«إسرائيل فلسطين على التلفزيون السويدي 1958 – 1989»: سيرة أرشيفية للاحتلال

من الفيلم، معدلة.

شفيق طبارة

ناقد من لبنان

تلعب مدة الفيلم الطويلة دوراً حاسماً في تكوينه، الذي يتبنى أسلوباً وثائقياً يؤكد على العرض بدلاً من السرد، مع التركيز الواضح على السرد البصري. يشجع إخراج أولسون المشاهدين على تفسير الموضوع والتأمل فيه بشروطهم الخاصة،

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

01/10/2024

تصوير: اسماء الغول

شفيق طبارة

ناقد من لبنان

شفيق طبارة

ناقد سينمائي، يكتب في عدة صحف ومجلات عربية، يغطي سنويا عدداً من المهرجانات السينمائية العربية والعالمية. عمل كمدير فني لمهرجان "نورينت" في سويسرا. ويعمل مستشاراً فنياً لعدد من شركات الإنتاج العربية والعالمية. أصبح هذا العام مصوت دولي لجوائز الغولدن غلوب.

خلال مسيرته السينمائية، التي بدأت في التسعينيات، أنجز المخرج السويدي غوران هوغو أولسون بعضاً من أكثر الأفلام الوثائقية إثارة للاهتمام في الألفية الجديدة. أفلام (أخرجها أو أنتجها) “تلخّص” بطريقة ما المعارك الاجتماعية والسياسية العالمية، وتسهم بشكل فعال في التفكير ومناقشة الماضي. فيلمه الطويل الأول عام 1998، “Fuck you, Fuck you Very Much”، يعتبر كلاسيكياً في السويد، عن مغنية الراب السويدية من أصل مغربي ليلى كي (ليلى الخليفي)، والحادثة الشهيرة التي وقعت عام 1996 خلال حفل جوائز غرامي السويدية. فيلمه “The Black Power Mixtape 1967-1975” عام 2011، الذي يجمع الصور التي التقطتها مجموعة من الصحافيين السويديين لتوثيق حركة “القوة السوداء” في الولايات المتحدة، هو موضوع ذو قيمة أرشيفية اجتماعية فريدة وقوية، تماماً مثل “Am I Black Enough for You” عام 2009، و “Concerning Violence” عام 2014، الذي يأخذ كتاب فرانز فانون “معذبو الأرض” (1961) كمرجع، ليحكي عن الحركات القومية والاستقلالية الافريقية في الستينيات والسبعينات. في أفلامه تتداخل مواضيع مثل العنصرية والعنف الاستعماري والتطرف الديني، مع صراع طبقي أبدي، لتحكي قصة أزمنة محددة عبر نكش الارشيف. تتكرر هذه المواضيع في فيلمه الجديد “إسرائيل فلسطين على التلفزيون السويدي 1985-1989″، “Israel Palestine on Swedish TV 1958-1989″، الذي عُرض خارج المسابقة في “مهرجان البندقية السينمائي” الأخير. يشرع المخرج بإخبارنا قصة الصراع العربي الإسرائيلي، ليس من وجهة نظره، ولكن كما نقله التلفزيون السويدي على مدى ثلاثين عاماً.

في تلك الفترة، كان الوجود الإعلامي السويدي كثيفاً على الأراضي الفلسطينية، وكان تلفزيون “SVT”، الذي كان يحتكر الأخبار التلفزيونية في السويد حتى عام 1989، ينقل تقارير وأفلاماً وثائقية من مراسلين على الأرض من فلسطين.

في “إسرائيل فلسطين على التلفزيون السويدي 1985-1989″، يضغط أولسون حولي 5000 ساعة من الأرشيف، ليصنع فيلماً وثائقياً تبلغ مدته ثلاث ساعات ونصف الساعة من اللقطات والبرامج التلفزيونية والتقارير الصحافية الوثائقية وبعضها يُنشر للمرة الأولى. يمنحنا ذلك فكرة عن النظرة السويدية إلى الصراع، وكيفية تقديمها للشعب السويدي، بطريقة تمزج الدين والثقافة والحضارة والأيديولوجيا والحروب والسياسة والمجازر. هناك العشرات من التقارير التي تم إعدادها على مدى عقود من الزمن، بعضها متقارب جداً -عندما تكون هناك مواضيع وأحداث أكثر كثافة لتغطيتها- وبعضها الآخر متباعد وأكثر تنوعاً. يحتوي كل تقرير على بطاقة أرشيفية، تقرأها بيزنيلا أوغست، التي توضح اسم الصحافي صاحب التقرير، واسم التقرير وموضوعه، بدون أي تعليق إضافي على ما ورد فيه. يتضمن الفيلم الحروب المختلفة، صراعات إسرائيل الداخلية والطرق المختلفة للتفكير في للصراع ومحاولة حلّه، والأحداث الأكثر أهمية في تلك العقود الأربعة: الاتفاقيات الدولية (كامب ديفيد، وأوسلو)، وحرب 1984، وحرب الأيام الستة، وحرب يوم الغفران، والحروب مع لبنان، ومراكز تدريب الفدائيين، ومجازر إسرائيل في لبنان وفلسطين، والانتفاضات الفلسطينية، وكيف تغيرت في كل حقبة طريقة تحليل الصراع وطرحه. كما يضمّ مقابلات وشهادات من الشخصيات المركزية في مختلف العصور: ياسر عرفات، ديفيد بن غوريون، غولدا مائير، أنور السادات، غسان كنفاني، هنري كسنجر، موشيه ديان، وبعض الرؤساء والمفاوضين الذين يناقشون مواقفهم المختلفة بشأن هذه القضية.

