لا تأكل السمك وتشرب اللبن

Paul Klee, Fish Magic, 1925

فرج بيرقدار

شاعر سوري

الأهواز. هكذا أسمتها كتب التاريخ التي قرأناها في مدارسنا، وقد عرّفتها قواميسنا ومراجعنا القديمة، بأنها سبع كُوَر أو كورات "مناطق أو أقاليم"، تقع بين البصرة وفارس، ويتحدَّث ساكنوها اللغةَ العربية.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

11/09/2024

تصوير: اسماء الغول

فرج بيرقدار

شاعر سوري

فرج بيرقدار

من ورطات اللغة العربية، وبالتالي العقل العربي أن الحاكم في اللغة العربية اغتصب الحكمة، واشتق اسمه منها. الحكمة والحاكم في العربية تصدران عن نفس الجذر اللغوي، في حين أنهما في كثير من اللغات كالإنكليزية والفرنسية والصينية والألمانية والروسية والإيطالية والإسبانية، والأندونيسية واليونانية وحتى التركية والفارسية، من جذرين مختلفين تماماً.
 
*   *   *

شغلتني في طفولتي لفظة ” سِياق” التي كنت أسمعها في مناسبات الخطوبة والزواج، من قبيل: فصلوا سياق فلانة بنت فلان على عشرين ليرة ذهبية أو خمسين ألف ليرة أو ريال أو دينار. 

سألت كثيرين عن أصل هذه اللفظة “سِياق أو سياگـ حسب بعض اللهجات”، وكانت الإجابات تأتي دائماً عن معناها وليس عن مبناها وأصلها واشتقاقها. 

لاحقاً عرفت أن مَهْر الفتاة لدى القبائل يكون عدداً من الأنعام أو المواشي، “يسوقها” أهل العريس لأهل العروس. ومن هنا قالوا أن سياق فلانة بلغ كذا ناقة وكذا شاة. هذه اللفظة لا تزال متداولة في البوادي والأرياف. ولكن انتشار التعليم أدخل ألفاظاً أخرى مثل المهر والصداق، أما الصَّدُقة بضم الدال فهي بمعنى الصداق، إلا أنها بقيت لفظة قرآنية لا يتداولها الناس في أحاديثهم العامة كما يتداولون المَهر والصداق والسياق.  

*   *   *

يستخدم بعض الناس فعل “طَحَّلَ” بمعنى تعب وانهدَّ حيله. يقولون مثلاً: طوال المسير وهو في الأول، ولكنه طَحَّلَ في الربع الأخير. الفعل هنا فيه قلب مكاني بين الأحرف مع فعل “طَلَّح”: “طَلَّحَ أو طَلَحَ أو أطلَحَ البَعِيرُ”، بمعنى تَعِبَ مِنَ السَّيْرِ. وعلى هذا النحو أيضاً حدثَ مثلاً القلبُ من “أبله وبلهاء” الفصيحتين إلى “أهبل وهبلاء” اللتين لم تكونا معروفتين أو مستخدمتين قبل العصر العباسي، ولكن من أراد أن ينسب فعل “طحَّل” ومشتقاته إلى تلك اللحمة الرمادية العريضة، المتموضعة في يسار البطن “الطِّحال” فله ذلك. 
*   *   *
موطن الأغنام ومرعاها كان أصلاً في صحارانا، ولهذا فهي حين تثغو تقول “ماء” وليس “ماع” كما يظنُّ كثيرون.
 
أتحدَّث هنا بمنطق الشعر والطرافة، ووفق لغتنا العربية، وبالتالي لا يستقيم تعميمه على باقي اللغات، كما ليس من المعقول وضع ممازحة كهذه في قالب واقعي. 
 
*   *   *

 

الأهواز. هكذا أسمتها كتب التاريخ التي قرأناها في مدارسنا، وقد عرّفتها قواميسنا ومراجعنا القديمة، بأنها سبع كُوَر أو كورات “مناطق أو أقاليم”، تقع بين البصرة وفارس، ويتحدَّث ساكنوها اللغةَ العربية.

