لم تتشكّل علاقتي بمجلة رمّان الثقافية، التي بدأت منذ أول مقال نشرته عبرها مصادفة، إلّا أنها كذلك لم تكن مقصودة أو مخطط لها. كنتُ أبحث عن مساحةٍ ما يمكن أن تكون فرصة وملاذًا؛ فرصة تقدمني خطوة تجاه الكتابة والبحث والتفكير والتأمل والانخراط في قضايا كثيرة في الفضائين العام والخاص، وملاذ يمكنني أن أركن إليه لقراءة تتقاطع مع ما أطمح إلى قراءته: قراءة في مواد معمقة وفلسطينية وناضجة، وبعيدة عن كل تلك الخطابات الاستهلاكية والمتشنجة التي لا تتجاوز حدود أجساد من كتبها.
ولا أعرف تمامًا كيف حدثت تلك المصادفة المقصودة -إن صح التعبير- التي جعلتني ألتقي برمّان الثقافية للمرة الأولى في نوفمبر من عام 2020، كان ذلك بترشيح أحد الأصدقاء الذي ذكرها في معرض الحديث عن مجموعة من المجلات الإلكترونية الثقافية الفلسطينية، وظلَّ الاسم عالقًا إلى جوار غيره من الأسماء، إلّا أنني وجدتني أغرق كمن وجد ضالّته في تبويبات المجلة وزواياها، وما فيها من مقالات. قراءة أخذتني برفق وتدفق من مادة إلى أخرى، وأثارت حفيظتي بقوة تجاه الكتابة، ومن ثم المشاركة، وصولًا إلى ما يشبه الانتماء والالتزام.
بدايات كأنها البارحة
لم أكن أمتلك رصيدًا واسعًا من المقالات والمواد المنشورة التي يمكن أن تقدّمني إلى محرر المجلة بصورة لائقة. كنتُ في ذلك الوقت لا أزال أمارس -على استحياء- فعل الكتابة المقالية الأكثر مهنية ورزانة. كنتُ قد غرقت في مراهقتي في الكثير من الكتابات الانطباعية والسطحية التي كانت كلها في إطار عام من التجريب الجنيني ومحاولات الاستعراض التي تحركها الرغبة في الظهور ربما، أو إثبات شيء ما لا أستطيع تحديده تمامًا. ثم غرقت في كتابة الشعر، التي لازمتني أوقاتًا طويلة أيضًا، ووجدتُ فيها ما يُشبِع على نحو جيد رغبات مكبوتة تجاه أسئلة الذات والوجود والمحيط والآخر.
من الشعر تحركت رغبتي مجددًا تجاه كتابة المقال، التي كانت قد تطورت وشهدت تحولًا مهمًا في ما يتعلق بالقدرة على المعالجة والطرح. إلّا أنني، وعلى الرغم من ذلك، لم أكن في حينها أمتلك إلّا رصيدًا زهيدًا من المقالات التي يمكن لي الاعتراف بها. ولذا اعتقدتُ -وكنت مخطئًا- أنه ربما لا يمكن لمنصة بحجم مجلة رمّان الثقافية ومقروئيتها أن تُجري تجربة مع كاتب لا يمتلك رصيدًا جيدًا من المقالات، ولم يسبق له أن نشر إلّا في الزهيد من المنصات المحلية. إلّا أن البداية مع رمّان، التي لا أزال أتذكرها كأنها البارحة، أزالت على نحو كاشف كل ذلك الاعتقاد.
كنتُ قد مكثت ثلاثة أيام أكتب مادة كانت تشبه إلى حد ما ورقة بحثية بسيطة، متنقلًا في المكتبة بين الكتب، إلى أن نضجت المَادة إلى الحد الذي جعلني مطمئنًا بعض الشيء من أنها يمكن أن تقدمني إلى المجلة، متجاوزةً ضعف رصيد المقالات المكتوبة. وحدث ذلك فعلًا، ففي البداية قدمتُ مجموعة من الأفكار التي تتضمنها المادة، محاولًا قياس مدى استعداد المجلة لنشرها، وجاء الترحيب، ومن ثم أرسلتُ المادة بالفعل، وانتظرت كما ينتظر أحدهم خبرًا ما.
حين رأيت للمرة الأولى المادة منشورة عبر المجلة، شعرتُ بذلك الفرح الأصيل الذي لا أشعر به عادةً إلا بعد الانتهاء من إنجاز مادة مكتوبة. هناك الكثير من الأشياء التي من الممكن أن تثير الفرح، لكني لا أجد في الحياة ما يشعرني بفرح أصيل وعميق وحقيقي أكثر من تلك اللحظة التي أنتهي فيها من إنجاز مادة مكتوبة، ولا سيما نشرها الذي هو تركيز في الشعور بذلك الفرح الجوهري والعميق. فالنشر بالنسبة لي ليس فقط اعترافًا من الجهة الناشرة بجدوى المكتوب وقيمته فحسب، بل هو أيضًا فرصة لقتل تردد الكاتب العميق تجاهه.
كنتُ أعتقد -ولا أزال- أنني من تلك الفئة من الكتّاب الذين يُداهمهم الشك تجاه كل ما يكتبونه. أشعر لساعاتٍ فقط بحيوية ما أنتجه، ثم ما تلبث الشكوك تتوارد إلى ذهني في جدواه ومعناه وقيمته. ولذا يُعطي النشر في مجلة موثوقة ومقروءة مثل مجلة رمّان الثقافية الفرصة لصدّ كل تلك الشكوك التي تكون أحيانًا، وخاصة إن تعاظمت، غير صحية. هكذا انطلقت علاقتي برمّان. سيتبع تلك المادة الكثير من المواد الأخرى، وسأشعر في كل مرة بذات المشاعر المتمازجة ما بين الفرح الأصيل والرهبة والفخر مع كل عنوان جديد يُضاف إلى رصيد العناوين التي أنشرها عبرها.
مسار للتعلّم والمحاولة والتجريب
لم تقتصر العلاقة مع رمّان الثقافية على ذلك المستوى الذي يربط عادةً الكتّاب بالناشرين؛ تلك العلاقة التي تقوم على مشاركة المواد التي يرغب الكتّاب في كتابتها في الوقت الذي تتوفر لديهم فيه فرص إنجازها، بل كانت علاقة تقوم على محاولة الإنتاج المشترك والتفكير المشترك في مساحة واسعة تتيح الكثير من فرص التعلّم والتجريب، وبالتأكيد الإنتاج.
والآن، وبعد كل تلك الشهور والسنوات، حين أفكر في كل تلك الفرص التي قدمتها المجلة في دعوتي للكتابة عن كتابٍ ما أو فيلمٍ ما أو كاتب أو حالة فلسطينية معينة، أستطيع أن أدرك حجم المعرفة والمعاني التي وفّرتها تلك المحاولة للكتابة. في الكثير من الأحيان، حين تدعوني المجلة للكتابة في مجالٍ ما، تتملكني مشاعر متضاربة ما بين الرغبة في أن يكون لي إسهام في ذلك المجال، والتخوف من أن لا يكون ذلك الإسهام ذا قيمة أو مفيدًا. ووحدها التجربة والمحاولة من تجيب عن تلك الأسئلة وتبرهن كل تلك المشاعر، وتعطيها معنًى في جسم المادة التي أتمكن من إنجازها.
وبذات الطريقة، وفي هذا المسار الممتد من المجاورة والحوار مع رمّان الثقافية، تعرفت عن قرب، وفي مساحات غير مرئية، على كتّاب فلسطينيين أعرفهم، وعلى كتب نوعية في الاجتماع والفن والتاريخ والأدب، وشاهدت العديد من الأفلام التسجيلية الفلسطينية والعربية وكتبت عنها. وتراكمت في خضمّ هذا المسار من التعلّم والمحاولة والتجريب مواد كثيرة منشورة، قرأها الكثيرون في مناطق مختلفة، وعلّق عليها أصدقاء كثر في مناسبات جمعتني بهم، ودارت بسببها معي العديد من جلسات الحوار والنقاش مع قرّاء يريدون أن يعرفوا أكثر، أو أن يطرحوا سؤالًا ما. إنها فرصة نمو حقيقية، ومعرفة تنمو وتتسع، وعلاقة جذرية مع الجسم الذي يخلق، بصورة مقصودة أو غير مقصودة، كل ذلك المناخ المُحرّض على الفعل والإنتاج والتعلّم.
المسير نحو آفاق أكثر رحابة
يخلق الاشتباك مع رمّان الثقافية فرصًا لنسج مجموعة من العلاقات المعرفية والإنسانية مع مجتمعها من القرّاء والكُتّاب؛ حالة متّصلة من التلاقي الثقافي والإنساني الذي تحرّكه القراءة بصورة أساسية، وبهذا يتحول فعل القراءة والإنتاج إلى مساحة متوسطة نلتقي بها، ومنها تتسع إلى ذلك الفضاء المعرفي والإنساني الرحب.
الآن، وبعد كل هذه الشهور منذ بداية علاقتي بمجلة رمّان الثقافية، أنظر إلى كل تلك العلاقات الإنسانية التي أفرزتها رمّان مع كُتّاب وقرّاء لم أكن أعرفهم، والتي جمعتني بهم عبر فضاء رمّان بواسطة حواراتها أو في فضاءات أخرى خاصة وعامة، فرص الحوار والتلاقي والاشتباك والحديث والمعرفة الحقيقية والمشتركة حول فلسطين. سنوات تواصل فيها رمّان سيرها للكتابة عن فلسطين ولها، وعلى ضفاف هذا المسير تحدث كل تلك النقاط المضيئة في هذه الفضاءات العامة والخاصة، والتي أراها بوضوح في فضائي الخاص كلما استعرضت المواد التي كتبتها في هذا المكان المضيء، وفي كل مرة يحدثني أحدهم عن مقتطف أو فكرة أو اقتباس من مقال من تلك المقالات المنشورة عبر هذا الفضاء، أو في وجوه كل هؤلاء الأصدقاء الذين عثرتُ عليهم في هذه الطريق الوعرة إلى فلسطين.