“إسرائيل فلسطين على التلفزيون السويدي 1985-1989” هو فحص دقيق للطرق المعقدة التي يمكن للصحافة من خلالها الملاحظة والمشاركة. يقدم الوثائقي رؤيته حول الطبيعة المتطورة للصحافة وكيف أثرت على تصورات الجمهور للقضايا العالمية مع مرور الوقت. هناك توضيح في بداية الفيلم مفاده: “لا تخبرنا المواد الارشيفية بالضرورة بما حدث، لكنها تقول الكثير عن كيفية سردها”، وهذا توضيح بأن ما نشاهده ليس فيلماً وثائقياً عن الصراع، بل هو فيلم يجمع كيف تمّ تقديم هذا الصراع والإبلاغ عنه.

يبدأ الفيلم بمقتطفات من فيلم “غيتو غزة” (1984)، للمخرج السويدي بي هولموكويست (يتناول حياة عائلة فلسطينية تعيش في مخيم جباليا)، قبل أن يعود إلى عام 1858، ويقدم ملخصاً حول السنوات التي سبقت النكبة، ويتقدم زمنياً من هناك. إن التقارير القصيرة المبكرة التي يبدأ فيها الفيلم، هي بكل وضوح، دعاية إسرائيلية. يتحدث الراوي في تقرير “إسرائيل أرض العجائب” (1961)، بلهجة متوهجة لا تتزعزع عن كيفية تحويل المشروع الصهيوني أرضاً خاوية إلى دولة حديثة ويقول: “قبل أن يزرع اليهود هذه الأرض، كانت أرضاً من الجبال والتلال العارية. أرض محروقة ويأس وبؤس وتسول”. التقارير من تلك المرحلة، مثالية تماماً بشأن مستقبل إسرائيل كدولة مزدهرة وعالمية بدون صراعات كبرى مع جيرانها. لا يوجد ذكر للفلسطينيين في تلك المرحلة، ولا للنكبة والمذابح التي قتلتهم وطردتهم من ديارهم. هذه التقارير تتحدث فقط قصة هذا المكان السماوي حيث لا شيء خاطئاً. نرى تقريراً آخر، حول الحياة الاجتماعية في “إسرائيل”، حيث كل شيء متوافر بأسعار رخيصة في المتاجر، وكيف أنّ الطبابة والمستشفيات مجانية. تقارير هذه الفترة، تعكس أيضاً رؤية السويد والمجتمع الدولي لما يحصل في فلسطين. خلال أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، كان التلفزيون السويدي لا يزال في مهده، تم الاعتراف بدولة إسرائيل قبل عقد من الزمن، وكان جزء كبير من السرد العالمي المحيط بإسرائيل لا يزال يتشكل في أعقاب الحرب العالمية الثانية والمحرقة. من المرجح أن تعكس التغطية السويدية المبكرة موقفاً متعاطفاً إلى حد ما تجاه إسرائيل، مما يعكس وجهات نظر غربية أوسع في ذلك الوقت. لم تكن القضية الفلسطينية، في هذه المرحلة، بارزة في وسائل الإعلام العالمية. كان الصراع يُؤطر غالباً من خلال عدسة بقاء إسرائيل في منطقة معادية، خصوصاً بعد أزمة السويس (1956)، التي عززت الدعم الغربي لإسرائيل. كانت التغطية التلفزيونية السويدية في تلك السنوات منحازة لصالح إسرائيل، مما يعكس مشاعر ما بعد الهولوكوست والدعم الغربي الأوسع لإسرائيل. إن الرواية الفلسطينية كانت ممثلة بشكل ناقص أو مبسطة بشكل مفرط، حيث لم يكن الوعي العالمي بالنزوح الفلسطيني قد تطور بشكل كامل بعد.