وقد ورد اسم الأهواز في إحدى أهجيات جرير للفرزدق بعد أن لجأ إلى “قبيلة بني العم” الأهوازية: 
 

مـا لـلـفـرزدقِ مـنْ عـزّ يـلـوذُ بـهِ     
إلاّ بـَنُـو الـعَـمّ في أيـْديهـِمُ الخَشَبُ
سيروا بني العمَّ فالأهوازُ منزلكمْ 
ونَهْـرُ تِيرَى فَلَـمْ تَعْرِفكُـمُ العـرَبُ
 
أما “عربستان”، و”خوزستان”، فهما تسميتان أطلقهما الفرس على تلك المنطقة. 

 

ولكن لحسن الحظ استيقظتْ مؤخّراً بعض الأنظمة العربية و “دهاة” مؤسساتها ووسائل إعلامها، وأيقظت معها الحقيقة النائمة منذ قرون، أعني حقيقة أن الأهواز هي “الأحواز” كما يسميها أهلها. لقد فات أجدادَنا لقرون أنه يصعب على الفُرْس لفظ الحاء، فيقولون الأهواز بدلاً من الأحواز. والأحواز جمعٌ مفردُهُ «حَوْز» بمعنى الحيازة والتملك. على أية حال أن تستيقظ متأخراً خير من أن تبقى نائماً لقرون إضافية. 

 

*   *   *

 

كان أبي حين يذبح أضحية يتناقش مع أمي بشأن تقسيمها وتوزيعها: صدر الأضحية لبيت فلان وفلان وفلان، والرأس لبيت فلان والرقبة لبيت فلان، ثم يحدِّد بقية الأجزاء كالظهر والفخذين والمعلاق. كنت أفهم المقصود من كل جزء باستثناء “المعلاق”. ذات مرة سألت أبي عما يعنيه المعلاق، فقال: هو هذه الزردومة “القصبة الهوائية” وما يتعلق بها أو عليها من كبد وفشَّة “رئة” وقلب وحواشي. سألتُه ثانية: وما علاقة هذا بقولهم “فلان معلاقه كبير”؟ نهرني والدي وهو يقول: وأنت لشو كِثْر هالغلبة وكِبْر هالمعلاق؟!

 

*   *   *

 

“لا تأكلِ السمكَ وتشربَ اللبن”، قول درسناه في الجامعة كشاهد على اختلاف إعراب الواو ما بين كونها واو المعية أو حرف استئناف أو حرف عطف، إذ حين نعتبر الواو للمعية، فذلك يعني أن النهي هو على الجمع بينهما، أي: لا يكن منك أن تأكل السمك وأن تشرب اللبن في وقت واحد.

 

مع الزمن صارت هذه المسألة اللغوية أشبه بحكمة أو قول مأثور يلتزم الناس به فلا يجمعون في طعامهم بين السمك واللبن.

 

ولكن حين كنا في السجن، فقد اختلفنا بشأن الحقيقة العلمية لهذا القول.

 

حدث ذلك بعد إحدى زيارات الأهالي التي جاءنا فيها سمك، وكان عندنا لبن، فقررتُ تناول السمك مع اللبن غير عابئ بالتحذيرات التي أطلقها الرفاق. في الحقيقة استمتعت بوجبة شهية وأنا مرتاح البال والضمير، في حين أن نظرات الرفاق رجمتني بالعتب والتأنيب والاحتجاج والقلق والإدانة. 

 

وحين تبيّن بعد ساعات أن أموري تسير كساعة سويسرية، بدأت التساؤلات ثم الأسئلة تتناوشني عن يمين وعن شمال مستغربةً كيف يحذِّر فقهاء اللغة من تناولهما معاً ثم أتناولهما وأنا خرّيج لغة عربية، ما يعني أن خطئي عن طاقين لا طاق واحد. 
قلت: 

 

– ينبغي أن تعرفوا يا رفاق أني لم أتناول السمك واللبن، ثم توقفت عن الكلام ورحت أجيل بصري في العيون واختلاف نظراتها.

 

= أخشى أن تقول إنك أكلت سُمَّاناً لا سمكاً!

 

– بل أكلت سمكاً، وإلى جانبه خائراً يا رفيق.. خائراً وليس لبناً. ويجب أن تعرفوا أن الفرق بينهما كبير، فاللبن في لغة أجدادنا هو الحليب، وليس عندي رأي قاطع إن كان اجتماع السمك والحليب خطِر على الجميع، أم على بعض الأجسام دون غيرها، فأنا أعرف أن وجبات بعض الأوروبيين تجمع ما بين السمك والحليب. 
الكاتب: فرج بيرقدار

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع