يشير العنوان إلى الخسارة المجتمعية أو الفردية للقدرة على استخدام اللغة الأم، مما يعني أن لغة أخرى أخذت تحل محلها. وهذا يحدث في العادة للمجتمعات التي تم استعمارها من قبل، حيث تبقى لغة المستعمر كلغة للأعمال في المجتمع، وبذلك تكون بوابة يستطيع من خلالها ذلك المجتمع الولوج إلى علومها المتقدمة، كما شهدناه في العديد من الدول العربية، سواء كانت غنية كدول الخليج أو دول شمال أفريقيا، والتي لازالت تلعب اللغة الفرنسية دورا كبيرا فيها.
وقد تصاعدت وتيرة تعلم اللغات الأوربية لرغبة الدول العربية الخارجة للتو من الحقبة الاستعمارية ببناء مؤسسات عصرية، وعند عودة الكثير من الطلاب الذين ابتعثوا في الغرب، أصبحت هناك طبقة جديدة من العمال ذوي الياقات البيضاء، والذين بدورهم كرسوا استخدام تلك اللغات لصعوبة ترجمة ما تعلموه أو كنوع من الترفع الاجتماعي، واستمر الأمر على هذا الحال في العديد من الدول العربية حتى أصبحت الثقافة العملية لجيل التسعينيات ولمن أتى بعدهم بشكل أخص محصورة في اللغة الانجليزية، ويفرح الآباء عند سماع أبنائهم وهم يتواصلون مع بعضهم بلغة أجنبية. وهو أمر ليس بالغريب لحاجة العامل ولو حتى البسيط إلى اللغة الإنجليزية للقيام بعمله، ناهيك عن الوظائف الهندسية وغيرها من المهن التي تتطلب تعلم أحدث العلوم.
واللغات الأوروبية المنتشرة مع أنها ليست رسمية في بلاد العرب، أصبحت فعلاً كذلك بحكم سيطرتها على القدرة الإنتاجية. ما يستتبع ذلك هو اضمحلال اللغة العربية، حيث يجد المتحدث العادي للغة صعوبة في التعبير عن نفسه باستخدامها، أو توظيف مصطلحات علمية أو تجارية بها، وذلك لشح استخدامه لها في تلك المجالات من الأساس، وفي الحالات المتطرفة تجد أشخاص لا يعرفون أبجديتها الكاملة رغم كونها لغتهم الأم.
لما لا نعتمد الإنجليزية لغة رسمية إذاً؟
وعيت حقيقة أن اللغة هي وعاء الثقافة عند دراستي في جنوب شرق آسيا حيث كانت الإنجليزية أيضاً اللغة العاملة والمسيطرة على الفضاء العام، وبالرغم من كون الملايوية اللغة الرسمية للعديد من تلك البلاد اضطروا الاعتراف بالإنجليزية كلغة محلية تربط بين القوميات المختلفة. وأثناء تفاعلي معهم اتضح لي انهم في الحقيقة شعب خليط تمكنت قوى أجنبية من منحهم ديانات جديدة كالإسلام والمسيحية وإحلال ابجدياتها عليهم لافتقارهم لها من الأساس، فالملايوية لم تكن تكتب قبل دخول الخط العربي عليهم، وتبعتها الأبجدية الإنجليزية بعد خمول العرب كقوة تؤثر على مجرى الأحداث في العالم. النتيجة هو شخص من أصول صينية يتكلم الصينية في المنزل، وفي المدرسة يتعلم بالملايوية وفي العمل يستخدم الإنجليزية. وهو أمر لا عيب فيه لحاله فهناك دراسات وجدت أن المتحدثين المتعددي اللغات لديهم قدرة أكبر على التفكير التبايني والمجرد وغيرهم من الإيجابيات، ولكن بشرط أن يكون المتحدث قد أتقن لغته الأم أو إحدى اللغات التي يتكلمها. ما يحدث للعديد من الشعوب المُستعمرة سابقاً ونحن كعرب في طريقنا إلى هذا الحال ايضاً؛ هو أن معظم مواطنيها لا يجيدون لغة واحدة بدرجة تسمح لهم بالتفكير والتعبير عن خواطرهم باقتضاب، فيصبحون كائنات ذو عقول ضبابية تنتج أشخاص غير مدمجين في قالب تُحدد فيه القيم بشكل واضح. وإذا أتقنوا لغة المستعمر وأصبحت لغة الفكر الأساسي لديهم دخلوا في فضائها بالكامل فحتى لو تحدثوا بالعربية في المنزل مع أهاليهم لن يستطيعوا الإفلات من هيمنتها الفكرية.