تغير كل شيء بعد حرب الأيام الستة (1967) التي يقدمها الفيلم من خلال التقارير التلفزيونية لاعتبارها اللحظة التي توقفت إسرائيل عن أن تُرى كضحية وبدأت تُرى كجلّاد من قبل كثيرين. تغيرت النبرة وأصبحت وجهات النظر أكثر نقديةً، حتى إنّ التلفزيون السويدي أعطى مساحة للعديد من المحللين الإسرائيليين لانتقاد القرارات السياسية لبلادهم في تلك المرحلة وبعدها. يعيد تقرير “شباب في إسرائيل” (1976)، خلق التنافر التي بنيت عليه إسرائيل. يشرح الصحافي أن إسرائيل يجب أن تنفق 40% من ميزانيتها الوطنية على جيشها. ثم فجأة ينتقل الفيلم إلى تقرير “على برميل بارود” وإلى ملهى ليلي حيث يرقص الشباب الإسرائيليون. بعض التقارير بدأت بنقل تململ المهاجرين اليهود الشباب، عندما أدركوا أنّه بمجرد وصولهم إلى إسرائيل، يتوجهون بسرعة إلى المعسكرات للانضمام إلى الجيش. كما ألقت بعض التقارير الأخرى الضوء على الفصل العنصري داخل “إسرائيل” وكيفية معاملتها لليهود العرب والافارقة مقارنة بتعاملها مع اليهود الأوروبيين. يُظهر الوثائقي، حياة اليهود العرب وطريقة عيشهم على هوامش الدولة، كما يعرج على حياة البدو العرب اليهود. والأكثر إثارة للاهتمام هو تقرير حول “الفهود السود” وهي حركة اجتماعية وسياسية تأسست عام 1971، من قبل مجموعة من اليهود من أصول شرقية، خصوصاً اليهود المغاربة. تأسست الحركة كرد فعل على التمييز والعنصرية التي واجهتها هذه الفئة من المجتمع الإسرائيلي من قبل النخب الاشكنازية. وفي برنامج “المبارزة” الذي عُرض على التلفزيون عام 1964، يناقش السفير جونار هاجلوف الأستاذ هربرت تينجستن حول الظروف التي يواجهها اللاجئون العرب (ولا يزال لا يوجد ذكر لكلمة “فلسطيني”)، وهنا يبدو هاجلوف أول سويدي بارز يتحدث على شاشة التلفزيون عن النكبة: “ما أرعب هؤلاء العرب، الذين كان معظمهم من المزارعين، هو الإرهاب الوحشي. المذبحة التي اقترفتها المنظمة الإرهابية اليهودية عندما أبادت عملياً السكان العرب في قرية تسمى دير ياسين في 9 أبريل 1948”.

في عام 1972، يتحدث شاب سويدي إلى أحد المراسلين السويديين بعد “عملية ميونيخ” قائلاً: “كما ترون، هناك رجال يجرؤون على العمل، والتضحية بحياتهم… إذا نظرت إلى الأمر من وجهة نظر فلسطينية، فهذا أمر جيد”. ويتابع رجل آخر أكبر سناً: “من الجيد أنهم يضعون نهاية لبؤسهم”. ثم يعرض الوثائقي تقريراً بعنوان “إلى أين يتجه أطفال إسرائيل؟” يحتوي على مقابلات مع الأكاديمي الإسرائيلي إسرائيل شاهاك، الذي يقارن غولدا مائير بالنازيين، ويعلن أن “مجتمعنا يخضع لعملية تحول إلى النازية”. يأسف شاهاك بشأن خطاب مائير حول معدلات المواليد الفلسطينيين مقارنة بمعدلات المواليد الإسرائيليين، ويقول إنه اشبه بالخطاب النازي، وأنه إذا لم يتم التحكم فيه، فقد يضع بلاده على مسار مماثل. وفي تقرير لاحق، تكرر مائير الخطاب نفسه، وفي لحظة أخرى، يقول بن غوريون شيئاً مشابهاً.

