لم يغوِني، في كل إطلالة تلفزيونية له، شيئاً كالبياض المتفشّي في لحيته، يطلّ فيكثر الشيب ويتكثف، تبيضّ الهيئة والملامح وتزداد هدوءاً ويقيناً، آخرها كان الهدوء وكذلك اليقين، لعالِمٍ بحتفه وقد اقترب، لناظرٍ إليه بعين الرضى. كان مودِّعاً ومتوعِّداً، وقد رأينا اكتمال البياض في لحيته.
لا يملأ السيدُ عباءته وعمامتَه وحسب، ولا ضاحيته ولا جنوبه ولا حزبه ولا بلده. تخطى السيد ذو اللحية البيضاء أفقاً امتدّ من الجنوب اللبناني إلى الجنوب الفلسطيني، أو كما يحب هو ورفاقه القول، امتدّ على طريق القدس. لكنه امتداد مرّ بسوريا، تائهاً عن الطريق الأوّلي مقحِماً ومقتحِماً، قاتلاً ومقتولاً، مبشّعاً في السوريين وفي الحزب وطريقه وطرائقه. لم أنتبه إلى اللحية في طلّاته تلك. لم أكن أريد لا سماع ولا مشاهدة صانع حلم وأمل تأسَّس عليه وعيٌ سياسي وثقافي وفكري لجيل من المشرقيين، كنت من بينهم، في عظمة التحرير للجنوب اللبناني قبل دخوله المتسرّع إلى متاهات اللعبة السياسية اللبنانية، فعظمة المواجهة في حرب لبنان الثانية، قبل دخوله المتسرع إلى متاهات اللعبة الحربية السورية.
استدرك السيدُ أخيراً واستعاد حالة التحريرَين، ٢٠٠٠ و ٢٠٠٦، في العام الأخير وقد نحّي عن الغزيّين ما أمكن أن يفوق الكارثة الإبادية المعاشَة هناك، فتقاسم الجنوبُ اللبناني والجنوبُ البيروتي مع الجنوب الفلسطيني كوارثَه. امتدّ التقاسم ليصل اكتمالَ البياض وقد غطّى على سواد هنا وهناك منذ التحرير الأول، اكتمل لتصير اللحية دخاناً فغيمةً لا تغيب عن سماءات لبنان وفلسطين، ساريةً بينها جيئة وذهاباً. في طريق إلى القدس ومنه، مفتوح للغيوم.
أعود إلى لقطات أرشيفية، له بلحيته الفدائية، بسواد عمامته وغضبه الذي حرَّر كل الجنوب “خاوة”، ثم أعود إلى ابتكاره اسم “حيفا” بحلّة أجمل بوصلها بـ “إلى ما بعد”. أعود إلى مَشاهد وخطابات كانت مكوِّناً أساسياً لوعي معنى الحق والطريق إليه، أعود إلى قرطة الراء لديه، الأكثر فصاحة وإفصاحاً عن الراء وعن اللغة السليمة السالمة لفظاً ومعنى. يتعلم أحدنا من طلّاته ما يقول وكيف يقوله، بالنبرة الهادئة لأبي هادي، بالإحكام والمتانة في الكلام العامي المرتجَل، بالنظرة الصّقرية والحاجبين النسريّين، بالخاتم الكريم في إصبعه، باللحية حسنة التشذيب، وكاد عطرها يفوح عن الشاشة.
لم يبقَ منه سوى اللحية الغيمة، المكتملة في بياضها، الباقية في طهارتها. لم يرحل السيد إلا باكتمالها على محيّاه. لعلّها الآن غيمة لروحه تحوم في سماء البلاد.
لم يبقَ سوى أمنيات مكسورة. ليتك لم تدخل سوريا. ليتك دخلت فلسطين.