلى شرفة أحد المنازل وتنظفه وتتحدث عن عذابات المخيم وأهل المخيم، وخاصة في فصل الشتاء الذي تتحول فيه بيوت المخيم إلى مستنقعٍ من المياه”.
يجمع مشهد الغرفة عند وديع بين تأويلات متخيلة وواقعية، لجدران مهترئة وسقف منخفض، وبوابة خشبية تطل على ساحة مليئة بالعلب الفارغة التي تحولت إلى حديقة المنزل الطازجة بما توفره من أشتال محلية وبرية، وأما في الغرفة، نجد أشياء بسيطة تعد على الأصابع: أغطية “بطاطين”، حصيرة، وسائد، وصورة للقدس. هذا ليس تأويلاً بل مشهد أكثر واقعية يعكس حياة المخيمات الفلسطينية، ويكمن التأويل في رؤية العالم وما خلف الجبال من نافذة خشبية صغيرة، وفي خلق أحلام كبيرة من العدم.
داخل هذه الغرفة، نجد العائلة: أم، أب، وأطفال، العناصر المكتملة والذين يشكّلون مفاتيح العمل الفني عند وديع خالد، الذي يعبّر عن المكان والبيئة والثقافة، ويربطها بدلالات الصمود ليس بفعلها المقاوم، بل بتجذر العلاقة بين العائلة، وبنية التكوين الهرمية، كما في العمل (1)، المرأة التي تتجذر في الأرض وعليها، ويقابلها طفلتها، حيث تشكّلان معاً جداراً حامياً للذاكرة، وامامهما السرير وما يضمه لطفل في تكوين دائري، مروراً إلى الصعود حيث الطفل والأب واقفين، ويحيط هالة من الضوء على وجه كل فرد من أفرادها، والسعي لتمثيل الأيقونة التي ارتبطت في التراث العقائدي والاجتماعي الفلسطيني منذ ولادة المسيح، وما يشير إليه هذا التكوين المغلق حول الطفل من جدار ثابت وشامخ، وقد أضافت الخطوط المنحنية والحادة الزوايا إلى هذا المعنى، حين تتقاطع الخطوط معاً وتتأرجح بين الهندسة والانحناءات المدروسة.
الرموز والأيقونات في أعمال وديع خالد
تستخدم أعمال خالد الرموز الدينية والوطنية لتعبر عن مضامين معقدة ومتشابكة، حيث تظهر في أعماله رموز مثل المسيح بالكوفية الفلسطينية، والفدائي بالسلاح، والمرأة بالشعبة (النقيفة)؛ فتعيد هذه الرموز تفكيك البنية الاجتماعية المعبرة عن الهوية السياسية النضالية، لتصبح رمزاً ملهماً يدمج الهوية الوطنية والدينية والاجتماعية أو الثقافية تحت مفهوم الأيقونية، وتتداخل كل هذه العناصر في تشكيل الوعي الجمعي الفلسطيني، مما يعكس الروابط الأصيلة بين التراث الثقافي والديني والنضال اليومي من أجل الحرية والعدالة، وكما يقول المسيح: “وتعرفون الحق، والحق يحرركم” (إنجيل يوحنا 8:32).
من خلال التركيز على رموز المقاومة والسلاح في هذه المرحلة العصيبة التي يمر بها الشعب الفلسطيني، يوجه وديع نقداً ضمنياً لاتفاقية أوسلو وتأثيرها على النضال الفلسطيني، من خلال ما يبرز في أعماله من إحساس بالخسارة والحنين للزمن الذي كانت فيه المقاومة المسلحة جزءاً لا يتجزأ من الهوية الفلسطينية، مما يعكس رفضه للتنازلات السياسية التي كادت تمحو بعضاً من القيم الثورية والنضالية في مواجهة التحديات المعاصرة، وتقنين العمل الكفاحي والثقافي تحت شعارات وأيديولوجيات واصلاحات اقتصادية خاضعة للفهم الاستعماري حول شكل المقاومة ضد الاستعمار، وهذا ما أشار إليه “فرانز فانون” في كتابه معذبو الأرض: “الاستعمار ليس مجرد نظام اقتصادي. إنه نظام شامل يعتمد على القمع السياسي والاقتصادي والثقافي، مما يتطلب رد فعل نضالي شامل لا يقتصر فقط على المسلحين بل يتعداهم ليشمل كل فئات الشعب.”
يعكس وديع خالد في أعماله الفنية صورة شاملة عن الحياة في المخيمات الفلسطينية، بتفاصيلها ورموزها وارتباطها مع المكان كذاكرة منتجة وقادرة على الاستمرار في خلق قيم ومفاهيم وتوجهات تتحدى كل الممارسات الاستعمارية التي يكثفها القريب والبعيد، وتعيد البوصلة نحو استرجاع قضية كبرى، لا تنتهي بالتقادم، إنها الحرية والاستقلال، ودور العائلة والمقاومة والهوية والذاكرة، في تفكيك هذه الاستكانة التي طال عمرها فخلقت صمتاً وعجزاً وموتاً للحلم باعتباره قوة ملهمة من الإصرار والاستمرار نحو النضال الذي يحفّز الفكر والأدب والإبداع وغيرها كأدوات مساندة للعمل التحرري.
في الرموز الأخرى التي نفذها وديع بتقنية الأحبار باللونين الأبيض والأسود، يتساءل عن ماهية المقاومة وجدواها؛ فنرى الزوج في الشكل (2) الذي يحمي عائلته بالسلاح وزوجته التي تحمي باقي العائلة بجسدها وخلفها أبناءها وخيمتهم، والأم التي ترضع ابنها وبالقرب من يدها اليسرى شعبة أو نقيفة، الشكل (3)، والمسيح الذي يحمل الصليب ويلتف بالكوفية الفلسطينية الشكل (4)، وكذلك الفدائي والسلاح. هذه الأعمال الفنية تعكس الحياة المركبة والمعقدة للفلسطينيين، وتمثل دلالات الصمود والمقاومة عبر الرموز والتكوينات الفنية المختلفة.
استخدام الفنان للألوان يعكس تباين الحياة في المخيم، بين الأمل واليأس، وبين الصمود والمعاناة، وبين الواقع والخيال، بما يقترحه من فضاءات وصور من مكانه الضيق والمحدود، وأحياناً من خزّانه فوق السطوح الذي يطل منه طفلاً على العالم، ولفهم العلاقة بين ذاكرة الخزّان المختزلة بمرحلة معقدة من الطفولة يمكن تحليلها من ألوانه الدافئة التي طغت على لوحاته وما تعكسه من دفء للعلاقات الأسرية والحنين للماضي. أما أعماله بالأبيض والأسود تشير إلى القسوة واللحظة المتمثلة بالمرحلة الآنية، بحيث ترتكز بنية أعماله على الماضي الحاضر، والتحول من الاستكانة إلى الفعل؛ فظهرت الهوية الفلسطينية بشكل أكثر بروزاً في شخصياته التي رافقها باللباس والكوفية والخيمة وغيرها من مفردات أعادت تموضع شخصياته فلسطينياً والعودة للأصلانية الفنية كمصدر لبناء العمل الفني.
في أعماله الزيتية، نجد أن الفنان يستغل تكوينات دائرية ومربعة لتعكس فلسفته في التعبير عن التماسك والاستمرارية؛ فالتكوينات الدائرية قد ترمز إلى الأبدية والدوران المستمر للحياة والنضال وإلى اللانهاية، أي حالة صراع وجودي مستمر، بينما التكوينات المربعة قد تشير إلى الاستقرار والثبات والثقة بين العناصر والمكان، أي أنها تمثل الانتماء رغم كل الظروف التي يواجهها الإنسان الفلسطيني. هذا النهج يعكس رؤيته للفن كمكون أساسي في بناء الهوية الثقافية الجماعية والحفاظ عليها (الشكل 5)، والذي يجمع بين فقدان المكان وإعادة صناعته للخيمة وعلاقتها بالنسيج أو التطريز الذي امتازت به المرأة الفلسطينية، وقوة حضورها في بناء السردية الوجودية للفلسطيني، فانتصر عنصر النساء في هذا العمل الذي يمثل قيمة لاستمرار القوة.
من الصحوة إلى الثورة
إن استرجاع الشكل والموضوع الذي تبناه الفنان وديع كان بمثابة الصحوة؛ باعتبار أن الفن ليس منفصلاً عن الواقع، ليقدم لنا نموذجين من الحياة في المخيم والتي أنتجت بتنوع التقنيات في نموذج الرسم بالزيت والرسم بالأحبار. يرتبط الأول بالتكوين الثقافي الاجتماعي عن العائلة كنموذج تحرري، يطرح مشهدية بصرية عن العلاقة الحميمة بين أفرادها وحركتهم داخل حدود الغرفة، والتي تضج بالحنين والانحياز للمكان، بما يرافقها من عناصر بسيطة تظهر مدى التقشف والبساطة، وإذ تصبح القيمة الكلية مرتبطة بالسردية المجتمعية واللحمة المتماسكة لعناصرها، التي تتجلى في تكويناته الدائرية – غالباً – أو المربعة أحياناً.
في المقابل، يعيد الفنان تفكيك دور العائلة من منظورها التقليدي إلى دورها النضالي، مستخدماً تقنيات الرسم بالحبر الشيني على الكرتون، وفي كلا التقنيتين، يبرز الجسد العائلي بكامل عناصره في حالة فعل دائم، يستحضر من خلالها العمل الثوري والفدائي بوضوح؛ فالفنان لا يهادن على إخفاء السلاح، الذي بدأ يتلاشى في العمل الفني الفلسطيني منذ اتفاقية “أوسلو 1993″، ويعيدنا في أعماله إلى فترة ستينيات وسبعينات القرن العشرين في سياقها التحرري عبر المقاومة المشروعة، وحمل السلاح في مواجهة التطرف والاستعمار، كما عند الفنان الأسود “إيموري دوغلاس” الذي تبنى حالة الاحتجاج الفني وما عكسته عن فكر حركة الفهد الأسود 1968، أو في سياقها الفلسطيني الثوري التحرري منذ منتصف ستينيات القرن العشرين كما عند “مصطفى الحلاج، نذير نبعة، شفيق رضوان، إسماعيل شمّوط، كمال بلاطة” وغيرهم، وقد شكّل الملصق تفسيراً وتعريفاً ودفاعاً عن فكرة الكفاح المسلح، وشرعيته القانونية والأخلاقية في الدفاع عن المكان والإنسان.
الهوية والذاكرة في فن وديع خالد
يتناول وديع خالد في أعماله قضايا الهوية والذاكرة الجماعية، عبر لوحات تجسد مشاهد من الحياة اليومية في المخيم، مستحضراً بذلك ذكريات الطفولة والتجارب الجماعية التي تشكل هوية الأفراد. تتجلى هذه في إحدى لوحاته حيث يظهر طفل يلعب بلعبة قديمة، مما يعكس قوة الذاكرة في الحفاظ على التراث الثقافي، وما يركز عليه من خلال توثيق اللحظات الصغيرة التي تحمل في طياتها قصصاً شكّلت هويته الخاصة، وقدرتها على خلق نزعة ذاتية تأملية نحو البيئة والمكان بما تحمله من شعور التردد كفعل طبيعي للطفل الذي يلهو، وما يدور حوله أو ينتظره في الخارج من انتزاع لهذه الحقوق وفقدانها مجبراً على تشكّل وعيه السياسي بشكل تلقائي من خلال الثقافة المشتركة بين الفئات الاجتماعية داخل المخيم.
الفن بالنسبة لوديع ليس مجرد وسيلة للتعبير، بل هو أداة للتغيير الاجتماعي والسياسي، عبر سعي أعماله الدائم إلى إثارة الوعي في القضايا الفلسطينية، وطرح الأسئلة عن المقاومة والأمل، واستخدام المفردات الصريحة والمباشرة لأدوات الكفاح المسلح، الذي تكرر في أكثر من عمل، بحيث يستخدم الفن كأداة تحليلية للتعبير عن الهوية والنضال الفلسطيني، التي تمر بتعقيدات حول الفهم والتبني للمقاومة المسلحة أو السلمية، وهي بذلك تقدم فرضية الموضوع السياسي والاجتماعي التي تشكل الوعي الجمعي الفلسطيني، وإعادة استحضارها بأعماله التي تعكس قوة الذاكرة، وتستدعي الماضي لمواجهة الحاضر.