من خلال الفيلم، نلاحظ كيف تغيرت لهجة التقارير، خصوصاً في ظل التحولات الكبيرة التي شهدها الصراع والاهتمام الدولي المتزايد بهذه القضية. بعد احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية والعربية، بدأت تظهر على التلفزيون روايات عن انتهاكات حقوق الإنسان، والسياسات الاستيطانية، والتضييق على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. هذه الممارسات تركت أثرها على النظرة الغربية، بما فيها السويدية، تجاه إسرائيل التي بدأت تُصور بشكل متزايد كقوة احتلال، وليس فقط كدولة تبحث عن الأمن. كما أن صعود منظمة التحرير الفلسطينية وزيادة ظهور القيادات الفلسطينية في المحافل الدولية، أثّر في تغطية الإعلام السويدي والعالمي. هذه الحركة قدمت رواية مختلفة عن الصراع، وركزت على حقوق الفلسطينيين في تقرير المصير والعودة، مما أسهم في تغيير منظور الإعلام والجمهور السويدي. وأيضاً، دفعت العمليات الفدائية التي قامت بها الفصائل الفلسطينية، الاعلام السويدي إلى تغطية الصراع من جوانب متعددة. في السبعينيات والثمانينيات، شهدت السويد، كغيرها من الدول الأوروبية، صعود الحركات اليسارية والمنظمات المناصرة لحقوق الإنسان التي كانت تنتقد الاحتلال الإسرائيلي والسياسات الاستيطانية. هذه الحركات كانت لها دور كبير في التأثير على الرأي العام والضغط على الإعلام لتبني تغطية أكثر توازناً أو حتى ناقدة للسياسات الإسرائيلية. في الثمانينيات، خصوصاً بعد تولي أولوف بالمه رئاسة الحكومة، تبنت السويد مواقف أكثر نقديةً لإسرائيل، داعمة بشكل واضح لحقوق الفلسطينيين.

يذكر أنّ السويد اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي للشعب الفلسطيني في عام 1974، وهو ما اعتُبر خطوةً كبيرة في تغيير الموقف السويدي نحو دعم حقوق الفلسطينيين بشكل أكثر وضوحاً. الأفلام الوثائقية والتقارير الاستقصائية التي يعرضها الفيلم، بدأت تتناول الحياة اليومية للفلسطينيين تحت الاحتلال، والانتهاكات، والمستوطنات، ولعبت دوراً مهماً في تغيير السردية. هذه النوعية من التغطية أظهرت جوانب من الصراع كانت غائبة أو غير مغطاة بشكل كافٍ من قبل الإعلام التقليدي في الفترة الأولى. كما أن في السويد، كما في بقية أوروبا، شهدت الجامعات والمؤسسات الاكاديمية اهتماماً متزايداً بالدراسات الشرق أوسطية والدراسات المتعلقة بالنزاع الفلسطيني الإسرائيلي. هذا أسهم في إثراء المناقشات العامة والمواقف الإعلامية حول الصراع، مما أتاح تغطية أكثر شمولاً ومعرفة بالجوانب التاريخية والسياسية والإنسانية. وكان فشل وسائل الاعلام السويدية في تسمية فلسطين أو شعبها بشكل مباشر حتى حرب 1976، كاشفاً، مثل التأمل الكئيب لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، في مقابلة معه في الفيلم، حول سبب عدم تقديم الجمهور السويدي نفس المستوى من الدعم للفلسطينيين كما فعلوا مع الفيتناميين، ويقينه بأن التلفزيون السويدي سوف يقف معهم.

“نحن جميعاً أذكياء بما يكفي لنعرف بأنّ هذه ليست الحقيقة الكاملة، لكنها ليست كذبة ايضاً” يقول المخرج في أحد المقابلات. كان الصحافيون السويديون، كما لاحظنا في الفيلم مستقلين بفخر ولكنهم كانوا ايضاً متواضعين للغاية، وربما ساذجين بعض الأحيان، وكان الجمهور السويدي يكتشف معهم ما يجري، فطرحوا الأسئلة الواضحة: “مرحباً… ما الذي تقاتل من أجله؟”. في حين أن السرديات في التقارير المقدمة في الفيلم تتغير بمرور الوقت، إلا أنها غالباً ما تكون في تناقض صارخ واحداً تلو آخر. في كثير من الأحيان، تكون محنة الفلسطينيين واضحة تماماً ويتم سرد قصتهم بوضوح لا يتزعزع، وتتميز بمقابلات مع القادة وكذلك الأشخاص العاديين، وأحياناً حتى الأطفال. ولكن بعد لحظات قليلة، يظهر تقرير آخر يتجاهل هذا المنظور ويدعم وجهة النظر الإسرائيلية. وفي بعض التقارير، يشار إلى الفلسطينيين باعتبارهم إرهابيين. وفي تقارير أخرى، يتم تقديمهم كمقاتلين من أجل الحرية، حيث مُنح أولئك الذين يحملون البنادق وندوب المعركة الفرصة لشرح وجهة نظرهم أثناء الصراع. هذا التناقض يجعل الفيلم أكثر ثراءً، حيث أن الصحافيين حتى إن حاولوا الظهور على أنهم محايدون، إلا أن كل واحد منهم لديه تحيزاً ولو صغيراً لكلا الجانبين.

