تحضرني فكرة النخب والشخصيات المثقفة في المجتمعات ودورها فيها وقدرتها على التأثير الإيجابي بين صفوفها وبين الطبقات، تلك الطبقات التي ستتلاقى عند نقطةِ التقاء إن مارست تلك النخبة دورها الوجودي ودورها المنوط بها أن تمارسه كطليعة مجتمعية نحو التغيير من دون الخوض بطبيعة التغيير حيث أنه ذلك سيفتح باباً نحو تعريف التغيير وماهية الصح والخطاً في اتجاه التغيير تحديداً في زمنٍ خضعَ لمعايير ليبرالية حادة قائمة على الوجودية الفردية بشكل كبير وشبه مطلق ما يجعل مراجعة التغيير أمراً ليس صعباً بل هوائياً لا يودي إلى نتائج أو خلاصات على الأقل في الوقت الحالي وهو ما يفسر حالة الفوضى الفكرية التي يعيشها العالم.
على كل مفترق للظواهر والأحداث التي تعصف بكوننا الضيق، تطفو قضية النُخب أو الفئة المُفكرة في مجتمعاتٍ ما، أعادت هذه المرة افتتاحية الألعاب الأولمبية في باريس عجلة التحليل المقارن بين نحنُ وهمُ وبين التاريخ الذي هو متساوٍ من حيث القيمة والمعنى بل وربما مازلنا نمتلك في جعبتنا بعض الكروت ِ الرابحة إن أردنا أن ندخل في نزال أهمية التاريخ بين الشرق والغرب. لكن من نحن ومن هم؟ امتلأت الصحف العالمية والعربية بالمقالات والصور عن افتتاحية ألعاب باريس التي أُقيمت الأسبوع الماضي وتراوحت كعادة الصحافة والإعلام بين الإشادة والولع وبين النقد والنقد المضاد. في صحيفة الغارديان البريطانية مثلاً، نشرت الناقدة الفنية والمسرحية “أريفة أقبر” مقالاً مطولاً فصّلت به لوحات الافتتاحية مبدية رأيها بمهنية من على كرسيها النقدي حيث أنه ملعبها، لم أرَ ردود أفعال عنيفة على المقال الفني وعلى التحليل بعكس تلك العربية التي تُيّمت بالحفل لدرجة المبالغة وشحن اللغة بالبلاغة والصور النثرية تعبيراً عن انبهار وحبٍ لباريس وصل لدرجة عند البعض بالضرب بالنُهج السياسية لمدح الرأسمالية المفرطة الحاملة والراعية لمثل هذا “الفن”، إذاً هو الفن أيضاً أحد منجزات الليبرالية والرأسمالية كما أرادوه، وعلى الضفة الأخرى هناك من امتطى الهجوم والنقد بحلته العربية الخالصة من حط الآخر قدره أو وتسخيف وتشويه للحفل فقط لأسباب حقدٍ تاريخي مع باريس. ردود أفعال متباينة تماشت بسرعة مع سرعة الحقن الفني ضمن الفعالية التي لم تترك للمشاهد والمتابع والحاضر في المكان إلا الذهول من براعة وإتقان كل عرضٍ بعرضه وكل مشهدٍ بأبطاله. لكن والآن وبعد مرور اليوم الأول ومرور عاصفة الترويج والتصفيق للحدث الكبير ربما صار من الممكن بشكل أكبر قراءة حفل باريس بين المسرح والأضواء، باريس التي نجحت بتقديم عرضٍ يؤكد تفوقها في الدعاية والترويج والتسويق، فهنا الباب أمام حديثٍ يطول وسيطول ويقصر بحسب الصوت المُرادُ إيصاله بين التحليل والماذا.
افتتاحُ باريس الذي بدأت المدينة بالترويجِ إليه منذ شهور متوعدةً بالحدث بأن يكون استثنائياً وهو ما كان كي لا نبخس الجمال المولود منها حقّهُ على ضفاف السين الذي لبسَ قناع المسرح وكان بطل العرض حين حمل مراكبَ البعثات التي تُقلُ الرياضيين العالميين المشاركين في الألعاب الكبرى، حفلٌ كان عزفاً خارج النغم المعتاد بمثل هذه المناسبات التي التزمت طوال سنين ببروتوكول الاستاد كأرض الاحتفال، هذه المرة وكما أراد القائمون على باريس أن تكون بداية جديدة بنقل الشعلة المتراقصة بين الأكف والأيدي من فوق العشبِ إلى فوق الأسطحة السوداء القرميدية لتأخذ من يشاهد في جولة باريسية مجانية إلى المدينة وشوارعها ومتاحفها وجسورها وضفاف نهرها، كان هذا وحده كفيلاً في جعلها احتفالية فريدة وتاريخية بطبيعة الحال للمعنى الحرفي للأسبقية التاريخية الأولى من نوعها. أيضاً، كان الدمجُ بين الواقع والمباشر من جهة والمُصور والصناعة الفنية من جهة أخرى هو قطعة الكرز في تلك الحلوى الباريسية، قطعةٌ بصرية يمكن جداً القول بأنها كانت متميزة وفنية خاصة لمن شاهدوا من وراء الشاشات متمددين على أسرتهم وأرائكهم بعيداً عن الأمطار التي اختارت أن تنهمر حبالاً كضيفٍ ثقيلٍ بين المدعوين نغّصَ الحدث “التاريخي”.
هذه اللوحات الفنية المتكاملة وغير المكمّلة لبعضها حيث خرج الكثير منها عن منطق الوجودية فاختلطت الرؤى ونجحت في بعضها كآية ناكامورا المتراقصة بسحرها الأسمر والذهبي مُلتفةً بالحرس الشرفي الفرنسي كرسالةٍ سياسية عن فرنسا التعايش والتآخي المُراد إيصالها إلى العالم وإلى الفرنسيين أنفسهم قبل أي أحد، بينما فشلت في أخرى كإدخال لوحات العشاء الأخير أو لوحة قبضة الإله لهرمنز، صورة رآها كثيرون دون سبب صورة مشوهة للتاريخ بإدخال مجتمع المثليين ليقوم بتمثيل المشهد فتعالت أصوات من خارج الحدود والشاشات معترضة عن سبب إخضاع التاريخ للذوق المعاصر والدعاية المستمرة بسبب وبدون سبب عن دعم المثليين والمغايرين والمتماثلين وغيرها من التصنيفات والأسماء، يقول المنظمون أن العرض كان انعكاساً للتنوع، أصابوا في جانب وفي جوانب أخرى تناسوا دور الدعاية ومفهوم التسويق إما في نظرة إلى الاحتفالية ككل كأسلوب رأسمالي ترويجي أو على مستوى اللوحات كلٌّ على حدى كإعلان لويس فيتون أحد أعمدة “الموضة” أو حتى الاقتصاد المحلي. لكن بالعودة إلى خصوصية تقييم أو عروبية النظرة إلى الحفل كعربي أو سوري أو أحدٍ قادم من تلك البقع الواقفة على طابور الأزمات، أن نتساءل من مدخل التحليل المقارن هنالك سرٌ خلف هذه القدرة ليس على النجاح اللوجستي والفني ففي فرنسا وغيرها وربما أكثر منها مساحة واسعة من الرفاهية والاستقرار القادرين على المسير أماماً نحو التفكير وتقديم المزيد على المستوى الفكري أولاً والثقافي ثانياً وثالثاً وأكثر.
إن كان علي اختيار المشهد الأمثل أو اللقطة الأجمل لكانت الأولى، تلك المبرمجة والمصورة مسبقاً حين توقف زيدان مبتسماً عالقاً في مترو باريس في طريقه نحو الشعلة فهي اللقطة الأكثر مصداقية وواقعية في المشهد الباريسي بين الأمس واليوم. هو الأكثر استحقاقاً للوقوف أمامه، ومن ثم الأطفال الثلاثة في زواريب الأنفاق تحت أعين الفئران التي تحتل باريس السفلى. من يعيش في باريس سيدرك هذا المشهد سريعاً فهو ربما المشهد اليومي المعتاد في مدينة الأضواء، لكن مشاهد كهذه تبقى من حصة الباريسيين تبقى بينهم في غرفهم المغلقة خلف أبواب الجمال الممتد على طول السين والواصل بين التروكاديرو وإيفل راعي الجمهورية والتاريخ. إن تجسيدَ هذا الجانب اليومي جنباً إلى جنب مع مشهد من الثورة الفرنسية ورقصات المولان روج وأنغام أزنافور وبياف بصوت العائدة من بعيد سيلين ديون، هو أجمل ما قدمته احتفالية باريس فهذا التصالح –ولو صورياً- مع واقع الحال وطبيعة المدينة والحياة فيها وتقديمه بمحاكاة فيها من الدعابة والواقعية، فباريس ليست تلك التي كانت تتراقص في الخارج وتشعل النيران وتستذكر التاريخ الحديث والقديم وتدمج الأوبرالية مع الروك والميتال، هي تلك البسيطة الثقيلة على أهلها والتي تم تقطيع اوصالها لتخرج بهذه الحلة في الوقت الذي أمضى كثيرون في الكواليس ساعات وهم ينتقلون بين قطار وآخر سعياً للعودة إلى البيوت البعيدة. هناك كانت باريس، وهناك التصالح بين الطبقات التي تلتف كلها حول باريس العِقد الأثمن على رقاب الجميع، باريس التي يتبناها الجميع ويذوب فيها المثقف والنخبوي مع بائع الكريب في أحد شوارعها وعامل التوصيل (الأوبر) والتي يدركون أنها مسلوبة ممن يمضي نصف عامه على أحد اليخوت والنصف الآخر أمام مدخنة في بيت أرستقراطي، لكنهم يؤمنون أن لهم فيها ما للجميع لا يتبرؤون منها ومن رائحة أزقتها وفوضاها المؤذية، هي باريس التي أهدتهم البريستيج والفن ليهدوها وفاءً وإبداع.
وهنا مكمن الرسالة الأخيرة من كل ماشاهده العالم والذي سيمضي مع الأيام ويُنسى كما نُسي غيره، وهي أن باريس ذات المترو المتعطل وممالك الفئران وزحمتها إلا أنها تبقى تلك المدللة التي يحاول ربما حتى من لا يهواها ولا يهوى العيش فيها أن يدافع عنها وأن يحميها ويقدمها للعالم واجهة الهوية وواجهة التاريخ إلى العالم، فمدينةُ الازدحام والاختناق المروري وتعطل المواصلات المتكرر والأمطار هي مُعرف التاريخ لديهم، ذاك ما يكفلُ النجاح لأي شيء تقدمه باريس، تلك هي الرسالة، إنه التاريخ وهو ما قد ينقذُ العربي في طريقه إلى فهمِ ذاته ثقافياً كغنى ثقافي أدبي وحضاري وموسيقي وفني وعلمي وسياسي وملحمي مُجرد من كل حشو ديني وطائفي، فالشعوب تبدأ من ذاتها قبل أي شيء. إن كان حفلُ باريس لوحة فنية فإن أجمل ما فيه هو أنه كان فيلماً سينمائياً لا يمكن كان أن يكتمل دون فاتحته، وفاتحته هي مدينة بمترو أنفاقٍ معطل مظلم وموحش وحده وشعلةٍ تخرجُ إلى النورِ لأن هناك من مد جسراً بين الأمسِ واليوم. جسرٌ حجارته من ثقافة وفن.