هناك الكثير من ما هو إيجابي في الغرب لا شك في ذلك ولكن المشكلة تأتي في نظرتهم الدونية لنا التي نستطيع أن نقول بدأت بعد سقوط الأندلس، وتغليب المنطقية العقلية على المصدر الديني في تدبير شؤون الحياة عند الغرب. وتصفح تقريباً أي كتاب عن تاريخ الحضارة كتب في السبعينيات أو قبل وستجد استحقار غريب إلى الحضارات الشرقية، وإذا كانت هذه الكتب هي مصدر القارئ الوحيد بعد فترة ستتسلسل هذه الأفكار إلى وعيه الباطني وتركن نفسها في صف الحقيقة، وبهذا تتشكل عنده حالة نقص ويصبح ينظر إلى نفسه وأبناء جلدته بدونية بمرور الوقت.
والأكثر تأثيراً من الكلمة المكتوبة على المجتمع هو الإعلام المرئي الذي يشيطن العرب ويظهرهم بصورة سلبية سواءً في الأفلام أو على لسان ما يسمى أكبر مفكريهم. وخرج تخصص دراسات ما بعد الكولونيالية على يد المفكر الأميركي الفلسطيني إدوارد سعيد بسبب جهده الأطلسي في كشف الأهداف الاستعمارية للدراسات الاستشراقية التي كانت تقوم بها الدول الغربية في تلك الفترة. وما يتضح للمراقب الدقيق أن مسألة اللغة هي في الحقيقة مسألة سيادية سواء على المستوى الشخصي أو الكيان السياسي، وأنها أداة مهمة في رسم الوعي وتحديد إطار الحقيقة. ونحن للأسف لا زلنا نعتمد على مؤسسات الأبحاث الغربية وجامعاتهم على الإنتاج الفكري، ولو أن هناك عمل جبار من العديد من المثقفين في جامعات الوطن العربي ومراكز الأبحاث للقيام بالدراسات وإصدار مجلدات تتعامل مع القضايا التاريخية بأحتراف وانصاف لقضايانا، ومناقشة ما هو مهم من منظورنا والذي نتمنى أن يستمروا فيه. ما نستطيع القيام به هو دعم جهد الترجمة الذي أصبح أسهل بفضل التطورات الأخيرة في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لنحول المعلومات إلى حساب رصيدنا الثقافي والاستمرار كجماعة في إنتاج محتوى سواءً مرئي أو نصي أصيل، وتشجيع الحلول الوطنية لمشاكلنا والأهم من ذلك تشجيع المبدعين العرب الذين في استطاعتهم تقديم ما نحتاجه وما يحتاجه العالم.
أفق المستقبل
لدينا مخزون ضخم من الإنجازات نرجع إليه في الذاكرة الجمعية وفي الكثير من الأحيان يكون هذا الإرث حقيبة الأدوات الوحيدة التي نستعملها لحل مشاكل معقدة تكونت نتيجة الحربين العالميتين التي ولد من رحمها العالم العربي المعاصر. وفي ظل هذا العالم المتلاطم الذي يقدم لنا تحديات مستمرة، جعلت من أقطار عربية عزيزة تترنح تحت وطأة الكساد الإقتصادي والأنكسار إلى حالة من العنف تفطر القلب، فنحتاج إلى إدراج قيم وإطارات للتفكير جديدة داخل هذا الوعي الحالم بالماضي ليستيقظ إلى إمكانيات المستقبل.
وللمقدرة على ذلك يتوجب علينا القيام بمشروع ثقافي يستقبل ما قد يساعدنا على النهوض من حول العالم وفي نفس الوقت باستطاعته أن يصفي ما هو غير محبذ من تلك الثقافات، ولذلك لا بد من معالجة المعضلة الاقتصادية للمشروع وهو تحويل اللغة العاملة والتي بدورها تصبح لغة الحياة إلى العربية ونبني من خلالها منصة إنطلاق. فالقوة الناعمة والمنافسة ما بين الأمم أمر يناقش بشكل علني في المؤسسات الغربية، ويقومون بأبحاث لمعرفة الرأي العام العالمي عن بلدهم، وقدرته على جذب الناس إلى داخل مداره الثقافي الذي يحمل معه بشكل طبيعي مصالحه. وهذا الموقف يعترف بوجود المنافسة وأهمية نشر اللغة والثقافة في سياق الهيمنة. فعندما نتعلم لغة شعب نتعاطف معه ونميل إليه، ويمكننا جعل اللغة العربية بثقل متحدثيها في العالم العربي والإسلامي أداة جذب، من خلال جعل نفسنا شعب منتج للعلوم والإعلام وتشكيل أنفسنا كمركز جذب في ذهن العالم.