في التقارير الذي جمعها المخرج غوران هوغو أولسون لفيلمه “إسرائيل فلسطين على التلفزيون السويدي 1985-1989″، ما يظهر هو أولاً وقبل أي شيء، هو الجهد المهني للصحافيين لمدة ثلاثين عاماً، وفي الوقت نفسه، التحول الجذري لهذا السرد نفسه. إن طبيعية هذا الفيلم تجعله سجلاً تاريخياً بالغ الأهمية لأي شخص يبحث عن مكانه القوة داخل وسائل الاعلام وكيف تغير التاريخ. يرسم الوثائقي صورة مفصلة لما حدث في الماضي. كما يرفع أولسون الفيلم الوثائقي إلى ما هو أبعد من السرد المباشر لخلق انعكاس مقنع على الصحافة باعتبارها تسجيلاً للتاريخ. هذا المستوى من التفاصيل والرغبة في إظهار جانبي القصة يسمح للفيلم بالبقاء تصويراً معقداً يتحدى المشاهدين للنظر في تناقضات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ولا يلجأ إلى التبسيط المفرط من خلال تقديم حلول مثل معظم وسائل الإعلام المهيمنة. إن نقطة التلفزيون السويدي كعدسة للنظر إلى الصراع بهذه الطريقة فريدة من نوعها وتساعد في توسيع فهمنا لوسائل الإعلام والصراعات. وهذا يذكرنا بالتأثير القوي الذي تخلفه وسائل الإعلام على الطريقة التي نرى بها العالم. يعلم الفيلم المشاهدين ويحثهم على التفكير بعناية في المعلومات التي يتلقونها ومصادرها، كما قيل في بداية فيلم، فإن المواد الأرشيفية ليست الحقيقة، بل هي ببساطة حقيقة ما تم تقديمه.

تلعب مدة الفيلم الطويلة دوراً حاسماً في تكوينه، الذي يتبنى أسلوباً وثائقياً يؤكد على العرض بدلاً من السرد، مع التركيز الواضح على السرد البصري. يشجع إخراج أولسون المشاهدين على تفسير الموضوع والتأمل فيه بشروطهم الخاصة، مما يضع الثقة في قوة الأدلة البصرية وطريقة تحرير المواد الارشيفية لنقل تعقيد الأحداث وقدرة الجمهور على استيعاب الأمر من دون أن يتم إطعامهم يدوياً من قبل الخبراء أو المؤرخين أو أولسون نفسه. إن الافتقار المتعمد إلى السرد الصريح يسمح للجمهور بتجربة تصوير وسائل الإعلام للصراع الإسرائيلي الفلسطيني بشكل مباشر.

يقدم أولسون رسالة واضحة من خلال فيلمه تشير إلى السلام أو على الأقل التفاهم، كما كان الصحافيون وقتها يحاولون بناء مفردات محايدة. يعكس “إسرائيل فلسطين على التلفزيون السويدي 1985-1989″، وقتاً كان الصراع يتطور فيه بسرعة وكانت الروايات الإعلامية متأثرة بالسياسات العالمية والإقليمية المتطورة، فضلاً عن وجهات نظر السياسة الخارجية السويدية. إن نهج أولسون الذي يتسم بعدم التدخل نسبياً في الفيلم، يعمل بشكل واضح، فاللقطات الأرشيفية قوية بما يكفي للتحدث عن نفسها عشر مرات. بعض المواقف تلائم ما يريد أولسون قوله، أو نواياه في الفيلم. فقد بدأ في صنع الفيلم قبل أربع سنوات، ويقول إن الأحداث الحالية (الإبادة الجماعية في غزة)، كانت الدافع الوحيد له لإنهائه في وقت أقرب. إن خاتمة الفيلم، والدافع لإنهائه اليوم، هو بسبب دعوة المخرج للسلام. أنهي أولسون فيلمه بالمصافحة بين عرفات وإسحاق رابين، وبكلمات رابين قائلاً: “كفى من الدماء والدموع. كفى”. من الواضح أن أولسون رأى شيئاً ذات مغزى في هذه الكلمات لينهي فيها فيلمه، لكنّ تصوير رابين كصانع سلام أمر مثير للسخرية، لقد قال رابين قبل عام واحد من الاتفاقيات: “أتمنى لو استيقظ ذات يوم لأجد غزة قد ابتلعها البحر”.

الكاتب: شفيق طبارة

هوامش

موضوعات

...للكاتب/ة

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع