هو واحد من الأفلام الطموحة، التي تزاحم، بتجريبية وجرأة سرديتين، أفلاماً “كبرى” لمخرجين أكثر تكريساً، لكن بالتزاحم يجد الفيلم لنفسه، باستحقاق، مكاناً في المسابقة الرسمية للدورة الحادية والثمانين للموسترا.
فيلم اليونانية أثينا راشيل تسانغاري، “حصاد” (Harvest) لا يشبه أياً من أفلام هذه الدورة، والأهم أنه لا يشبه أفلامها السابقة، ذات الطابع الخاص هي بدورها، بطيئة وإيمائية وتأملية، ساخرة وعبثية. ولها أفلام ممتازة منها “أتينبيرغ” (٢٠١١)، و”فارس” (٢٠١٥).
نحن هنا أمام سرد وتصوير فنيين، بالمعنى البعيد للكلمة، بالمعنى المجرّد، وهذا ربما ما جعل القصة تدور في مكان وزمان مجهولين، وهذا ما جعلها، ربما كذلك، تقدم حكاية بدائية للإنسانية يمكن أن تُحكى بالترميز للأطفال. من دون حيوانات لكن بأقنعتها.
في الفيلم قرية وأهلها القليلون، يعيشون بغرابة، بما لا يبعث على أي ثقافة أو مجتمع معلومين. في الجوار قصر وساكنه يتحكم بأهالي القرية، باستعباد، يجبرهم على هجرة قريتهم الصغيرة، ويلاحق راسمَ الخرائط كي يحدد مواقع القرية وما حولها، فيستملكها. البعض يقاوم والبعض ينهزم. هي قصة الإنسان، الهزلية، منذ أول البشرية إلى اليوم.
يبدأ الفيلم بحريق وينتهي بآخر، أحد الأهالي، أحد الجيدين، سينحرف ويتحول إلى خادم عن السيد ومتسيّد على أبناء قريته، أقرب إلى عبد المنزل، في وقت لا حيلة لدى عبيد الحقل سوى الرحيل والنجاة.
الفيلم أقرب إلى أسلوب مسرحي، الأحداث محدودة المواقع، كما هي إطارات الكاميرا، كأنها لوحات ثابتة. ينتاب أحدنا حدس أوّل المشاهدة، في العلاقة ما بين الفيلم ولوحات فان خوخ، مع القصة واللقطات الأولى، والعنوان المأخوذ، بالضرورة، من لوحة لفان خوخ بالعنوان ذاته. إثر المشاهدة يدرك أحدنا أن سلسلة لوحات لفان خوخ كانت مورداً أولياً للرؤية البصرية للفيلم، كأن اللوحاتَ مواقعُ القرية. حتى راسم الخرائط، بأسلوبه الدوائري في النقر والرسم، كان أقرب في شكله لبورتريهات الرسام الهولندي. كآبة فان خوخ وعدميته متوزعة على طول الفيلم، نهايته المأسوية كذلك.
نعرف عن كآبة فان خوخ من أعماله الممتلئة بالغربان، ومن سيرته ونهايته، ومن رسائله المكتوبة إلى أخيه. الكآبة في الفيلم كانت جماعية، في سياقها الحكائي ما بين الخير والشر في أبسط مظاهره، وفي جماليات تصوير من بين الأبرز على طول المهرجان إلى حينه. التراجيديا الواقعية الفان-خوخية كانت هنا ممتدة في التاريخ والجغرافيا والجماعة.
يمكن الخروج من الفيلم بقصة تُحكى للأطفال وفيها عبرٌ ما، ويمكن الخروج بنص ديني أخلاقي، ويمكن البقاء فيه، في الفيلم، بوصفه عملاً فنياً بديعاً حول صراعات إنسانية أزلية/أبدية، في اللامكان واللازمان، أي في كل مكان وكل زمان.